نجوم كثيرة تضيء سماء الأرض كل ليلة، هكذا تعودنا كبشر على مدار وجودنا القصير على هذا الكوكب، لكن أيًا منها ليس قريبًا بما يكفي ليترك بصمته على الأرض مثلما تفعل الشمس، والتي ترسم ملامح الحياة على الأرض بالكامل سواء في دورتها اليومية أو السنوية، غير أن نجومًا من هذا النوع على ما يبدو كانت قريبة بما يكفي لتترك أثرًا صغيرًا منذ حوالي مليوني عام، كما تقول دراسة نُشرت مؤخرًا في دورية نيتشر العلمية المرموقة.
لنتخيّل معًا نجمًا قريبًا من الأرض يتعرض لانفجار في حدث كلاسيكي ومتوقع تمر به معظم النجوم في نهاية حياتها، وهي الطريقة التي تتوفى بها النجوم في العادة كما نعلم، وهو انفجار يُخرج كمّا هائلًا من الطاقة في الثانية الواحدة، يفوق ما قد تنتجه الشمس في مليار سنة، لكنه انفجار لا يزال بعيدًا بما فيه الكفاية لكيلا يُفني الحياة بالكامل من على سطح كوكبنا، فهو كفيل بإغراق الأرض بالمواد المشعة وتدمير طبقة الأوزون لتغيير شكل الحياة بالكامل وتحوير أنواع الكائنات الحية، أو على الأقل إرسال عناصر كيميائية غريبة عن الكوكب ليترك بذلك بصمته عليه.
يعتقد العلماء أن انفجارًا كهذا يحدث على مسافة قريبة من الأرض (على بعد حوالي مائة سنة ضوئية، أي 900 ألف مليار كيلومتر فقط، وهي مسافة قصيرة بالطبع كونيًا!) مرة واحدة تقريبًا كل مليون سنة، غير أن أحدهم لم يأت بدليل على تلك الفرضية سوى مرتين خلال أكثر من خمسين عامًا من البحوث في هذا المجال، حيث أشار العلماء إلى ظاهرتين تدللان على وقوع انفجارين أو أقل منذ حوالي مليوني عام.
الظاهرة الأولى هي وجود نظير من نظائر الحديد، وهو حديد 60، في قشرة الأرض، وعلى الرُغم من احتمالية تشكّله أثناء تشكّل الأرض، إلا أن حديد 60، وهو عنصر كيميائي مشع، من المفترض ألا يتواجد بنفس الوفرة الموجودة حاليًا، لأن المواد المشعة تتحول إلى عناصر أخرى بعد عملية الإشعاع النووي بشكل يقلّص من كميتها الأصلية، ولكل عنصر مشع بالطبع معدّل معيّن في هذا الانتقاص التدريجي والذي يسميه علماء الفيزياء عُمر النصف، أي الوقت الذي يستغرقه العنصر لتتقلص كميته إلى النصف بعد تحوّل النصف الآخر إلى عنصر جديد.
بالنسبة لعنصر حديد 60 فإن عُمر النصف هو 2.6 مليون سنة، وهو عمر قصير نسبيًا مقارنة بعناصر كيميائية أخرى، وبالتالي فإن عملية تشكل الأرض، والتي تمت منذ حوالي 4.6 مليون سنة، لو أدت بالفعل إلى ظهور حديد 60، لكانت معظم كمياته قد اختفت منذ آلاف السنين، أضف لذلك أن حديد 60 لا ينتج عادة إلا في الانفجارات النجمية، وهو ما دفع العلماء إلى طرح الفكرة القائلة بأن حديد 60 الموجود حاليًا في قشرة الأرض يعود بالقطع لانفجار نجم على مقربة من الأرض.
