أمام أحد المراكز التجارية بمنطقة وسط البلد بالقاهرة جلست فاطمة تسأل الداخل والخارج المساعدة، حاملة بيدها اليسرى أوراق يبدو عليها أنها تقارير تحاليل طبية وروشتة علاجية وتذكرة دخول لأحد المستشفيات.
كانت نظراتها خليطًا بين لمعان دموعها المخضبة وجنتيها، وترقب أيادي كل من يتحسس حافظة نقوده، وبينما كانت أنفاسها تحتبس مع امتداد يد المساعدة، إذ بها فجأة تهرول لا تدري وجهتها، إذ لمحت بطرف عينيها أحد أفراد الأمن يقترب منها.
وفي أحد الممرات الضيقة بالقرب من نقابة الصحفيين ونادي القضاة جلست الفتاة التي لم يتجاوز عمرها الـ20 عامًا، ترتعد فرائسها، ممسكة بما جمعته من أموال في كيس أسود، ويدها الأخرى تضعها فوق صدرها تحبس أنفاسها المتصاعدة خشية أن يسمعها سامع فيسلمها للشرطة ويضيع تعب يوم كامل من الوقوف والتسول.
وبخطوات تسبقها الحيطة اقتربنا منها، وطلبنا الاستماع لها على أمل تقديم المساعدة، إلا أن الصمت كان ردها الوحيد، فما الذي يضمن لها أننا لن نسلمها للجهات المسؤولة، وبعد محاولات حثيثة، استغرقت قرابة الساعة، قدمنا خلالها أوراق تثبت حسن نوايانا وتكشف هويتنا، وافقت على الجلوس معنا لتقص حكايتها التي جاءت عكس ما توقع الجميع.
مأساة خلف الجدران
“حين كان أهل الخير بخير كنا مستورين ولا أحد يسمع بنا وكنا مرابطين في بيوتنا لا يعرف مخلوق عنا شيئًا لكن اليوم أصبحنا في الشارع تلاحقنا كلاب السكك”.. بصوت تخنقه الدموع استهلت فاطمة حديثها ساردة قصتها من بيتها إلى الشارع.
وأضافت “نحن ثلاث فتيات، 14 و16 و20 عامًا، وأمي تبلغ قرابة 55 عامًا ووالدي رجل مسن يعاني من غسيل كلوي، ويغسل كليته مرتين أسبوعيًا”، وتابعت: “والدي يعمل حارس عقار، وكلنا نقيم في غرفة واحدة ضمن هذا العقار تسمى “غرفة الحارس” لكننا وحتى قبل عامين كنا نعيش حياة مستورة”.
“قبل عامين كان والدي لا يحمل همّ الغسيل، إذ كانت الجمعيات الخيرية منتشرة عندنا وبكثافة عالية، وكنا نقوم بالغسيل يوم ويوم، أي 3 مرات أسبوعيًا، بجانب إعانات شهرية يحصل عليها والدي من أهل الخير في الجمعيات كذلك العلاج الذي كان يحصل عليه مجانًا، وفي المناسبات المجتمعية والدينية، كشهر رمضان والعيدين ومولد النبي وأول السنة الهجرية، كانت غرفتنا تمتلئ بالخير كله من أهل الخير والمروءة ومن المنشآت الخيرية التي ما كانت تخلو منطقة من واحدة منها أو اثنين على الأقل”.
“في هذا التوقيت كنا جميعًا في مراحل التعليم المختلفة، وكانت والدتي تجهز لزفافنا، حيث بدأت تشتري مستلزمات العروس، من أجهزة كهربائية ومستلزمات خاصة بالزواج أو كما يقال عنها في مصر “المطبخ” الذي في الغالب تتكفل به العروسة، فكانت الأوضاع مستقرة وتسمح ببصيص من الأمل في أن نحيا ونحلم مثل أي فتاة بالزواج والارتباط، لكن سرعان ما تبدل الحال، إذ فوجئنا قبل عامين تقريبًا بتقليل مرات عدد الغسيل إلى مرة واحدة أسبوعيًا، وتراجعت الإعانات بصورة تدريجية، حتى صعق والدي في أحد الأيام بالموظف المختص في الجمعية التي يغسل بها بأنه لم يعد هناك إمكانية للغسيل مرة أخرى، وحين سأل والدي عن السبب كانت الإجابة: سيتم غلقها أو تأميمها”.
