في أول انتخابات ديمقراطية بعد “ثورات الربيع العربي”، وصلت الأحزاب الإسلامية إلى سدة الحكم في كل من تونس ومصر والمغرب وليبيا بعد عقود من العمل السري والتهجير والمنافي والسجون.
وبعد وصول الإسلاميين إلى الحكم طرح عديد من الباحثين والمراقبين موضوع تجربة “الإسلام السياسي” على طاولة البحث العلمي النقدي خاصة وأن التجربة حديثة وجاءت في فترة تمر فيها المنطقة بصراعات وأزمات متتالية.
وعاد موضوع تجربة الإسلاميين في الحكم إلى طاولة الأحداث من جديد بعد إعلان رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي عن قرار يقضي بفصل الدعوي عن السياسي في العمل الحزبي والتحول إلى حزب مدني.
وفي سياق متصل بقرار النهضة الفصل بين الدعوي والسياسي، يرى أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية، خليل العناني، وفق ما نقلت عنه صحيفة “الأخبار” اللبنانية أن “التحولات التي تشهدها حركة النهضة ليست وليدة اليوم، بل تمت عبر تراكم فكري وإيديولوجي طوال العقدين الأخيرين، لكن الظرف السياسي الحالي، سواء في تونس أو في المنطقة، هو الذي أخرجها”.
وقال العناني إن “قرار الحركة بالفصل بين السياسي والدعوي يمثل قطيعة مع الإسلام السياسي الكلاسيكي أو التقليدي، الذي كان يركز على التنظيم باعتباره هدفًا بحد ذاته، و(كان) غارقًا في قضايا هوياتية وثقافية ولاهوتية جدلية”.
وفي السياق نفسه، يرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، حسن نافعة هو الآخر، خلال حديثه إلى “الأخبار”، أن للقرار أهمية كبيرة على صعيد الإسلام السياسي، وأنه لا يجب التقليل من أهميته، ووفقًا له، فبالرغم من أن المنظمة الأم (جماعة الإخوان المسلمين) قد بدأت في مصر، فإن الحركة الإسلامية أصبحت عالمية، وأن التطور الذي حدث بخصوص النهضة بالغ الأهمية والدلالة، لأنه سيفتح نقاشًا حول مسائل إشكالية (مثل علاقة الإسلام والعلمنة).
وبينما يبدي نافعة اعتقاده أن عبارة “فصل الدعوي عن السياسي هي تسمية خجولة لفصل الديني عن السياسي”، فإنه يقول “أظن أن الإسلام لا يعارض هذا، وهو فهم جريء يخرج عن القوالب التقليدية”.
ويشيد الأكاديمي المصري بتجربة النهضة لكونها “قادرة على التأقلم… ولأنها تفهم السياسة وتستوعبها”، معربًا في الوقت نفسه عن حماسته وعن تفاؤله، لكن على الرغم من ذلك، فإنه يشير إلى حدود هذا القرار لناحية التأثير، لأن قدرة النهضة في ذلك ليست، على سبيل المثال، كقدرات “جماعة الإخوان المسلمين”.
ويُتهم الإسلاميون من قبل خصومهم بـ “السطحية السياسية” و”قلة الخبرة” رغم تحالف بعض الأحزاب العلمانية مع نظيرتها الإسلامية مثلما حدث مع حركة النهضة إبان حكم الترويكا بالإضافة إلى تحالفها مع حزب نداء تونس والوطني الحر وآفاق تونس.
ويرى مراقبون أن تجربة حكم حركة النهضة لم تكن ناجحة وإنما كانت مليئة بالأزمات وشهدت اغتيالين سياسيين كانا كفيلين بإزاحتها من الحكم، وفي نفس الوقت لم تحقق الحركة وحلفاؤها وعودها الانتخابية القائمة أساسًا على التنمية في الجهات المحرومة والعدالة الاجتماعية، وهو ما أسفر في نهاية المطاف عن التنازل مرحليًا وطواعية عن الحكومة حفاظًا على التجربة من مصير أسوأ، وأيضًا تحت ضغط مطالب الشارع الملحة.
وفي المغرب، يقول الصحفي المغربي علي أنوزلا متحدثًا عن تجربة حزب العدالة والتنمية في الحكم “وفي المغرب الذي يقدمه البعض كنموذج لنجاح التيار الإسلامي في الوصول إلى الحكومة من خلال ما اصطلح عليه بـ”ثورة الصناديق”، أبانت التجربة، أن الحزب الإسلامي الذي يقود الحكومة انسجم مع دور “الكومبارس” الذي جيء به لأدائه، أكثر من انسجامه مع دور البطولة التي ادَعاها، وعندما تنتهي “المسرحية” فلن يتذكر دَورَه أحدًا.
ويضيف الصحفي المغربي خلال حديثه عن تجربة الإسلاميين في مصر “ففي مصر، التي وصل فيها ممثلو الإسلام السياسي إلى أعلى هرم للسلطة، وهيمنوا على المؤسسة التشريعية، وشكلوا الحكومة، وتوغلوا في القضاء والإعلام، لم تدم تجربتهم أكثر من سنتين انتهت بانقلاب عسكري كان لأخطاء الإسلاميين دوره الكبير في التسريع بقيامه”.
