ترجمة وتحرير: نون بوست
امتلأ الطابق السفلي بالمياه، ولم تعد أبواب ونوافذ الشقة تُغلق بإحكام. فضلا عن ذلك، يظل الطريق الرئيسي في حي أبو قير في الإسكندرية مغطى بوحل بني اللون وسميك لأشهر عديدة. نتيجة لذلك، أصبحت ثاني مدينة في مصر من حيث عدد السكان، التي تضم أكثر من خمسة ملايين نسمة، تغرق تدريجيا. في الحقيقة، تسبب تغير المناخ في ارتفاع منسوب مياه البحر المتوسط. ويمثل انخفاض مستويات تراكم الطمي في دلتا النيل خطرا على مصر، نظرا لأن الأسس الساحلية التي بنيت عليها الإسكندرية بدأت بالانهيار.
في هذا السياق، قال أحد سكان الإسكندرية، الذي يقيم حالياً في المملكة المتحدة ورفض ذكر اسمه خوفا من تعريض عائلته في مصر للخطر إن “ما يحدث في الإسكندرية عبارة عن مأساة حقيقية. في الواقع، يؤكد الوضع في المدينة على فساد المطورين والمهندسين، وهو ما لا تكترث له الحكومة. ففي أبو قير وأجزاء أخرى من المدينة على طول الشريط الساحلي، يتواصل تشييد المباني على حافة المياه، على الرغم من أن القانون ينص على أنه يجب بناء المزيد منها بعيدا عن الساحل، وهو ما قد يعرض حياة الأشخاص الذين يعيشون في هذه المباني إلى خطر كبير”.
ارتفاع الحرارة ومنسوب مياه البحار
أصدرت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ أحدث تقاريرها عن تغير المناخ يوم الاثنين. وتخشى العديد من البلدان والمجتمعات التي تعيش في مناطق منخفضة أن تختفي تدريجيا تحت البحر، في حال لم يُتخذ إجراء عاجل لمنع تواصل ارتفاع درجات الحرارة.
https://twitter.com/IPCC_CH/status/1049127236564082689
نص التغريدة: يتوفر تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ الخاص بالاحتباس الحراري البالغ 1.5 درجة مئوية على الرابط التالي: https://www.ipcc.ch/report/sr15/. ويتضمن التقرير ملخصًا لصناع القرار وفصول التقرير كاملا.
منذ تأسيسها في القرن الرابع قبل الميلاد، واجهت الإسكندرية العديد من المشاكل بسبب ارتفاع منسوب مياه البحار، حيث جُرفت منارتها الشهيرة وبعض المعابد والمكتبة القديمة إلى البحر منذ مئات السنين. مع ذلك، لا يزال صمودها ضد ارتفاع منسوب مياه البحار مستمرا. وفي أواخر سنة 2015، لقي ما لا يقل عن سبعة أشخاص حتفهم نتيجة لمزيج من العواصف البحرية والأمطار الغزيرة التي تسببت في أسوأ فيضانات شهدتها المدينة منذ سنوات.
في هذا الصدد، أدت الفيضانات إلى غرق العديد من الشوارع والمنازل لعدة أيام. ولمواجهة الغضب الشعبي المتصاعد، ألقت الحكومة باللوم على جماعة الإخوان المسلمين لتسببهم في إغلاق فتحات الصرف الصحي. فضلا عن ذلك، واجهت المدينة المزيد من الفيضانات في سنة 2017 وفي مطلع هذه السنة أيضا، مما تسبب في خسائر مادية تقدر بملايين الدولارات في واحدة من أكبر المراكز الصناعية والسياحية في مصر.
تشق ضفاف النيل الخضراء طريقها عبر الأراضي الجافة في مصر.
تتسبب الفيضانات وارتفاع منسوب مياه البحار في زعزعة أسس المباني والبنية التحتية، وهو ما جعل انهيار المباني يحدث بانتظام. ففي أغلب الأحيان، يتم تشييد المباني بطريقة عشوائية دون مراعاة ظروف التربة. وفي مطلع سنة 2013، قتل ما لا يقل عن 22 شخصاً بسبب انهيار مبنى، مألف من ثمانية طوابق، في أحد الأحياء الفقيرة في الإسكندرية. كما توفي ثلاثة أشخاص وأصيب كثيرون في حادث مماثل في وقت سابق من هذه السنة.