“الخبر نزل على والدي كالصاعقة، فحين وصل للبيت ارتفع الضغط والسكر تأثرًا بما حدث، ووالدتي هي الأخرى تعرضت لنوبة حادة من ارتفاع في ضربات القلب لولا رحمة الله لتوفيت، فخبر كهذا يعني وباختصار: شهادة وفاة رسمية لكل أحلام الأسرة، وباتت أسرتنا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما وقف عملية الغسيل ما يعني الموت للوالد أو التقشف لأبعد حد من أجل توفير كلفة عملية الغسيل، خاصة بعدما أكد الطبيب المعالج أن وقفها يعني الوفاة بلا أي نقاش”.
تبلغ تكلفة المرة الواحدة للغسيل الكلوي لوالدي قرابة 150 جنيهًا، أي في الأسبوع 300 جنيه وفي الشهر 1200 جنيه، إضافة لأجرة الذهاب والعودة، فهو يجري عملية الغسيل في أحد المستشفيات العامة بمنطقة الدقي، ويحتاج في كل مرة قرابة 40 – 50 جنيهًا أجرة، هذا بخلاف تضاعف مصاريف الأسرة بعد زيادة الاسعار الناتجة عن تعويم الجنيه، من أين لوالدي أن يأتي بكل هذه الكلفة؟ هكذا تساءلت فاطمة.
التسول.. الحل المتاح
لماذا لم تبحثي عن عمل لتحمل جزء من المصاريف بعدما وصل الأمر إلى هذا الحد؟ هكذا سألنا فجاءت الإجابة صادمة: “حاولت بالفعل والتحقت بالعمل في أحد مصانع الغزل لكن للأسف تعرضت لمضايقات سخيفة سواء من صاحب العمل أم الزملاء، فكان الجميع ينظر إلي نظرات متدنية، خاصة أنهم يعرفون جيدًا حالتنا الأسرية وحاجتنا الشديدة للعمل، وأمام تلك المضايقات التي وصلت في بعضها للتحرش اللفظي والفعلي ما كان أمامي إلا الاستقالة ورفض الذهاب للمصنع مرة أخرى، وبعد بحث دام طويلاً لم أجد أمامي أحن من الشارع لأشكو إليه حالي”.
وأشارت إلى أنه بعد الاتفاق مع شقيقاتها قررن التسول في الطرقات وأمام المساجد والمنشآت الموجودة في أماكن محترمة، على حد قولها، وذلك تجنبًا للتعرض للمضايقات التي ربما يواجهنها حال تسولهن في أماكن شعبية أخرى.
“وبالفعل قسمنا أنفسنا إلى 3 مناطق: أختي الصغرى في المهندسين والوسطى في الدقي وأنا في وسط البلد، ومنذ عام ونصف تقريبًا ونحن على هذه الحالة، نجمع يوميًا نحو 500 جنيه على أقل تقدير، عوضنا بها وبشكل كبير النقص الذي ترتب على فقدان دعم الجمعيات الخيرية”.
وعما تعرضن له خلال تسولهن قالت: “بالفعل تعرضنا لمضايقات خاصة أن أصحاب تلك المناطق من أبناء الأسر الميسورة التي يملك معظمها سيارات فارهة، لكن نتعامل مع الموقف بذكاء، وعلى العموم الوضع أفضل حالاً من المصنع كما أنه أعلى دخلاً في الوقت ذاته.
واختتمت فاطمة حديثها بصوت مبلل بالدموع: “الكثير من الجيران لا يعرفون ماذا نعمل، فهم لا يروننا إلا صباحًا عند الخروج وفي العودة آخر اليوم، معتقدين أننا نعمل في مصنع أو شركة أو عيادة طبيب، لكننا والله ما لجأنا إلى هذا العمل إلا حين أغلقت كل السبل أمامنا، ولو عادت الأمور إلى وضعها الطبيعي لن نخرج يومًا آخر للتسول، فهو مذلة ومغامرة ما دفعنا إليها إلا الشديد القوي”.
25 مليون مواطن في خطر
لم تكن أسرة فاطمة وحدها ضحية قانون الجمعيات الأهلية الذي أقره البرلمان المصري وصادق عليه الرئيس عبد الفتاح السيسي، إذ هناك ما يقرب من حياة 25 مليون مصري باتت مهددة بعد غلق نوافذ الخير أمامها، وذلك وفق الإحصاءات التي أشارت إليها الأجهزة الرسمية.
