يمرُّ لبنان بأيام صعبة يتأرجح فيها بين الدعوة إلى حوار وطني والانزلاق نحو الفوضى، في ظلّ انسداد أفق الحلّ السياسي من ناحية وتفاقم الأزمة الاقتصادية المعيشية من ناحية أخرى، حيث بلغ الانهيار الاقتصادي المالي مستويات غير مسبوقة من قبل، ليتخطّى سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الليرة اللبنانية الـ 33 ألف ليرة لأول مرّة في تاريخ لبنان.
هذا الارتفاع أشعل أسعار كلّ السلع، بما فيها المحروقات والطحين والأدوية والمواد الغذائية والخضروات والملابس وكلّ شيء، كما رفع كلفة الكهرباء والمواصلات، وهدّد برفع كلفة الاتصالات أيضًا في وقت قريب، وقد أثّر هذا الوضع بشكل كبير على المواطنين حيث تراجع مستوى الكثير من الخدمات العامة، فضلًا عن تراجع قدرة المواطنين على الصمود أمام زحف الأسعار.
كل هذا دفع الاتحاد العمالي العام واتحاد النقل البرّي إلى إعلان الإضراب العام يوم الخميس 13 يناير/ كانون الثاني 2022، وتحويل هذا اليوم إلى يوم غضب عام على كل الأراضي اللبنانية، وقد شارك في هذا الإضراب المدارس والمصارف وشركات توزيع المحروقات والجامعات والإدارات العامة وغيرها.
أمّا عن الموطنين، فقد كان مستوى التجاوب مع الإضراب وقطع الطرقات متفاوتًا بين منطقة وأخرى، وقد عزا البعض السبب في ذلك إلى عدم ثقة المواطنين حتى بالاتحادات النقابية والعمّالية التي يرتبط أغلبها بالقوى السياسية المتَّهمة بالفساد، والتي تخوض صراعات فيما بينها على قاعدة المحاصصة وكسب المزيد من الغنائم، ولو على حساب الناس.
وفي مقابل تحرُّك الشارع الذي وُصف هنا في بيروت بالخجول حتى الآن، كان رئيس الجمهورية ميشال عون يقوم باستشارات مع رؤساء الكتل النيابية، بهدف الدعوة إلى عقد حوار وطني حول عناوين يعتبرها رئيس الجمهورية أساس المشكلة في البلد، وفي مقدّمتها الاستراتيجية الدفاعية التي تبحث ملف السلاح خارج إطار الدولة.
والبحث أيضًا في اعتماد اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة، مع ما يعنيه ذلك من تعديل النظام السياسي للبلد والخروج عن مبادئ وثيقة الوفاق الوطني، وخطة التعافي الاقتصادي التي يعدّها البعض من مهام الحكومة المعطَّلة بفعل الانقسام السياسي ووضع فيتو على عقد اجتماعات للحكومة، بانتظار البتّ بمصير المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت، القاضي طارق البيطار.
المواقف السياسية التي سبقت أو ترافقت أو تلت المشاورات التي أجراها رئيس الجمهورية ميشال عون للدعوة إلى الحوار، أظهرت أنّ هذه الدعوة وُلدت ميتة، فبعض القوى السياسية الرئيسية، ومنها كتلة المستقبل برئاسة سعد الحريري، وكتلة الجمهورية القوية برئاسة سمير جعجع، وكتلة اللقاء الديمقراطي بزعامة وليد جنبلاط؛ أعلنت مسبقًا رفض الحوار في ربع الساعة الأخير من عمر عهد الرئيس ميشال عون المتبقّي، وهو حوالي 8 أشهر.
وبعض القوى السياسية الأخرى، ومنها كتلة تيار المردة بزعامة سليمان فرنجية، وكتلة اللقاء التشاوري المشكّلة من بعض النواب السنّة، تحفّظت على الحوار في هذا التوقيت وتمنّت التأجيل أو التريُّث بالدعوة؛ وبعض القوى الأخرى اللصيقة بالعهد أو القريبة منه، مثل تكتُّل لبنان القوي بزعامة صهر الرئيس عون النائب جبران باسيل، وكتلة الوفاء للمقاومة التابعة لحزب الله، طالبت بعقد الحوار بمن حضر.
يدرك الجميع أنّ الحوار في لحظة انسداد أفق الحلول السياسية الإقليمية، بل في لحظة الضغوط الدولية والعربية، لا يمكن أن ينتج حلًّا أو خروجًا من المأزق، لكن الخوف والقلق باتا في إمكانية لجوء البعض إلى استخدام فشل الدعوة إلى الحوار، كذريعة من أجل اللجوء إلى الفوضى والعنف الشارعي لتغيير المعادلة والتخفيف من وطأة الضغط الاقتصادي، ومحاولة لفتح كوّة ولو بسيطة أو متواضعة في جدار الأزمة السياسية.
ومن هنا يتخوّف البعض من تأرجُح الوضع اللبناني خلال المرحلة المقبلة، بين التهديد بالفوضى أو التلويح بها بأشكال متعددة ومختلفة، وبين الدعوات إلى حوار ينكفئ به البعض عن خياراته السياسية، لإنتاج معادلة جديدة تكرّس الغلبة لطرف على حساب طرف آخر، أو ربما تدخل البلد في دوّامة من التأرجح والفوضى بانتظار جلاء الصورة على المستوى الإقليمي.
وقد أشار إلى ذلك رئيس الحكومة الحالية، نجيب ميقاتي، عندما صارح اللبنانيين بالقول إنّ الصراعات السياسية ستبقى مستمرة حتى نهاية عهد الرئيس ميشال عون، وهو ما يعني انعدام الوزن السياسي في لبنان، وما يعني أيضًا استمرار الأزمة الاقتصادية وربما تفاقمها بشكل غير مسبوق قد يهدِّد بنسف الانتخابات النيابية المقرَّرة في 15 مايو/ أيار المقبل، كما يهدِّد بنسف الانتخابات الرئاسية في الخريف المقبل، وهو ما قد ينسف كيان لبنان بشكل كامل والذهاب إلى صيغة جديدة مختلفة عن لبنان الذي عرفه العرب والعالم، على أنّه كان ذات يوم سويسرا الشرق.