مواطنون سنة يصوتون لمرشحين شيعة، وآخرون أكراد يصوتون لمرشحين عرب، بذلك رُسمت صورة الانتخابات العراقية الأخيرة بعيدًا عن المسارات التقليدية التي رُسمت للانتخابات العراقية في ظل نظام ما بعد الاحتلال الأمريكي.
وبعد حصوله على الترتيب الأول باسم تحالف “سائرون”، هاتف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الزعيم العراقي مقتدى الصدر، ليخصه بالتهنئة على نتيجة الانتخابات.
ووفقًا لبيان الرئاسة التركية، فإن أردوغان أعرب عن تمنياته في أن تجلب نتيجة الانتخابات الخير للعراقيين كافة، مشددًا على اهتمام بلاده بوحدة العراق وأمنه.
وقد شكل الرئيس أردوغان بتهئنته للصدر سابقة هي الأولى من نوعها، إذ جرت العادة أن تكتفي الحكومة التركية بتهئنة العراق كدولة بعد كل انتخابات، الأمر الذي أثار تساؤلات عن الأسباب التي دفعت أردوغان ليخص الصدر بالتهنئة.
البداية بالعوامل المباشرة الخاصة بالحكومة التركية، فالأمر يوحي بالرغبة التركية في تأسيس علاقات مع عنصر يُظهر، في العلن على الأقل، رغبته في تغيير معادلة هيمنة إيران على عملية اتخاذ القرار في بغداد، إذ إن تركيا عمدت، منذ سنوات، إلى الجبهة التركمانية وبعض القوى السنية لموازنة النفوذ الإيراني، إلى أن ذلك لم يُثمر في تأسيس ميزان قوى إيجابي لصالحها.
يبدو أن تركيا تناور من أجل إعادة ترتيب أوراقها استعدادًا للمرحلة القادمة التي تحاول فيها الدول ذات العلاقة بالعراق استباق الخطوات لتأسيس قواعد تخدم مصالحها
وفي ضوء ذلك، أشارت الرئاسة التركية إلى أن أردوغان طالب الصدر، ربما لتوتر علاقاته مع العبادي، بتقديم الدعم لتركمان العراق في كركوك، بعد تلقي اعتراضات منهم بحدوث تجاوزات انتخابية في المحافظة.
وفيما يتعلق بالمعادلة العراقية التي تشهد تبلور جديد بعد القضاء على “داعش”، يبدو أن تركيا تناور من أجل إعادة ترتيب أوراقها استعدادًا للمرحلة القادمة التي تحاول فيها الدول ذات العلاقة بالعراق استباق الخطوات لتأسيس قواعد تخدم مصالحها.
إلى جانب ذلك، يكاد تخوف تركيا من استشراء النفوذ الأمني للحشد الشعبي، يُمثل دافعًا لها، للتأمل في الصدر وخطابته كعنصر يمكنه التصدي لتمدد الحشد داخل مؤسسات الدولة.
وفيما يتعلق بالمعادلات الدولية، ترى تركيا أن مسايرة الولايات المتحدة فيما يتعلق بتقليم النفوذ السياسي والأمني لإيران في المنطقة، قد يعود عليها بمعادلة تزيد من نفوذها في العراق على وجه الخصوص، حيث الهدف التركي الإستراتيجي في نقل نفط كركوك وكردستان العراق نحو العالم الخارجي عبر أراضيها، والمنافس الأساسي لها في هذا الأمر، من حيث الجغرافيا والنفوذ السياسي، إيران.
أيضًا تضمن هذه المعادلة لتركيا، إذا أحدثت تقاربًا للتيارات العراقية التي ترمي لحكم مدني بعيد عن الطائفية، حسب ما هو ظاهر على الأقل، هدوءًا نسبيًا على حدودها مع العراق، كما يكفل لها نفوذًا سياسيًا يسهل تحركها في شمال العراق أين مواقع حزب العمال الكردستاني الذي يحاربها منذ ثمنينيات القرن الماضي.
يُعدّ العراق الذي يشهد تبلور معادلات سياسية وأمنية جديدة في مرحلة ما بعد “داعش”، منطقة جغرافية تؤثر بمعادلتها الداخلية في الشأن التركي مباشرة
ويكاد هدف الحكومة التركية في الحيلولة دون تأسيس نفوذ خليجي، إماراتي سعودي، في العراق عبر الصدر، يُفسر نسبيًا تحركها بإجراء تحرك استباقي للتشاور مع الصدر، من خلال تقديم نفسها كدولة إقليمية جارة للعراق تسعى للتعاون معه في تحقيق المصالح المشتركة، وتخشى تركيا من بناء الدول الخليجية نفوذ في العراق، انطلاقًا من خشيتها على مصالحها وأمنها القوميين، حيث واجهت تركيا إبان الاستفتاء على استقلال كردستان العراق، التدخل الخليجي، الإماراتي خاصة، في دعم الاستفتاء وتنظيمه عبر مركز الإمارات للسياسات.
ولا ريب في أن هذا التدخل الذي يأتي في إطار التعمد لمنافسة المصالح التركية، يُثير مخاوف تركيا، ويدفعها لمواجهة التحرك الخليجي حيال العراق.
في المحصلة، يُعدّ العراق الذي يشهد تبلور معادلات سياسية وأمنية جديدة في مرحلة ما بعد “داعش”، منطقة جغرافية تؤثر بمعادلتها الداخلية في الشأن التركي مباشرة؛ الأمر الذي يدفع تركيا لاستباق الخطوات في التقارب مع بعض الجهات العراقية التي يُمكن أن تخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية فيه. وفي جميع الأحوال، الأمر يقوم على مدى استعداد الصدر للتعاون مع تركيا.