دورة حياة النجم العادي المماثل للشمس، والذي يتضاعف حجمه بقوة وتنخفض حرارته ليصبح عملاقًا أحمرًا، قبل أن يموت في انفجار مدوي
ما هي الظاهرة الثانية؟ الظاهرة الثانية هي ما يسُمى بالفقاعة المحلية، وهي نوع من الفراغ المحيط بالشمس بدون سبب واضح وعلى امتداد 300 سنة ضوئية، ولا تحوي سوى قليل جدًا من الغاز شديد السخونة (حرارته حوالي مليون درجة مئوية)، في اختلاف كبير عن “الجو” المعتاد للمساحات بين النجوم والمواد المفترض تواجدها فيها، وقد تم اكتشاف تلك الفقاعة المحلية في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، حيث عكف الفلكيون على تتبع الغازات الموجودة بين النجوم دون أن يجدوا أثرًا لها في محيط الشمس مثل بقية النجوم، في نفس الوقت الذي بدأت فيه تليسكوبات برصد أشعة إكس في سماء الأرض من كافة الاتجاهات، ليتأكدوا من وجود مجموعتنا الشمسية كلها في قلب تلك الظاهرة الغريبة: فقاعة غازية شديدة الحرارة، تسبب فيها على الأرجح انفجار نجمي.
ماذا أضافت الدراسة الأخيرة إذن لإثبات تلك الأطروحة؟ في دراسة نشرت أول أمس بدورية نيتشر، قام ديتير برايتشويرت من معهد برلين للتكنولوجيا مع فريقه البحثي بدراسة للخروج بموقع محتمل للانفجار (أو ربما أكثر) أدى للظاهرتين المذكورتين، وكذلك تاريخ حدوثه، فقد توصل الفريق إلى أن انفجارًا وقع قبل 2.3 مليون سنة، وآخر قبل 1.5 مليون سنة، وكلاهما على بعد حوالي 300 سنة ضوئية.
كيف توصلوا لهما إذن؟ لقد قاموا ببساطة بالبحث عن النجوم التي يُحتمَل تعرضها لانفجار منذ بضعة ملايين من السنين بالنظر إلى شقيقاتها الموجودة على قيد الحياة، فالنجوم لا تتناثر في الكون كما يتناثر التراب، ولكنها تنتمي لمجموعات أشبه بالعائلات تُعرف بالعناقيد النجمية Star Clusters، وكل عنقود عبارة عن مجموعة تشكّلت في نفس الوقت، وبينما تنفجر أو تموت النجوم الأثقل عادة في وقت مبكر، فإن النجوم الأخف تتمتع بعُمر أطول، وبالتالي فحين يجد العلماء عنقودًا مليئًا بالنجوم الخفيفة فقط، فإنهم يفترضون عادة أن نجومه الثقيلة قد انفجرت بالفعل في السابق.
بالغوص في بيانات النجوم الموجودة بالفعل، وجد الفريق الألماني العنقود المطلوب: مجموعة من 70 نجمًا خفيفًا قام الفريق تباعًا بتقدير أحجام النجوم الثقيلة التي تواجدت بها في السابق، وهي أحجام قادتهم إلى تقدير أعمارها لمعرفة توقيت انفجارها بالتحديد، ومن ثم نجح الفريق في التوصل لانفجار 16 نجمًا بالفعل على مدار 13 مليون سنة فقط، وهو ما ربما ما جعل العنقود أنذاك أشبه بإناء فشار على المستوى الكوني.
تباعًا، قام الفريق بإجراء محاكاة على الكمبيوتر لمعرفة كيفية خلق تلك الانفجارات لفراغات في الفضاء، ووجدوا تطابقًا مذهلًا مع بنية الفقاعة المحلية، كما أراد برايتشويرت علاوة على ذلك أن يرى العلاقة بين ما اكتشفه وبين ظاهرة حديد 60 الموجود بالقشرة الأرضية، “حديد 60 هو طبقة تنمو ببطء شديد، وهو ما يعني أن انفجارات متتابعة رسبّت تلك الكميات منه الواحد تلو الآخر، وتمامًا مثل الحلقات الموجودة في جذع الشجرة، فإن القيام بعدّ تلك الطبقات يتيح لنا بمعرفة عمرها،” هكذا يقول برايتشويرت.
