ترجمة وتحرير نون بوست
في أعقاب تحرير الموصل من قبضة تنظيم الدولة، تبين انعدام برنامج حكومي ودولي واضح لإعادة إعمار هذه المدينة التي تقطعت أوصالها جراء الحرب الدامية التي استمرت قرابة ثمانية أشهر للتخلص من عناصر تنظيم الدولة. في الواقع، اقتضى تحرير الموصل قرابة 265 يوما من المعارك الضارية التي خاضها الجيش العراقي وقوات التحالف، على الرغم من عدم تكافؤ القدرات العسكرية بين هذه القوات ومقاتلي تنظيم الدولة الذين تراوح عددهم بين ألف وألفي مقاتل. وتجدر الإشارة إلى أن مقاتلي التنظيم قد اقتحموا الموصل خلال شهر حزيران/ يونيو من سنة 2014، بعد أن لاذ الجيش العراقي بالفرار.
من جانب آخر، عاش سكان الموصل، البالغ عددهم قرابة 1.2 مليون نسمة، في ظل هذه المعارك المستعرة واضطروا لمعاناة ويلات الحرب، قبل أن يصرخ رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، معلنا “النصر” وتحرير الموصل. ولكن هذا الانتصار كلف المدينة الكثير من الخسائر الفادحة. وفي الأثناء، لا تزال بعض أحياء المدينة خارجة عن سيطرة قوات النخبة ومكافحة الإرهاب العراقية، وخاصة في المناطق الممتدة على طول نهر دجلة التي تخضع لسيطرة مقاتلين من القوقاز والشيشان تابعين للتنظيم، مع العلم أن بعض قادته قد خيروا الفرار مع بداية اشتداد المعارك.
والجدير بالذكر أن أبو بكر البغدادي لم يبادر إلى حد الآن بإقامة خلافة أخرى منذ ظهوره على المباشر سنة 2016. وفي خضم الخطبة التي ألقاها آنذاك، حرض أبو بكر مناصريه، الذين وصل عددهم إلى ما يقارب خمسة آلاف مسلح، على القتال والجود بأنفسهم، قائلا: “أن تدافع عن موقفك بشرف خير لك ألف مرة من أن تتراجع ذليلا”.
لم يكن ضمن مخططات الحكومة العراقية، إبان إعلانها الحرب في الموصل، سوى تحقيق انتصار عسكري ساحق يتمثل في طرد تنظيم الدولة. أما فيما يتعلق بمسألة إبرام مصالحة مع السنة، فلم يكن ذلك على جدول أعمال الحكومة البتة
صورة للجيش العراقي في الموصل بتاريخ 19 من تموز/ يوليو سنة 2017
في الحقيقة، لم يقاتل تنظيم الدولة ببسالة خلال المعارك التي خاضها للحفاظ على كل من تكريت، والفلوجة، والرمادي. في المقابل، ظهر التنظيم في حلة جديدة في الموصل، حيث ابتكر مقاتلوه آليات قتالية جديدة ومتطورة على غرار، طائرات دون طيار مجهزة بمتفجرات. ومن المثير للاهتمام أن هذا التطور التقني يحمل بصمة جنود سابقين في جيش صدام حسين، حيث يعتبر أغلب قادة جيش صدام حسين السابقين من أبناء مدينة الموصل.
عموما، تعد معركة الموصل نقطة تحول فاصلة في تاريخ الحروب الجهادية في منطقة الشرق الأوسط. وللتوضيح أكثر، أبدا ما لا يقل عن خمسة آلاف مقاتل بسالة كبرى في القتال ضد الجيش العراقي وقوات التحالف التي تضم في صفوفها 40 دولة من بينها أربعة قوى عالمية. ومع انطلاق معركة الموصل أواخر سنة 2016، توقع الجنرال، جوزيف فوتيل، قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط أن المعركة برمتها ستنتهي خلال شهر كانون الثاني/ يناير سنة 2017. من جهته، كان وكيل وزارة الدفاع الأمريكية في إدارة أوباما، آشتون كارتر، يعتقد أن عملية تحرير الموصل ستُختتم قبيل مراسم تنصيب ترامب رئيسا للولايات المتحدة بصفة رسمية. لكن كلا الطرفين قد أخطآ التقدير.
