لا ينام الجميع سعداء في الشرق الأوسط، هذه حقيقة بديهية، بل وتاريخية، ولكن لو أردنا لها مثالاً آنيًا؛ سوف نتكلم عن الرياض، عندما سمعت بزيارة رئيس الوزراء التركي، أحمد داوود أوغلو إلى طهران، والتي شهدت قدرًا من الحميمية ما يمكن أن يثير الغيرة في قلب الصخر الجلمود، فما الحال مع “حبيب” ظن أنه المقرب؟!
خمسة عشرة مليار دولار هي ما جذبت أوغلو إلى طهران، ومهما قيل عن الاعتبارات السياسية والأمنية التي دفعت إلى الزيارة فإنه تبقى حقيقة مهمة، وهي أن المصالح الاقتصادية، بالذات في أوقات الأزمات، هي واحدة من أهم محركات الحكومات الرشيدة.
ومن نافلة القول، أو من المعروف من السياسة بالضرورة، أن تركيا تمر في الوقت الراهن بأزمة سياسية وأمنية مستحكمة تمس أمنها القومي، حتى في أبسط صوره، وهو وحدة أراضيها الترابية، مع عزلة إقليمية متنامية، بعد التدخل الروسي في سوريا قبل بضعة أشهر.
ولربما تُعتبر الحكومة التركية من بين الحكومات النادرة في العالم العربي والإسلامي التي تتحرك من منظور إستراتيجي، لا يتوقف أمام الأزمات وإنما يبحث عن حلول لها من منظور المصالح الحيوية التركية ومصالح الأمن القومي للبلاد.
وعندما استحكمت حلقات الحصار الذي فرضته مستجدات السياسة الإقليمية والدولية، وشارك فيه حلفاء قدامى لتركيا، وعلى رأسهم الولايات المتحدة؛ بدأت الحكومة التركية في تحركات مضادة، تخرج بها أنقرة من مجالها الحيوي القريب إلى مجالات حيوية أخرى أبعد، تحقق فيها تركيا مكاسب سياسية واقتصادية وإستراتيجية عدة.
سياق الزيارة
أولاً يجب توضيح طبيعة مشاركة الولايات المتحدة والغرب في محاصرة تركيا؛ لأن الصورة المتداولة إعلاميًا أن روسيا هي المسؤولة عن هذه الحالة، ولكن في حقيقة الأمر فإن القصة غير ذلك.
لقد دعم الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة، عزلة تركيا، وهددوا أمنها القومي بصورة أخطر بكثير مما فعلته روسيا، بل ربما أهداف روسيا إزاء تركيا أقل وطأة وخطورة من مخططات الغرب؛ حيث إن كل ما ترغبه موسكو من تركيا، هو الخروج من الملعب السوري، ووقف دعمها للمعارضة السورية المسلحة، بينما تركيا في مخطط الفوضى الهدامة الموضوع للشرق الأوسط، وبشرت به سوداء الوجه والقلب، كوندوليزا رايس، قبل أكثر من 10 سنوات، هي عبارة عن “كيان مركزي” ينبغي تفكيكه ضمن مخطط تفكيك الكيانات المركزية في المنطقة، والتي تشمل العراق، سوريا، السعودية، مصر، ليبيا، الجزائر، والسودان تحديدًا.
والمتأمل في السلوك الروسي والغربي بشكل مقارن سوف يكتشف ذلك؛ فروسيا اكتفت بوقف تركيا لتدخلها العسكري الجوي فوق سوريا، وسعت بوسائل عسكرية لم تمس تركيا بشكل مباشر إلى منع أنقرة من مباشَرة دعمها العسكري على الأرض للمعارضة السورية المسلحة، عن طريق تدعيم حلفاء موسكو على الأرض في سوريا نفسها.