ففي تقرير للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء أكد أن 27.8% من السكان في مصر فقراء، بما يعني نحو 25 مليون مواطن، ولا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية من الغذاء وغيره، وأن 57% من سكان ريف الوجه القبلي فقراء مقابل 19.7% من ريف الوجه البحري.
وبحسب تصريحات اللواء أبو بكر الجندي رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، خلال مؤتمر”عن الدخل والإنفاق والاستهلاك في مصر”، فإن نسبة الفقر 27.4% في حضر الوجه القبلي، وتقل النسبة إلى 9.7% في حضر الوجه البحري، موضحًا أن نسبة الفقراء في مصر وصلت إلى أعلى مستوياتها في محافظتي سوهاج وأسيوط بنسبة بلغت 66%، تليهما محافظة قنا بنسبة 58%، وأقل نسبة للفقراء في مصر في محافظة بورسعيد بنسبة 6.7%، تليها محافظة الإسكندرية بنسبة 11.6%، وأن 18% من سكان القاهرة فقراء.
الناشط الحقوقي أكرم سعد الدين، أشار إلى أن إقرار هذا القانون حرم الحكومة المصرية من دور المجتمع الأهلي في تحمل أعباء كبيرة كان يقوم بها، ومن ثم فتح على النظام سهامًا من الانتقادات والأعباء الإضافية.
وأضاف أنه منذ تصديق الرئيس على القانون فإن الجيوش من الأفواه المفتوحة والأيادي الممدودة والصرخات العالية باتت تؤرق مضاجع الحكومة والجهات التابعة لها، ولم يعد أمامها إلا خيار من اثنين: إما الاستجابة وهو ما لا تطيقه في ظل ظروفها الراهنة أو تركهم فريسة للشارع وهو ما بدت إرهاصاته منذ فترة.
بينما كشف أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية سعيد صادق، إلى أنه في ظل السياسات المتبعة فمن المرجح أن تزداد معدلات الفقر خلال الفترة القادمة ما لم يكن هناك إجراءات سريعة لتخفيف حدة الضغوط على محدودي الدخل، وأضاف لـ”نون بوست” أن الفقر وشدة الحاجة يدفعان الأسر إلى البحث عن أي منفذ للحصول على لقمة العيش، بعضها ربما يكون بطرق غير شرعية، وهو ما يحمل تهديدات أمنية ومجتمعية من شأنها أن تضع مستقبل المجتمع المصري بأكمله على المحك.
محمد عامر مدير إحدى الجمعيات الخيرية بمحافظة الشرقية، عبر عن صدمته من هذا القانون الذي وصفه بـ”العار”، مشيرًا أنه سيتسبب في غلق الآلاف من منافذ الخير والمساعدة التي كانت تقدم للفقراء والمحتاجين.
عامر في تصريحات سابقة لـ”نون بوست” أشار إلى أن الجمعيات كانت تؤدي دورًا محوريًا في إحداث حالة من التوازن داخل المجتمع، من خلال تبني بعض الأسر الفقيرة، تعليمًا وطعامًا وشرابًا وزواجًا وصحة، ما يخفف عن كاهل الدولة، ملفتًا أن الجمعية التي يرأسها كانت تكفل ما يقرب من 5 آلاف أسرة، ما بين يتامى وأرامل وكبار السن، واليوم وفي ظل هذا القانون من المرجح أن تتوقف هذه النشاطات، متسائلاً: من يتحمل ذنب هذه الأسر؟
وكان عضو مجلس النواب المصري هيثم الحريري، قد علق على هذا القانون بقوله إنه خرج في مناخ غير صحي، مشيرًا إلى أنه لا يوجد أي حوار مجتمعي عن القانون، مضيفًا أنه سيقيد عمل الجمعيات، لأنه خلق جهازًا موازيًا للتضامن الاجتماعي يرأسه مجلس حرب مصغر، متابعًا: “الجمعيات الأهلية في مصر بتشتغل بـ60 مليار جنيه في خدمة المصريين، منها مستشفيات وغيره، وليس كل الجمعيات الأهلية في مصر جمعيات حقوقية”.