الفقاعة المحلية كما حاكاها الفريق بالكمبيوتر، وتوزيع حديد 60 فيها قبل 2.2 مليون سنة
عكف الفريق بالفعل على حساب عدد طبقات حديد 60 في الأرض، ليجد أن أول طبقة ترسبت قبل 2.2 مليون سنة، في تطابق مع إحدى الانفجارين اللذين أرخا لهما سابقًا، وهو ما دفعهم لطرح فكرة تسبب الانفجارات الستة عشر كلها في طبقات حديد 60 الموجودة بالأرض والفقاعة المحلية في آن، في ظاهرة فريدة حدثت منذ مليوني سنة واستمرت بعد ذلك، غير أن الفريق واجه عقبة جديدة، وهي حاجته إلى حساب كيفية توزيع حديد 60 في قلب النجم عند انفجاره، قبل أن تحمله موجات الانفجار إلى سطح الأرض، “الأمر أشبه بوضع اللبن في القهوة ثم تقليبه بالملعقة لينتشر،” هكذا يقول برايتشويرت، فحديد 60 الموجود في النجوم بالفعل هو اللبن، أما الانفجارات المدوية فهي الملعقة التي قامت بتوزيعه على محيطها الكوني.
حسبة دقيقة ومعقدة هي بالطبع، لكن الفريق الألماني عكف عليها حتى توصل إلى الأن الانفجارين الأساسيين من الستة عشر التي وقعت في العنقود، واللذين تم التأريخ لهما كما ذكرنا بـ2.2 مليون سنة و1.5 مليون سنة مضت، مسؤولان عن نصف كمية حديد 60 الموجودة في القشرة الأرضية، في حين يعود النصف الآخر إلى بقية الانفجارات مجتمعة (أو بقية الانفجارات التي عاصرتها الأرض بعد تشكلها، فوقوع 16 انفجارًا على مدار 13 مليون سنة يفوق بالطبع عمر الأرض، ونصف عمر حديد 60 كما قلنا، وعلى الأرجح أن بعضًا من تلك الانفجارات وقعت بالفعل في وقت سابق لم تكن قد تشكلت فيه الأرض بعد، أو ربما تشكلت فيه ولكن في وقت مبكر بشكل جعل كمية حديد 60 التي أرسلها للأرض تتناقص تدريجيًا.)
التفجيران الرئيسيان إذن، الواقعان منذ 2.3 مليون سنة و1.5 مليون سنة، والأكثر حداثة من عُمر الأرض وكذلك الأقصر عمرًا من نصف عمر حديد 60، هما المسؤولان الرئيسيان عن لغز حديد 60 بكمياته الموجودة حاليًا، علاوة على كون الانفجارات الستة عشر لذلك العنقود النجمي هي المسؤول بوضوح عن الفقاعة المحلية التي تحيط بمجموعتنا الشمسية، وهو ما ينقلنا إذن إلى سؤال آخر تتقاطع فيه علوم الفلك مع نظرية التطور.
بالنظر لوجود الإنسان المنتصب أنذاك على الأرض، وهو أحد أسلافنا كما تقول النظرية، فهل تأثر بهذين الانفجارين العنيفين بأي شكل؟ هنا يجيبنا أدريان ميلوت من جامعة كنساس، والذي يقول بأن وقوع الانفجارين على بعد 300 سنة ضوئية هو بعيد بما يكفي لكليلا يُحدث تأثيرًا مباشرًا على الحياة بكوكبنا، “نطاق الهلاك كما نسميه، حين يقع انفجار ضخم كهذا ويؤدي بالفعل لعملية انقراض أو ما شابه، يكون عادة بين حوالي 25 إلى 35 سنة ضوئية فقط.”
من حسن حظنا إذن أن العنقود المذكور كان بعيدًا بما يكفي لتستمر الحياة على الأرض إلى وقتنا الحالي وإلا ما كنا هنا لرصده، ولكن لعله من سوء حظنا أن تلك الظواهر الفلكية البديعة، والتي من المؤكد أنارت السماء مرتين على الأقل بشكل مثير للانتباه، قد فاتتنا، في حين لا يرجح أن تكون قد لاقت الانتباه المطلوب من جماعات الإنسان المنتصب الموجودة أنذاك.
*المصادر: سكاي أند تليسكوب، ناسا