لكن روسيا، حتى بعد أزمة “السوخوي – 34” قبل عدة أشهر، لم تلجأ إلى إجراءات تهدد الأمن القومي التركي في مقتل، مثل وقف إمدادات الغاز، أو الإيعاز إلى إيران المجاورة للقيام بذلك، وحافظت على مستوى من العلاقات الاقتصادية المعتبر مع تركيا.
أما السلوك الأمريكي والغربي تجاه تركيا، فقد كان في حقيقة الأمر، أشد خطورة على الأمن القومي التركي من أكثر من زاوية؛ الزاوية الأولى، هو فرض رؤية غربية على تركيا في أزمة اللاجئين السوريين، تعتمد على “حشرهم” في تركيا، بكل ما يعنيه ذلك من مخاطر أمنية، وأعباء اقتصادية، من دون تقديم أي دعم فني أو مالي، وحتى المليارات الثلاثة التي تعهد بها الاتحاد الأوروبي بعد أزمة السوخوي مع روسيا لدعم الموقف التركي في موضوع اللاجئين لم يتم الوفاء بها.
كما لم يستجب الأوروبيون ولا الأمريكيون للمطالب التركية بإقامة مخيمات مؤقتة للاجئين السوريين في مناطق أمنية آمنة في شمال سوريا، باعتبار أن ذلك وجه آخر للمطلب التركي العتيد بإقامة منطقة آمنة في شمال سوريا، وهو ما يرفضه الأمريكيون بمنطق لا يمكن تفهمه، إلا لو وضعنا في الاعتبار أن الأمريكيين يرغبون في إطالة أمد الأزمة السورية حتى تحقيق أهدافهم في المنطقة منها، وإلا فلماذا يمنعون حلفاء المعارضة السورية في المنطقة من تزويدها بسلاح فعال ومؤثر يستطيع تهديد طيران النظام السوري، ويوقف بعضًا من جرائمه؟! وبالتالي؛ فقد ظل ملف اللاجئين السوريين في تركيا من بين أشد الأمور التي تؤرق القادة الأتراك، إلا أن الزاوية الثانية للتهديد الذي مثلته السياسات الغربية في الأزمة السورية للأمن القومي التركي، هو الأخطر، وهو ملف الأكراد.
ساعد الأمريكيون قوات سوريا الديمقراطية، التي يشارك فيها الأكراد أكثر من غيرهم؛ حيث أدى ذلك إلى تواجد كردي كثيف، حتى في مناطق غرب الفرات التي تعتبرها تركيا حرمًا آمنًا من الأكراد، وليس لقوات سوريا الديمقراطية فحسب وإنما لقوات الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، الذي هو الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني الذي يقاتل في جنوب شرق تركيا للانفصال!
ولذلك صار انتقال الجيش التركي إلى مناطق التخوم المجاورة لسوريا أمرًا محفوفًا بالمخاطر، وسمح ذلك بتهديد الأكراد لقوافل الجيش التركي المتجهة إلى هناك، وفرض شكل من أشكال الحكم الذاتي في بعض المناطق بحكم الأمر الواقع.
حال ذلك ليس دون تنفيذ تركيا لمشروع المنطقة العازلة شمال سوريا، بل وعزل تركيا نفسها عن بعض أراضيها وعن سوريا، بحيث لا تستطيع تركيا الآن إدخال الدعم لجماعات المعارضة السورية المسلحة إلا من نقطتين في شمال حلب، وهي نقاط من السهل على الروس التقاط أية تحركات فيها، ورفعها إلى مجلس الأمن الدولي، وممارسة شكل من أشكال الابتزاز والتشهير بالحكومة التركية.
أدرك الأتراك ذلك، فكانت سلسلة من الإجراءات التي تنم عن إدراك تركي أن التهديدات الرئيسية لا تأتي من الشرق وحده، بل من الغرب، فكانت أن بدأت مجموعة من الإجراءات من أجل تحسين تواجدها خارج حدودها عبر الإقليم، بعد انسداد الأفق الأوروبي والمشرقي القريب.