وفي سياق متصل، لا يعتبر تحرير الموصل مجرد انتصار عسكري فحسب، فقد بدد أيضا أحلام التنظيم بتأسيس خلافة بين سوريا والعراق، مرورا بالأردن ولبنان، وصولا إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة. ففي وقت سابق، أكد البغدادي أنه ينوي جعل هذه المناطق بمثابة ملاذ لكافة المسلمين الذين لا يريدون العيش في “أراض آثمة”. وقد كشف أمير التنظيم عن هذا المخطط خلال خطبته التي ألقاها في شهر تموز/ يوليو سنة 2016، من على منبر جامع النوري، الذي دمرت مئذنته مؤخرا.
عاش سكان الموصل، البالغ عددهم قرابة 1.2 مليون نسمة، في ظل هذه المعارك المستعرة واضطروا لمعاناة ويلات الحرب، قبل أن يصرخ رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، معلنا “النصر” وتحرير الموصل. ولكن هذا الانتصار كلف المدينة الكثير من الخسائر الفادحة
في المقابل، لا يعني فقدان تنظيم الدولة لمواقع هامة للغاية كانت تخضع لسيطرته، نهايته بالكامل. ففي الحقيقة، كان التنظيم يتوقع سقوطه في أية لحظة. ومن هذا المنطلق، سارع قادته إلى نقل ساحة المعركة خارج الشام والعراق، حيث دعوا كافة الأشخاص المناصرين لهم إلى المشاركة في حرب مقدسة تطال كل دول العالم.
على الرغم من أنه من الصعب على تنظيم الدولة التوسع أكثر في المناطق الفاصلة بين سوريا والعراق، إلا أنه لا يزال يحكم سيطرته على جزء من بعض المناطق بين الدولتين على غرار، مدينة تلعفر المطلة على الحدود السورية العراقية، فضلا عن جزء هام من غرب صحراء العراق. أما في سوريا، تمكن التنظيم من الحفاظ على عاصمته، مدينة الرقة، إضافة إلى كل من مدينة دير الزور، والبوكمال، والميادين. علاوة على ذلك، ينتشر تنظيم الدولة في كل من مصر، وليبيا، واليمن، ونيجيريا، وأفغانستان، فضلا عن المناطق القبلية الباكستانية، والأقاليم الكردية في إيران، والفيليبين.
الاحتفالات عقب الانتصار في الموصل
في الحقيقة، خلف تحرير الموصل خسائر فادحة كما كلف المدينة والمواطنين ثمنا باهظا جدا. فقد دمرت المدينة بالكامل ولم يتبق سوى كومة من الأنقاض تختفي تحتها الألغام مما يعرقل عملية عودة سكانها إليها من جديد. بالإضافة إلى ذلك، تفتقر المدينة للكهرباء والماء الصالح للشرب، في الوقت الذي تبلغ فيه درجات الحرارة 50 درجة. فضلا عن ذلك، لا تضم الموصل أية إدارة أو حتى مكتب تمثيل سياسي للدفاع عن متساكني المدينة، مع العلم أن أغلبهم من السنة. وفي الوقت الراهن، من غير الممكن العودة للعيش داخل الموصل ولا حتى خارجها، حيث لم يقع إلى حد الآن تركيز مخيمات على مشارف هذه المدينة المنكوبة القادرة على استيعاب قرابة 900 ألف مهاجر ولاجئ.
وفي هذا الصدد، أثار انعدام أي مخطط حكومي ودولي واضح لأعمار الموصل استغراب عدة مراقبين. والجدير بالذكر أنه، ولولا ضبط النفس أحيانا الذي كان يتحلى به كلا الطرفين، لكانت المعركة أكثر دموية ولسقطت الألاف من الأرواح البريئة، لذلك كان من الأجدر التمديد في فترة المعركة. وفي خضم المواجهات المستعرة، حاولت الحكومة العراقية عدم الزج بالميليشيات الشيعية في المعركة حتى لا تثير استياء سكان الموصل السُنة الذين فقدوا ثقتهم في حكومة بغداد.
في المقابل، لم يكن ضمن مخططات الحكومة العراقية، إبان إعلانها الحرب في الموصل، سوى تحقيق انتصار عسكري ساحق يتمثل في طرد تنظيم الدولة. أما فيما يتعلق بمسألة إبرام مصالحة مع السنة، فلم يكن ذلك على جدول أعمال الحكومة البتة، مع العلم أن المصالحة بين السنة والشيعة في العراق تعد من أبرز التحديات التي تنتظر حكومة العبادي بعد تحرير الموصل.