وتتعرض جماعة الإخوان المسلمين في مصر في الوقت الراهن لأكبر أزمة داخلية بين كبار قادتها منذ وفاة مؤسسها حسن البنا، حيث شهدت “الجماعة الأم” خلافات داخلية وصلت ذروتها خلال ديسمبر الماضي، حول إدارة التنظيم، وشكل الثورة التي تنتهجها ضد السلطات المصرية الحالية التي انقلبت على الحكم المدني، وصار للأزمة تياران: الأول بقيادة محمود عزت، القائم بأعمال مرشد الإخوان، والثاني يتزعمه محمد منتصر، المتحدث الإعلامي باسم الجماعة الذي عزله الأول مؤخرًا.
وبرز في الأزمة اقتراحات عديدة لحلول تعيد رأب صف الجماعة، كان أبرزها على لسان القيادي البارز فيها، وعضو مجلس الشعب السابق جمال حشمت، الذي كشف عن قرب إعلان الجماعة فصل الجانب الدعوي عن الحزبي.
أما في ليبيا، فقد حول الإسلاميون وميليشياتهم المسلحة البلاد إلى طائرة مختطفة يلاحقها قراصنة خرجوا من الفراغ الذي خلفه سقوط النظام السابق، والجميع يقود البلاد نحو المجهول، خاصة أمام انتشار السلاح في البلاد والانقسام السياسي المتواصل حتى الساعة.
وعن تجربة حكم الإخوان المسلمين في السودان يرى رئيس مركز الدراسات السودانية حيدر إبراهيم أن الإسلاميين في السودان لم يتعرضوا مثل غيرهم في المنطقة العربية للقمع، لكنهم مع وصولهم للسلطة مارسوه، وأدخلوا التعذيب في الحياة السودانية، معتبرًا أن تجربة الإسلام السياسي في السودان كانت السبب الرئيس لكل الأزمات التي لحقت بالبلاد منذ الاستقلال إلى غاية استيلاء الإسلاميين على السلطة منذ ربع قرن في 30 يونيو 1989.
ويضيف حيدر إبراهيم أنه وعلى مستوى فهمهم للديمقراطية فقد اتخذوا موقفًا متشددًا من التعددية الحزبية واعتبروها مصدرًا للفتنة، وتبنوا بديلاً لها نظام المؤتمرات الإسلامية، وهو ما انعكس على مستوى رؤيتهم للأقليات والمرأة، وانتهت ممارساتهم إلى انفصال الجنوب السوداني.
ويقول مراقبون إن ما هو ملموس، هو أن الإسلام السياسي حمل معه إلى السلطة والمسؤولية أسباب فشله البنيوية والموضوعية، من قبيل انعدام ثقافة الديمقراطية عند هذا التيار، وغروره المفرط بقوته المفترضة في الشارع، وضعف كفاءة أطره، وقلة تجاربه في التدبير أو انعدامها في كثير من الحالات، وانتهازية ونفاق بعض فصائله، وانسياقه وراء شعارات قواعده شبه الأمية، وتشبثه بأفكاره القطعية وأحكامه المسبقة، وعدم وضوح رؤاه، وفي حالات أخرى سعيه إلى الغموض والتقية.
ويؤكد مجموعة من الباحثين أن تجارب حكم الإسلاميين أثبتت مدى محدودية شعاراتهم التي كانوا يلخصونها في عبارة “الإسلام هو الحل”، كما أن الديمقراطية التي كان يعاديها غلاتهم، فبفضلها وصلوا إلى الحكم أو على الأقل أتاحت لهم فرصة التعبير عن آرائهم بدون خوف من الاعتقال أو المنع أو المصادرة.
ويرجع عبد الرزاق عاشور، نائب الأمين العام لجبهة التغيير الجزائرية المنشقة عام 2008 عن حركة مجتمع السلم الإسلامية، التي أسسها محفوظ النحناح (توفي عام 2003)، الانقسامات والانفعالات التي تحدث في الحركات الإسلامية، وأرجعها إلى “وراثة الحركة لمسؤوليات بعد وفاة زعيمها الأهم، فيبرز تنافس الأنداد، وتلعب قلة التجربة والحكمة في نشوء تيارات فكرية تصب في نفس الهدف، من زوايا مختلفة”، مؤكدًا أن “نجاح التجربة في تونس ووحدتها يرجع لوجود مؤسسها (الغنوشي) وثباته”.
ويرى المؤرخ والباحث فى شؤون الشرق الأوسط والتاريخ الإسلامى بشار نايف في مقال له على موقع “مديل إيست آي” البريطاني أن الإسلاميين مثلما كانوا أكبر الفائزين من الثورات الديمقراطية التي اجتاحت العالم العربي في عام 2011، كانت المفاجأة أنهم أصبحوا أكبر الخاسرين من الخلل الجذري في التغيير الديمقراطي الذي أنتج القوى المضادة للثورة، وبالنسبة للكثيرين، بات مستقبل الإسلاميين كقوة سياسية ذات مصداقية محل شك مرة أخرى.