فكان أولاً التوجه نحو أفريقيا؛ حيث قام الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بأكثر من جولة، كان آخرها جولته التي قام بها خلال الفترة من 28 فبراير إلى 3 مارس، وشملت كوت ديفوار، غانا، نيجيريا، وغينيا، واصطحب فيها ما يقرب من 150 رجل أعمال، باعتبار أن القارة السمراء صارت “منقذًا لتركيا” – بحسب تعبير صحيفة “الكريستيان ساينس مونيتور” الأمريكية – بعد فقدانها لأسواقها في الشرط الأوسط وروسيا.
ونقلت المونيتور عن عمر فاردان، رئيس مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي، قال إن تركيا تدخل منافسة ساخنة على الأسواق الأفريقية مع كل من الصين والولايات المتحدة والدول الأوروبية، وتفسير ذلك سياسي أيضًا؛ حيث إن نجاح تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا قام على أكتاف الإنجاز الاقتصادي والتنموي غير المسبوق – بكل ما في الكلمة من محتوى موضوعي يستند على أرقام حقيقية – الذي حققه الحزب، ونقل تركيا من دولة مديونة تعاني من أكبر نسبة تضخم في العالم، إلى مصاف الدول العشرين صاحبة أكبر الاقتصاديات في العالم.
ويعتبر المخططون الإستراتيجيون في الحزب وداخل حكومته، أن الأوضاع الراهنة كما هي خطرة في تهديدها للأمن القومي التركي في وحدة تراب أراضي البلاد وفي الجانب الأمني، فإنها كذلك خطرة في تهديدها لدرة تاج تجربة الحزب، وهو الإنجاز الاقتصادي والتنموي.
ثم جاءت زيارة رئيس الوزراء التركي، أحمد داوود أوغلو، المفاجئة بالفعل، وفق مراقبين عدة، لكي تطرح بعض الأسئلة حول سياقاتها الأخرى.
أخبار سيئة للرياض
قد تكون مفاجئة، ولكن أكثر من ذلك، أنها مستغربة؛ حيث جاءت على عكس اتجاهات الريح التركية في الوقت الراهن، والتي كانت تحمل شعارًا رئيسيًا، وهو سوريا، وتهب من اتجاه رئيسي، وهو الرياض.
منذ أشهر عدة، ارتبطت تركيا الإقليمية، في جانب كبير منها، بالرياض، في ظل كون تركيا أحد الأضلاع المهمة للغاية في منظومة تحالفات فاشلة أرادت الرياض بناءها في المنطقة في إطار صراعها مع إيران، وأذرعها الإقليمية، ولقد بذلت الرياض الكثير من الجهد لأجل تحقيق مصالحات بين القاهرة وكل من الإخوان المسلمين وأنقرة التي تدعمهم، من أجل تنسيق أكبر تحالف “سني” ممكن في مواجهة إيران.
ووصل مستوى التنسيق مع تركيا في الملف السوري إلى درجة الحديث عن غرفة عمليات مشتركة يجري تشكيلها لخوض معارك برية في سوريا، ومنذ أيام قليلة، حطت طائرات مقاتلة سعودية، رحالها في قاعدة “أنجرليك” لكي تشارك في عمليات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش.
ولكن بدا أن الحكومة التركية بالفعل تملك قرارها، فلم تستجب للمطالب السعودية، ووضعت مصالحها الاقتصادية والأمنية نصب أعينها، ولذلك – أيضًا – لم تنجر إلى فخاخ عديدة نصبها لها خصوم تركيا في تفاعلات الأزمة السورية، بما في ذلك دفع تركيا لقرارات انفعالية حمقاء، تقودها إلى حرب شاملة مع الروس أو الأكراد، أو تقع في مستنقع الاستنزاف السوري، بما في ذلك من تبعات أمنية في الداخل التركي.
