فرضت الولايات المتحدة الأمريكية، مساء الثلاثاء، عقوبات على اثنين من المحققين في الحرس الثوري الإيراني، لتورطهما في انتهاكات خاصة بحقوق الإنسان في إيران، في تطور لافت للنظر ربما يكون له انعكاساته على مستقبل التفاوض بين واشنطن وطهران الخاص بالاتفاق النووي.
في بيان لها نشرته على موقعها على الإنترنت ذكرت الخارجية الأمريكية أنها فرضت عقوبات على “المحققَين في الحرس الثوري الإيراني علي همتيان ومسعود صفدري، بسبب ضلوعهما في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان”، فيما نُقل عن وزير الخارجية أنتوني بلينكن، قوله: “اليوم في مجلس حقوق الإنسان في جنيف، أكدنا مخاوفنا إزاء الانتهاكات التي ترتكبها الحكومة الإيرانية ضد مواطنيها، بما في ذلك الاعتقال غير العادل لعدد كبير جدًا في ظروف يُرثى لها”.
وأضاف وزير الخارجية “سنعمل أيضًا مع حلفائنا لتعزيز المساءلة عن مثل هذه الانتهاكات والتجاوزات”، متعهدًا أن بلاده ستواصل دعم الملف الحقوقي في إيران في مواجهة الانتهاكات السلطوية الممارسة، “وستطالب الحكومة الإيرانية بمعاملة شعبها باحترام وكرامة”.
خطوة تتزامن مع السجال المتبادل بين البلدين منذ قدوم جو بايدن للجلوس على مائدة المفاوضات لتحريك المياه الراكدة في الملف النووي المجمد منذ الانسحاب الأحادي للرئيس السابق دونالد ترامب قبل ثلاث سنوات، فيما لم يصدر أي تعقيب رسمي من السلطات الإيرانية حتى كتابة هذه السطور.
الملف الحقوقي
من الواضح أن القرار الأمريكي الذي جاء بصورة كبيرة مغايرًا للتوجه العام الذي يميل نحو تخفيف الأجواء مع طهران من خلال عدد من الإجراءات الدبلوماسية المتخذة منذ إمساك بايدن بمقاليد الأمور، يهدف إلى الاتجاه من أجل مواصلة الضغط على إيران لإثنائها عن موقفها المتعنت إزاء المفاوضات.
وربما يكون ملف حقوق الإنسان هو الأداة الأسرع والأكثر تأثيرًا للضغط على الملالي وهو ما عبر عنه بلينكن بقوله: “سنستمر في النظر بجميع الأدوات المناسبة لمحاسبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان وتجاوزاتها في إيران” في رسالة مبطنة بأن العقوبة الموقعة بحق محققي الحرس الثوري لن تكون الأخيرة.
وتشغل إيران جزءًا كبيرًا من اهتمامات الإدارة الأمريكية الجديدة، فرغم حالة التوتر التي كانت عليها العلاقات بين البلدين خلال ولاية ترامب التي شهدت موجات متتالية من العقوبات الاقتصادية والسياسية على طهران، كان لها تأثيرها القوي على الاقتصاد الوطني للبلاد، ما دفعها لتصريف مخزونها النفطي عبر طرق غير شرعية، فإن الأمر تغير نسبيًا مع قدوم بايدن.
حرصت الإدارة الديمقراطية على تقديم مبادرات حسن النوايا مع النظام الإيراني، فأعربت عن نيتها في العودة للاتفاق النووي، وتعهدت بالنظر في مسألة رفع العقوبات، كما أنها أزالت اسم جماعة الحوثي المدعومة إيرانيًا من قائمة الكيانات الإرهابية.
لكن في المقابل وضعت واشنطن شروطًا أخرى مثل إرسال خبراء من الوكالة الدولية للطاقة الذرية للبحث الدقيق والتفتيش الإلزامي عن أسلحة نووية إيرانية، بجانب مراقبة ما وصل إليه مستوى التخصيب، ووضع المشروع النووي الإيراني تحت المراقبة لمدة ثلاثة أشهر، وهي الإجراءات التي أثارت حفيظة الإيرانيين.
وبينما كان ينتظر الأمريكان تثمين مساعيهم للتقارب مع طهران من خلال تلك المبادرات، إذ بالمرشد علي خامنئي يصعد ضد واشنطن، مؤكدًا استمرار العمل في المشروع النووي، منوهًا في الوقت ذاته خلال اجتماع حضره الرئيس حسن روحاني إلى أن سقف تخصيب اليورانيوم في إيران قد يرتفع حتى 60% وفقًا لحاجات البلاد.
خطوة للخلف
تزامنت العقوبات الأمريكية مع تراجع نسبي في الموقف الإيراني بشأن الملف النووي، كما جاء على لسان الرئيس روحاني الذي قال في تصريحات له اليوم، إن بلاده تتبع سياسة خطوة مقابل خطوة في الملف النووي، ورفع جميع العقوبات سيقابل بالتراجع عن خطواتها كافة.