ليس من الصعب العثور على أدلة تثبت قوة البحر المتنامية، فالمتنزهات والشواطئ التي سبحت فيها النخبة في مدينة الإسكندرية في السابق قد اختفت تماما، وحتى الفيلات القديمة المطلة على الشاطئ انهارت
الجدير بالذكر أن العالم يشهد باستمرار تصادم قطع الجليد الضخمة في البحر وذوبانها، ولكن مدى تأثيرها على مستويات مياه البحار حول العالم يضع مصير مئات الملايين من الأشخاص الذين يعيشون في المدن الساحلية في خطر دائم. مع ذلك، لا يمثل ارتفاع منسوب مياه البحار المشكلة الوحيدة، إذ أن الارتفاع المستمر في درجات الحرارة يعتبر ظاهرة تدعو إلى القلق.
إن الارتفاع في درجات الحرارة يؤثر على منسوب مياه البحار، حيث أنها تزيد من إمكانية حدوث العواصف. ففي مدينة منخفضة مثل الإسكندرية، يمكن أن يتسبب أي ارتفاع طفيف في منسوب مياه البحار في مشاكل كبيرة. من جهة أخرى، شهدت العديد من البلدان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خلال صيف سنة 2018، ارتفاعا قياسيا في درجات الحرارة، حيث تجاوزت درجة الحرارة في أجزاء من الجزائر خلال أواخر تموز/يوليو 51 درجة مئوية، وهي أعلى درجة تشهدها قارة أفريقيا تاريخيا.
معركة مستمرة بين اليابسة والبحر في شاطئ ستانلي في الإسكندرية في سنة 2015.
في هذا الصدد، ذكر محمد شلتوت، من قسم علوم البحار في جامعة الإسكندرية، أن “التوقعات الحالية تشير إلى أن الارتفاع في مستويات مياه البحار على الشريط الساحلي حول الإسكندرية سيتراوح بين 4 سنتيمترات و22 سنتيمترا بحلول نهاية القرن”. وأضاف شلتوت، في تقرير أعده رفقة أكاديميين آخرين، أن “الارتفاع في منسوب البحار بحوالي 10 سنتيمترات فقط سيضر بشكل كبير بالجانب الشمالي من منطقة دلتا النيل. وسيشمل ذلك البحيرات الكبيرة والمنتجعات السياحية والمواقع التاريخية والأراضي الزراعية الخصبة وأربعة مدن مكتظة بالسكان؛ وهي الإسكندرية وروزيتا وإقليم البرلس وبورسعيد”.
ليس من الصعب العثور على أدلة تثبت قوة البحر المتنامية، فالمتنزهات والشواطئ التي سبحت فيها النخبة في مدينة الإسكندرية في السابق قد اختفت تماما، وحتى الفيلات القديمة المطلة على الشاطئ انهارت، كما أن الأحياء الفقيرة الموجودة بالقرب من الشاطئ باتت تغمرها مياه البحر بصفة دورية.
تجدر الإشارة إلى أن منسوب المياه والطمي المتدفق إلى دلتا النيل المحيطة بمدينة الإسكندرية قد انخفض بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، وتحديدا بعد بناء سد أسوان العالي وتنفيذ مشاريع أخرى لتحويل المياه. ومن الواضح أن قلة تراكم الطمي في الدلتا، التي كانت واحدة من أكثر المناطق الزراعية إنتاجية على وجه الأرض، قد جعلت هذه المنطقة أقل خصوبة. ويعني ذلك أن الأرض المحيطة بالإسكندرية بدأت تختفي بشكل تدريجي.
علاوة على ذلك، أصبح من الصعب توقع ارتفاع تدفق المياه في نهر النيل خاصة عندما يكون هناك نقص في المياه العذبة. كما يمكن أن تشق مياه البحر المالحة طريقها نحو الإمدادات الأرضية لمياه الشرب. والجدير بالذكر أن ضخ المياه الزائدة من طبقة المياه الجوفية أسفل الإسكندرية قد أدى إلى تسرب كميات إضافية من مياه البحر.
تشعر دول الخليج بالقلق بصفة خاصة من تأثير زيادة نشاط العواصف بسبب ارتفاع درجة حرارة مياه البحار
في هذا الصدد، قالت اللجنة الدولية للتغيرات المناخية، وهي هيئة تابعة للأمم المتحدة مكلفة بمراقبة تأثير ظاهرة الاحتباس الحراري إن “الأراضي المنخفضة في الإسكندرية التي بنيت مدينة الإسكندرية فوقها، معرضة للغرق بالإضافة إلى التعرض إلى مخاطر زيادة الفيضانات والملوحة في ظل ارتفاع مستوى سطح البحر بشكل سريع”.
وأضافت اللجنة الدولية للتغيرات المناخية أن الخسائر البشرية والاقتصادية لمثل هذه الأحداث ستكون كبيرة. فقد توقعت اللجنة أنه في حال ارتفعت مستويات مياه البحر بمقدار نصف متر في كل من المدينة وأحوازها، ستصل الخسائر في الإنتاج الزراعي والسياحة والصناعة إلى أكثر من 30 مليار دولار.