في هذا يبدو أن الرياض تواجه أزمة حقيقية في مجالها العربي والإسلامي؛ فحتى مصر، التي من المفترض أن نظامها قد تلقى عشرات المليارات من الدولارات، من المساعدات العينية والنقدية السعودية في فترة ما بعد انقلاب 3 يوليو 2013، رفض مطالب الرياض كافة في هذا الصدد، وكذلك المغرب، والتي رفضت من حيث المبدأ تأييد تدخل بري في سوريا أو تقديم أي دعم سياسي للرياض في أزمتها الراهنة مع طهران، وهو ما قاد إلى أزمة القمة العربية المرتقبة.
وكذلك باكستان وماليزيا وإندونيسيا، حيث كان آخر ما تلقته الرياض في هذا الصدد، هو أنه لا مساس بترابها الوطني، ولذلك التدخل سيكون في حالة وقوع أي اعتداء مباشر على الأراضي السعودية.
الإخوان ومصر وخلفيات أخرى!
تركيا نظرت إلى عدد كبير من الاعتبارات وهي تتوجه إلى طهران، ولكن قبل سردها، نشير إلى تصريح مهم للغاية للدكتور إيراهيم منير، نائب المرشد العام للإخوان المسلمين للخارج، لا نربطه بزيارة أوغلو إلى طهران، ولكنه – على الأقل – مثير للاهتمام في إطار الزيارة، التصريح يقول بالحرف الواحد إن أزمتي اليمن وسوريا “لن تُحلا سوى بجلوس تركيا والسعودية وإيران على طاولة المفاوضات”، وذكرت تقارير صحفية أن التصريح حدا بمسؤولين سعوديين إلى لقاء الأمين العام للإخوان المسلمين في مصر، الدكتور محمود حسين، المقيم حاليًا في تركيا، لاستيضاح ما ذكره منير.
ولا يخفى على أحد بطبيعة الحال ارتباطات حزب العدالة والتنمية، على الأقل في جذور شخصيات مؤسسيه بالإخوان المسلمين على المستوى التنظيمي، كما أن تركيا هي الداعم الإقليمي الأكبر للإخوان، سواء المصريين أو غيرهم.
لكننا لا نقطع بشيء في هذا الصدد؛ من أن تصريح منير وزيارة أوغلو تُعبر عن موقف موحد تم أخذه في إطار دائرة واحدة تجمع بين الحكومة التركية وجماعة الإخوان المسلمين، التي هي الحاضنة الأم للحزب منذ أن كان بذورًا في طيات حزب الرفاه، آخر الأحزاب التي أسسها نجم الدين أربكان، والذي كان أحد أهم رموز الإخوان المسلمين، ليس في تركيا فحسب، وإنما على نطاق العالم الإسلامي بالكامل.
لكننا كذلك نشير إلى أن حركة حماس، وهي بدورها لا تخفي أنها ذراع الإخوان المسلمين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بدأت في تجديد علاقاتها مع إيران، وشهدت العاصمة القطرية الدوحة لقاءات بين خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وبين سياسيين إيرانيين كبار، مثل علي لاريجاني، رئيس مجلس الشورى الإسلامي الإيراني، كما شارك وفد قيادي من الحركة في احتفالات ذكرى الثورة الإيرانية مؤخرًا.
وهكذا، يمكن فهم ما جاء في مقال نشرته صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية، يوم 4 مارس، لرئيس تحريرها السابق، عبد الرحمن الراشد، بعنوان “مصر باتجاه تركيا أم إيران؟”.
تحدث الراشد في المقال بوضوح عن مساعي المصالحة التي تتم بين الحكومة المصرية، وبين كل من جماعة الإخوان المسلمين وتركيا، كما أشار إلى تصريحات إيجابية لحماس عن العلاقات مع الحكومة المصرية، ولكن أهم ما كان في المقال من مخاوف سعودية، هو تركيز الراشد على أن علاقات حماس الإيجابية مع طهران تقول بأنه من الممكن أن تنجر مصر إلى محور إيران في المنطقة.
