مع أنها ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، ومع كونها جاءت في وقت تشهد فيه الكثير من مناطق العالم أزمات كبيرة على جميع الأصعدة؛ إلا أن تفجيرات باريس الأخيرة حظيت باهتمام رسمي وشعبي منقطع النظير وكأنها تحدث لأول مرة.
تلا الحادثة – كما العادة – شجب واستنكار وتراشق بالاتهامات بين التيارات الفكرية المختلفة وتحميل كل طرف لعدوه مسؤولية ما حدث.
ما جَد هذه المرة أن باريس دعت إلى مظاهرة مليونية رسمية وشعبية ضد الإرهاب، هنا لا بد لنا أن نتساءل: ما هدف باريس من هذه الدعوة ولماذا جعلتها على صعيد الحكومات ولم تكتف بالحشد الجماهيري، بل لماذا حرص معظم قادة الدول وخاصة الأضداد على التواجد في الصفوف الأولى للمظاهرة؟
قبل الإجابة لا بد من مرور سريع على علاقة فرنسا بالملفات الساخنة في المنطقة.
أولاً الملف الفلسطيني
يستطيع المتابع للملف الفلسطيني أن يرى التوجه الجاد لأوروبا وعلى رأسها فرنسا نحو الاعتراف بالقضية الفلسطينية ولو جزئيًا، وأيضًا الدعم الواضح لجعل فلسطين جزءًا أساسيًا من الاتفاقيات الدولية وخاصة في المجال الجنائي وجرائم الحرب، كما لا يمكن إغفال الدور الفرنسي في قرار المحكمة الأوروبية بإزالة حماس من قائمة الإرهاب، كون فرنسا واحدة من أهم دول الاتحاد إلى جانب بريطانيا وألمانيا.
كل ما ذُكِر هنا كانت إسرائيل تراقبه عن كثب وهو بالتأكيد لا يصب في صالحها بأي حال من الأحوال، خاصة بعد الصراع السياسي الكبير الذي تشهده حكومتها إثر فشلها في حربها الأخيرة على غزة.
ثانيًا الملف السوري المصري
تركيا وعلى مدى سنوات حظيت بعلاقة عالية التوتر مع نظيرتها فرنسا من خلال رفض الأخيرة لتواجد تركيا في الاتحاد الأوروبي وتبنيها لقضية الأرمن المتهمة فيها تركيا بإقامة مذبحة بحقهم قبل عقود.
أحداث كبيرة حدثت في منطقة الشرق الأوسط من ثورات شعبية إلى تبدل ميزان القوى وظهور قوى أيدلوجية دينية وحركات تحرر شعبية؛ جعلت لتركيا دورًا مهمًا على الصعيد الإقليمي بسبب سياستها المتوازنة بين معسكرات الصراع الدولية (أمريكا، أوروبا، روسيا، إيران، العرب).
هنا بدأت السياسة تفرض مصالحها وكان لابد لأوروبا أن تمد خيوط تواصل مع الجارة المكروهة تركيا لتحقيق مكاسب سياسية ونفوذ أكبر في الملفات الساخنة خاصة في الوضع السوري.
تدريجيًا تحولت علاقة التوتر إلى تقارب حذر لكنه واضح ويمكن رؤيته بالعين المجردة وبدأت لغة العداوة تزول من الخطابات الرسمية بين البلدين في جو تناغم في المواقف كان واضحًا بتبني فرنسا مرارًا التوجه التركي فيما يخص القضية السورية وجعل ملف التقارب مع مصر السيسي مجمدًا برغم أن الاتحاد الأوروبي بدأ بتطبيع العلاقات مع نظام الانقلاب في مصر والذي مازالت تركيا تعتبره العدو الأول لها.
إسرائيل والتي تحاول جاهدة أن يبقى المشهد السوري في صراع دائم بلا حسم وأن يتوجه الوضع في مصر إلى الاستقرار للسيسي الحليف الأكبر لها منذ أيام ثورة 25 يناير، أرادت صرف أوروبا عن موازنة مواقفها في المصالح مع تركيا فيما يخص أزمات الشرق الأوسط وأن تتخذ مواقف أكثر وضوحًا بتحقيق مصالحها هي، هنا لم يكن ينقصها سوى صناعة فزاعة ضمن مسرحية دولية وشماعة الإرهاب تتسع للجميع والتطرف الإسلامي متهم من غير نيابة.
مظاهرة باريس
بعيدًا عن الخوض في تكهنات من يقف وراء تنفيذ العملية وعن كونها إرهابية أم مبررة، دعا الرئيس الفرنسي إلى مظاهرة ضد الإرهاب توجت بطعم التفويض، وجاءت الدعوة على مستوى قيادات الدول ورؤساء الأحزاب والتجمعات الدينية والسياسية، الملفت في الأمر أن زعماء الدول تهافتوا على تلبية الدعوة وتأكيد مشاركتهم في التظاهرة، بلا شك إن زعماء الدول المشاركة لم يأتوا تضامنًا مع الـ 12 فرنسيًا الذين قُتلوا إثر الحادثة أو من أجل تقديم التعازي للنائحة الثكلى فرنسا.
في مشهد ملفت جمعت التظاهرة بين الأعداء الافتراضين أمثال عباس و”نتن ياهو” وداود أوغلو ناهيك عن الدول العربية والأحزاب اليسارية واليمينية المتصارعة، هنا وبشكل واضح يمكن أن نفهم أن تظاهرة باريس كانت عنوانًا واضحًا لحرب باردة بين الإخوة الأعداء من الدول خاصة المتناحرين في المصالح في محاولة منهم لجعل هذا التفجير الذي ألبسه المُخطِط ثياب الدين الإسلامي يصب في صالحه كدولة وكمشروع.
جميع الزعماء المشاركين هتفوا ضد الإرهاب وفي ذاكرة معظمهم صور القمع للشعوب العربية التي انتفضت على طغيان الشرق ونرجسية الغرب.
إن الإرهاب الذي هتف ضده داوود أوغلو ووزير خارجية المغرب لم يكن بالتأكيد ذات الإرهاب الذي هتف ضده الـ “نتن ياهو” وعباس.
تظاهرة باريس باختصار كانت ساحة صراع باردة لحصد أكبر مكاسب من نتائج تفجير الصحيفة الفرنسية وبشكل سافر، فقط الأيام القادمة كفيلة في تبيان الكاسب الأكبر من هذه المسرحية الكبيرة بحسب توجه كفة السياسية الفرنسية وبالتالي الأوروبية.
أما الحديث عن تطرف ديني وإرهاب فتلك مسرحية أُحرِقت أوراقها منذ أحداث سبتمبر.