مصر ضمن المراتب العشر الأولى في القائمة
ليست الإسكندرية المدينة الوحيدة التي تواجه مشاكل في ارتفاع مستوى سطح البحر والانغمار بالمياه المالحة، فجاكرتا عاصمة إندونيسيا، وهي مدينة تضم أكبر عدد من المسلمين في العالم، تتميز بكونها المدينة الأسرع غرقا على هذا الكوكب. وفي هذا السياق، قال العلماء إن العاصمة الإندونيسية، التي يقطنها 10 ملايين شخص، يمكن أن تغرق بالكامل بحلول منتصف هذا القرن. أما المدن التي تشهد توسعا سريعا على غرار دبي، التي لم تعد قرية صيد منذ فترة طويلة، والتي أصبحت في الوقت الراهن مركزا لمجموعة مذهلة من أطول المباني في العالم، تشعر بالقلق إزاء ارتفاع منسوب مياه البحار الذي يهدد بعضا من مشاريعها الإنمائية الطموحة.
سيارات عالقة في طوفان من مياه الفيضانات في دبي في شهر آذار/ مارس سنة 2016
في شأن ذي صلة، تشعر دول الخليج بالقلق بصفة خاصة من تأثير زيادة نشاط العواصف بسبب ارتفاع درجة حرارة مياه البحار. فعلى سبيل المثال، أدى ضخ المياه الجوفية الزائدة في بيروت، التي تجاوز عدد سكانها مليونيْ نسمة في السنوات الأخيرة، إلى تسرب مياه البحر التي كانت تشق طريقها إلى مكامن المياه الجوفية أسفل المدينة.
تسبب تضاؤل إمدادات المياه المتدفقة من نهري دجلة والفرات في البصرة، جنوب العراق، بالإضافة إلى تدفقات مياه البحر من الخليج، في جعل إمدادات المياه في المدينة غير صالحة للشرب. فضلا عن ذلك، ألحقت هذه المياه المتدفقة أضرارا جسيمة بآلاف الأفدنة من الأراضي الزراعية. وفي الأشهر الأخيرة، قُتل العديد من الأشخاص بعد أن أطلقت الشرطة النار على الحشود الذين كانوا يحتجون حول سوء أداء الحكومة.
في هذا الإطار، أفاد العلماء أنه يجب على المدن الساحلية أن تستعد وتتكيف مع ارتفاع مستويات البحار. وكان البروفيسور محمد الراعي من جامعة الإسكندرية، قد أجرى لعقود طويلة دراسات عديدة حول آثار ارتفاع مستوى سطح البحر وتسرب المياه المالحة. وقد قال الراعي إنه على الرغم من أن مصر تعد من بين العشر دول في العالم الأكثر عرضة للتغير المناخي، إلا أنها مدرجة في القائمة كونها واحدة من البلدان الأقل حرصا على اتخاذ إجراءات بغية التكيف مع الوضع. وفي سنة 2016، أورد الراعي قائلا إنه “على الرغم من أن ارتفاع منسوب سطح البحر يشكل تهديدا حقيقيا، إلا أن لا أحد يكترث لذلك”.
رجل يجمع أسماكا ميتة من مزرعة أسماك تقع في شمال مدينة البصرة في شهر آب/أغسطس سنة 2018
في السياق نفسه، قال النقاد إن الحكومة المصرية الحالية، بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، لا تظهر استعدادا كبيرا لمعالجة قضية ستشكل خطرا على حياة الملايين من الأشخاص. عوضا عن ذلك، تنوي الحكومة إنفاق المليارات على مشروع ضخم آخر ألا وهو إنشاء قناة سويس ثانية. ومنذ فترة طويلة، شعر سكان الإسكندرية أن القاهرة لم تعد تهتم بمشاكلهم، حيث يبدو أن إجراءات حكومة السيسي اقتصرت على إزالة ما تصفه بالمناطق العشوائية والأحياء الفقيرة الموجودة بالقرب من البحر على غرار حي المكس، وهي منطقة صيد كانت تعرف في السابق باسم “البندقية الصغيرة” في الإسكندرية.
إلى جانب ذلك، بين جيبرو جيمبر أنداليو، وهو عالم إثيوبي وشخصية بارزة في اللجنة الدولية للتغيرات المناخية، وواحد من الأشخاص القلقين حول هذا الموضوع، قائلا: “في كل لحظة نقوم فيها بتأجيل اتخاذ إجراءات فيما يتعلق بهذه المشكلة، تزداد تأثيرات التغير المناخي سوءا، كما أنها تصبح مكلفة بشكل متزايد وتخلّف المزيد من الخسائر والأضرار”.
المصدر: ميدل إيست آي