في حقيقة الأمر، لا يمكن بقلب سليم قبول مبدأ “المصادفة” في تصريحات منير والإشارات التي التقطها صحفي “مخابراتي” بامتياز مثل الراشد، وزيارة أوغلو إلى إيران، ولذلك يجب وضعها في الاعتبار عند تأمل زيارة أوغلو إلى طهران.
الملاكم التركي ينازل الغرب “الخائن”!
المصالح الحيوية التركية في السياق يمكن استخلاصها من عدد من المؤشرات المهمة، فعلى المستوى الاقتصادي؛ كانت المبادلات التجارية الإيرانية التركية قبل رفع العقوبات عن إيران قد تراجعت من مستوى 25 مليار دولار قبل ثلاث سنوات، إلى 10 مليارات فقط في العام الأخير.
هذا الرقم بدوره مرشح للتدهور بعد رفع العقوبات الدولية والغربية عن إيران بعد إتمام الاتفاق النووي الأخير؛ حيث كانت تركيا واحدة من أهم نوافذ إيران على العالم الخارجي، ومن ثم، فإنه، وفي ظل كون المصالح الاقتصادية في الوقت الراهن أحد أهم محركات السياسة التركية، في ظل تراجع مستويات السياحة بفعل تفجيرات أنقرة وإسطنبول في الأشهر الأخيرة، واندلاع القتال في جنوب شرق تركيا، والعقوبات التي فرضتها موسكو على الواردات الزراعية والشركات التركية، فإن استعادة وتيرة المبادلات التجارية التركية مع إيران كان على رأس أجندة أوغلو في طهران.
ولا يقف الشق الاقتصادي للزيارة على ذلك؛ حيث إن هناك سلسلة من الاتفاقيات التي سيتم بحث تفعيلها، كان أردوغان قد وقعها في زيارته لإيران في أبريل 2015، كما بحث أوغلو ملف واردات بلاده من الغاز، بعد تراجع الواردات الروسية من الغاز إلى تركيا بنسبة 10%، حيث هناك توقعات بخفض سعر الغاز الإيراني المُصدر إلى تركيا بنسبة 13%.
في الجانب السياسي كرر أوغلو – ونقول إنه فعل بغير قصد – جزءًا من تصريح إبراهيم منير الأخير، حيث قال إن حل أزمات المنطقة يتطلب تعاونًا بين تركيا وإيران، وهو تصريح لافت للغاية؛ حيث على الأقل يطرح تساؤلات حول شكل معالجة هذه الأزمات، والأزمة السورية من أهمها، فهل سوف تجازف تركيا وتقبل بحلول للأزمة السورية تخالف ثوابتها طيلة السنوات الخمس الماضية استجابة لمصالحها الاقتصادية والأمنية، مخاطرةً بذلك بسمعتها الإقليمية ومصداقيتها أمام الرأي العام الإسلامي؟!
لا أحد يدري، ولكن تبدو فكرة أن تقبل إيران، وهو البديل الآخر للاحتمالات القائمة في هذا الأمر، بالتخلي عن الأزمة السورية، مستحيلة؛ لأن الأمر لا يتعلق بإيران، فهو في يد قوة عظمى ناهضة، وهي روسيا، والتي لها مصالح “قطع رقبة” في بقاء النظام السوري الحالي والحفاظ على وحدة سوريا الترابية، كما أن إيران تقاتل إلى جوار الأسد استجابة لمصالح عقيدية وسياسية لا فصال فيها، ولا يمكن تصور بحال أن طهران يمكن أن تفكر لحظة في التخلي عنها.
الأمر الآخر المهم في هذا الإطار، هو أن زيارة أوغلو إلى طهران ليست بعيدة بالتأكيد عن الروس، حلفاء طهران الرئيسيين طيلة العقود الماضية.