والجدير بالذكر أن الطائفة السنية في العراق شهدت ممارسات متعسفة من قبل الحكومات المتعاقبة على بلاد الرافدين منذ سقوط نظام صدام حسين. وفي الأثناء، أضحت أكبر المدن التي يستقر فيها المواطنون السنة، أي الموصل، خرابا، حيث دمرت حوالي 80 بالمائة من بنيتها التحتية. وفي هذا السياق، أوردت الباحثة، لؤلؤة الرشيد، في إحدى مدوناتها متحدثة عن مصير العراق بعد تنظيم الدولة، “في حال لم يقع حل المشاكل الجوهرية التي يعاني منها العراق بعد هزيمة تنظيم الدولة، من المؤكد أن تنظيما آخر أكثر قسوة وأكثر تعطشا للانتقام من سابقيه سيظهر على الساحة”.
ومن المثير للاهتمام أن الأسوأ قد وقع تجنبه في الموصل، أي تدخل الميليشيات الشيعية الموالية لولاية الفقيه في إيران، خاصة وأن هذه الميليشيات كانت متعطشة للقضاء على تنظيم الدولة المتورط في ارتكاب مجازر ضد مواطنين شيعة، مهما كلف الثمن. وفي هذا الإطار، بادرت هذه الميليشيات بتقديم نفسها للمشاركة إلى جانب الجيش العراقي في معركة الموصل. وعلى الرغم من كل الضغوط المسلطة، نجح حيدر العبادي في إبعاد الميليشيات الشيعية عن مشارف مدينة الموصل.
لا يعتبر تحرير الموصل مجرد انتصار عسكري فحسب، فقد بدد أيضا أحلام التنظيم بتأسيس خلافة بين سوريا والعراق، مرورا بالأردن ولبنان، وصولا إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة
وفقا لرئيس تحرير مدونة “إستراتيجيات الشرق”، دافيد-ريغولا روز، فقد “حذرت واشنطن حكومة العبادي من مغبة إشراك الميليشيات الشيعية في معركة استعادة الموصل بصفة مباشرة…ففي الواقع، كانت الإدارة الأمريكية متأكدة أن العبادي يعمل على دفع الشيعة للانضمام إلى المعركة، لذلك شددت واشنطن على أنه في حال مشاركة هذه الميليشيات في المعركة، ستسحب الولايات المتحدة دعمها العسكري للقوات العراقية، وخاصة الدعم الجوي الذي كان حاسما في عملية استعادة الموصل”.
وأضاف دافيد-ريغولا روز أنه “إثر تحرير الموصل، عمد المنتصرون إلى اقتسام الغنائم دون أن يفكروا في إيجاد حلول للقضايا والتحديات الجوهرية التي تنتظر العراق بعد طرد تنظيم الدولة، وتحديدا “ملف أوضاع السنة” في العراق. ففي الحقيقة، ينبغي على الحكومة في بغداد القيام بتحركات فعلية وملموسة لحل هذه القضية. ومن بين الحلول المطروحة، تأسيس إقليم مستقل بذاته يعيش فيه السنة في العراق، على غرار إقليم كردستان. لكن العبادي، الذي قلما يتخذ قرارا دون العودة لقادة الميليشيات الشيعية، أو دون أن ينال رضا طهران، يرفض هذا الحل”.
بغض النظر عن فكرة تركيز منطقة سنية ذات سيادة مستقلة، فإن أغلب مناطق شمال العراق تكتظ بأبناء هذه الطائفة، وخصوصا في الموصل. وتجدر الإشارة إلى أنه، وخلال سنة 2014، كان يعيش في الموصل حوالي 2.5 مليون مواطن، كما أن المدينة كانت تزخر بتنوع ثقافي وإثني. في المقابل، وعقب نهاية المعركة، من الصعب أن تعود الأقلية المسيحية من أبناء هذه المدينة، والبالغ عددهم 35 ألف ساكن إليها من جديد، مع العلم أن عددهم كان يبلغ قرابة 60 ألف ساكن، إبان الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003.
في الوقت الراهن، تصاعدت وتيرة الحقد الطائفي بين السنة والشيعة، في حين أضحى الأكراد، مؤخرا، يعتبرون بمثابة العدو اللدود للسنة في العراق. أما بالنسبة للأقلية اليزيدية، فهي غير مرحب بها البتة. وعلى الرغم من هزيمته، إلا أن تنظيم الدولة قد نجح، خلال ثلاثة سنوات، في فرض وجوده، فضلا عن أنه تمكن من تغيير ملامح العراق. عموما، تلوح في الأفق العديد من المخاوف بشأن ارتباط مستقبل منطقة الشرق الأوسط بالمصير الذي ينتظر مدينة الموصل.
المصدر: ميديابار