روحاني – وعلى عكس التصعيد على مدار الساعات الماضية -، أشار إلى أن” الظروف باتت مناسبة لعودة جميع الأطراف لتنفيذ الاتفاق النووي، وعلى واشنطن اتخاذ الخطوة الأولى”، مؤكدًا أنه في حال عودة واشنطن للاتفاق فستتراجع طهران عن خطواتها في خفض التزاماتها النووية.
الخلاف الدائر بين واشنطن وطهران لم يتعلق بمسألة مبدأ العودة للاتفاق النووي، إذ أعلنت إدارة بايدن رغبتها في ذلك، فيما رحبت إيران بهذا التوجه الجديد، بيد أن عقدة الخلاف الآن تكمن في مطالبة كل طرف الطرف الآخر بأن يبادر بالخطوة الأولى.
أمريكا تطالب إيران بالتخلي أولًا عن التزاماتها النووية ووقف التصعيد في مجال التخصيب كشرط للتفاوض، بينما تتمسك طهران برفع العقوبات الأمريكية على البلاد كخطوة أولى قبل الانطلاق في المفاوضات، وبين هذا وذاك يمارس كل طرف ضغوطه الخاصة لكسب المزيد من النقاط.
الضغوط الداخلية ربما تكون عاملًا مهمًا في إرجاء الجلوس على مائدة المفاوضات، إذ يمارس الجمهوريون والديمقراطيون معًا ضغوطًا على بايدن لإبرام اتفاق يعيد فرض قيود على برنامج إيران النووي، ويحد من برنامجها للصواريخ الباليستية، مطالبين بالتعاطي مع طهران عبر آليات دبلوماسية وعقوبات حتى تراجع سلوكها الخبيث.
وفي الجهة الأخرى يصر المحافظون في إيران على المضي قدمًا في مسار التصعيد مع الأمريكان، معتبرين أن ما قامت به من ضغوط اقتصادية طيلة السنوات الماضية كفيل بعدم الاستجابة لأي محاولات تجريها الآن، مطالبين روحاني وحكومته بمواصلة تدشين المشروع النووي مهما كانت التداعيات.
سياسة الشد والجذب
المحلل السياسي المصري، أسامة الهتيمي، يرى أن العلاقات الأمريكية الإيرانية في ظل إدارة بايدن ستكون مختلفة إلى حد كبير عما كانت عليه زمن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، لافتًا إلى أن العلاقات في الولاية الحاليّة ستكون وسطًا بين سياسة ترامب وأوباما.
وأضاف الكاتب المتخصص في الشأن الإيراني أن إدارة بايدن ستحاول قدر الإمكان تجنب ما يوتر الأجواء فيما بين الطرفين، لكنها في الوقت ذاته ستسعى جاهدة لانتزاع بعض المكاسب التي يجمع الأمريكيون على أهميتها، التي بطبيعة الحال ستكبح جماح إيران وتبقي على دورها الأساسي في المنطقة، بحسب تصريحاته لصحيفة “الفتح” السلفية المصرية.
المشهد رغم السجال الدائر بين الطرفين لا يمكن أن يصل إلى مظاهر التوتر التي كان عليها إبان ولاية ترامب، فلغة الحوار والدبلوماسية هي الشائعة في التحاور رغم التشبث بالمواقف من الجانبين، وفقًا للهتيمي الذي يرى أن لغة التصعيد الإيرانية لا تعدو كونها محاولةً للضغط للدفع باتخاذ إجراءات سريعة وفورية لتفعيل الاتفاق النووي، مستبعدًا سعيها لامتلاك سلاح نووي في الوقت الراهن “لأنها تدرك أن مجرد الاقتراب من امتلاك هذه القدرة يعني تجاوز الخطوط الحمراء التي يمكن أن تدفع واشنطن وحلفاءها إلى التصعيد معها” على حد قوله.
آخرون يذهبون إلى أن الدبلوماسية المرنة التي تتبعها إدارة بايدن مع الإيرانيين ستسهم فقط في تخفيف حدة التوتر لكنها لن تثنيهم عن إكمال مشروعهم في امتلاك سلاح نووي، إيمانًا منهم بأنه الأداة الوحيدة التي ستعزز مكانتهم الإقليمية والدولية وتضعهم في مصاف الدول الكبرى.
أنصار هذا الرأي يشيرون إلى أن امتلاك سلاح نووي هو حلم يراود الإيرانيين منذ نشأة الدولة الإسلامية عام 1979، ومنذ هذا التاريخ تمارس واشنطن سياسة العقوبات والتجميد، ومع ذلك لم تفض إلى شيء في هذا الملف تحديدًا رغم الخسائر التي تعرضوا لها خلال العقود الماضية.
وفي الأخير تأتي العقوبات الأمريكية بحق محققي الحرس الثوري وما سبقها من تصعيد حوثي ضد السعودية في إطار سياسة الشد والجذب بين طهران وواشنطن، لكسب قدر أكبر من النقاط التفاوضية حين يجلس الجميع على طاولة واحدة، ليبقى الجميع في انتظار الطرف الأطول نفسًا، وعليه من سيبادر بالخطوة الأولى.