فالأقرب إذًا إلى التصور، هو أن الأتراك لديهم ما يقدمونه لهذا المحور في الأزمة السورية، استجابة للمخاطر المتزايدة التي باتت تواجهها أنقرة ومشروعها الإقليمي في الوقت الراهن، خصوصًا بعد تخلي الغرب، حلف شمال الأطلنطي “الناتو”، الاتحاد الأوروبي، والأمريكيين، عن حليفهم القوي في أنقرة، وربما كذلك رد الصاع صاعَيْن لواشنطن والأوروبيين.
فخلال الأسابيع الماضية لم يكن ما جاء من الغرب ليسر القلب التركي؛ حيث تم تجميد مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بعد الإعلان عن استئنافها في نوفمبر الماضي، واستأنف الأمريكيون دعمهم للأكراد في شمال سوريا، وأعلنها الناتو صراحة، أنه لن يتدخل في الأزمة بين تركيا وروسيا ولن يغامر بحرب مع روسيا لأجل الأتراك، واتهم أنقرة صراحة بالتصعيد مع روسيا، وأنه ما دامت لم تهاجم الأخيرة الأراضي التركية فلا يوجد أي التزام على الناتو للتدخل!
كما أن واشنطن تجاهلت أنقرة تمامًا، وبشكل مدهش، في مفاوضات الهدنة الحالية في سوريا، وهو ما أثار جنون أنقرة، وبدا في تصريحات لأردوغان، الذي لا تنقصه الصراحة ولا ينقصه قاموس التعبيرات السياسية في مثل هذه الأحوال.
وكان أوغلو صريحًا في التعبير عن رفض أنقرة للانفراد الروسي الأمريكي بقرارات تتعلق بصلب الاستقرار في الشرق الأوسط، حيث قال في مؤتمر صحفي في طهران خلال اليوم الأول لزيارته، إن تعاون الجانبين التركي والإيراني “يمنع دخول الأجانب إلى المنطقة”، ويعمل على معالجة الأزمات الطائفية فيها.
وثمة مؤشران مهمان يجب وضعهما في الحسبان عند تقدير السياسات التركية الجديدة إزاء التحالفات الحالية في المنطقة، وتشير إلى تبدل اتجاه الريح التركية في ظل الاعتبارات السابقة؛ المؤشر الأول، أنه منذ فترة لم تصدر عن أنقرة تصريحات تشير إلى ضرورة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد، على الأقل في بداية المرحلة الانتقالية لو نجحت مفاوضات “جنيف – 4″، المقرر استئنافها بعد بضعة أيام، بخلاف الإصرار السعودي في ذلك.
كما أن تركيا، وهو المؤشر الثاني، قد أخذت قرارًا نفذته حتى بقوة السلاح، بمنع اللاجئين السوريين من دخول تركيا مجددًا، وهو ما جرى عند معبر باب الهوى، عندما أطلقت قوات الأمن التركية النار على 10 لاجئين سوريين حاولوا عبور الحدود عنوة، وأغلقوا المعبر بالكامل، مُسلمة الملف بكل ترحاب للغرب للتصدي له بعد نكران جميل واضح لدور تركيا في ذلك طيلة السنوات الخمس الماضية، مع تهديدات صريحة من أردوغان بالسماح للاجئين السوريين بالعبور إلى أوروبا عن طريق بلاده!
وبينما تقرأ هذا الموضوع، تنعقد قمة في بروكسل بين تركيا والاتحاد الأوروبي لبحث هذا الملف.
هذا هو باختصار غير مخل بعض من جوانب الصورة المحيطة بزيارة أوغلو إلى طهران، وربما لو كان هناك درس مستفاد من السياسات التركية في هذا الاتجاه؛ فهو أن اعتبارات الأمن القومي وعدم التهاون فيها هي أهم مصالح الدول، ولا تجبها أية أمور أخرى مهما كانت، ولا حديث عن مصلحة تفوق مصالح الأمن القومي، والتعامل الحاسم والفوري مع الحدث مهم للغاية، رغم أنف الرياض وعادل الجبير.
أما عن أين العرب من ذلك كله، بالرغم من أنهم طرف أصيل فيه، فهذا ما لا إجابة عليه في الوقت الراهن!