“رغم الصعاب، تبقى آفاق الديمقراطية في العالم جيدة”، فرانسيس فوكوياما.
في عام 1989 وعلى خلفية الأحداث المتسارعة في القطب الشيوعي من العالم، كتب محلل وباحث سياسي أمريكي مغمور اسمه فرانسيس فوكوياما مقالًا نُشر في مجلة المصلحة الوطنية الأمريكية تحت عنوان “نهاية التاريخ”، حيث ناقش في مقاله كيف أن الديمقراطية والليبرالية الغربية انتصرت على كل الأشكال الأخرى من الحكم في العالم، وجد المقال ترحيبًا كبيرًا من قِبل السياسيين والنقاد وخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي؛ ما شجع فوكوياما على التوسع أكثر في صياغة أفكاره وطرحها في كتاب سماه “نهاية العالم والإنسان الأخير” والذي نشر في عام 1992، في كتابه هذا يقول إن الديمقراطية الليبرالية هي الشكل الوحيد الناجح للحكم في عالمنا الحديث اجتماعيًا واقتصاديًا، وليستمر هذا النظام لابد من إصلاحات اقتصادية جذرية لتحويل السوق إلى ساحة ديمقراطية حرة موازية للديمقراطية السياسية.
ولكن توقعات فوكوياما وغيره من المحللين لم تكن في مكانها، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي لم تتمكن الديمقراطية الغربية من اجتياح العالم والانتصار على النُظم السياسية الأخرى، ولم تؤد الإصلاحات الاقتصادية إلى إحداث تغييرات جذرية في المجتمعات غير الغربية، فالصين مثلًا كانت تشهد نموًا اقتصاديًا باهرًا منذ الثمانينات بعد الإصلاحات الجذرية وفتح سوقها أمام المستثمرين الأجانب، ولكن هذا النمو والانفتاح لم ينعكس على النظام السياسي هناك، فالحزب الشيوعي الحاكم “حزب الشعب الصيني” احتفظ باحتكاره للسلطة كل هذه السنوات بدون أي نية لتغيير طرق إدارة الدولة أومجاراة الغرب في طرقه الخاصة للحكم، ومن جهة أخرى تظل روسيا رغم تبنيها لنظام التعددية الحزبية وديمقراطية الانتخابات وتخليها عن أطماعها الشيوعية التوسعية إلا أنها تظل دولة مركزية قمعية وهذا حال الكثير من دول أسيا وأمريكا الجنوبية، أما أفريقيا فلاتزال تعاني من مشكلة بناء نُظم حكم قوية.
فما الذي حدث لنظرية انتهاء التاريخ؟، لماذا فشلت الإصلاحات الاقتصادية لقيادة الدول نحو ديمقراطية سياسية حقيقية؟ لماذا نجحت دول لا تمتلك الكثير من الموارد الاقتصادية على تبني ديمقراطيات حقيقية في حين فشلت دول غنية فشلًا ذريعًا في هذا المجال؟ فما السبب؟
العودة إلى الجذور
بعد أن فشلت نظريته السابقة، عاد فوكوياما ليصيغ أفكاره من جديد باحثًا عن إجابة أكثر رصانة من كتابه الأول، فقام بمراجعة عميقة وصارمة لتاريخ الأنظمة السياسية في العالم منذ العصور الحجرية حتى يومنا هذا، متطرقًا إلى الحضارات البشرية البدائية مرورًا بإمبراطوريات الصين والهند والروس وصولًا إلى ظهور الإسلام وتأثيره على الحضارات القائمة ومتدرجًا بعدها إلى سقوط الأندلس وظهور القوى الاستعمارية الغربية واكتشاف شمال وجنوب أمريكا.
وبعد جهد طويل نشر فوكوياما بحثه في مجلدين أولهما تحت عنوان “أصول النظام السياسي: من ما قبل الإنسان حتى الثورة الفرنسية”، نُشر في 2012 والثاني تحت عنوان: “النظام السياسي والتدهور السياسي: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديمقراطية”، نشر في 2014، هذان الكتابان يعتبران أهم ما تم كتابته حتى الآن في علم التطورات السياسية والأنظمة الحاكمة، فهذا العمل الجبار ينظر إلى كل العوامل التي قادت شعوب العالم إلى انتهاج نهج معين لتحكم نفسها به، أهم ما جاء في بحثه هو أن أي نظام من هذه النظم التاريخية في العالم كان دائما نابعًا ومتجذرًا من تاريخ مجتمعه بحيث لا يمكن زرع نظام معين في بيئة غير صالحة له تاريخيًا.
يعترف فوكوياما في كتابيه الأخيرين أن التاريخ أعمق وأكثر تعقيدًا مما تصوره سابقًا، فهو لا يتحدث عن نهاية للتاريخ بل عن تاريخ مستمر وذي جذور عميقة نحو هدف معين، نظريته الجديدة يمكن اختصارها بعبارته “الوصول إلى الدنمارك”، ولا يعني بها دولة الدنمارك نفسها ولكن نظام حكمها الديمقراطي وتعدديتها الحزبية والحريات الليبرالية، بمعنى كيف وصلت الدنمارك وغيرها من الدول الديمقراطية إلى ما هي عليه اليوم وكيف تخلصت من القبلية والمحسوبية والظلم إلى دولة ليبرالية لا تميز في طريقة تعاملها مع مواطنيها عرقيًا أو دينيًا أو أيديلوجيًا؟
والسؤال هو كيف تجعل دول مثل العراق وسوريا والصومال واليمن وليبيا وغيرها من دول هشه إلى دول متحضرة وديمقراطية مثل الدنمارك وبريطانيا وفنلندا وغيرها من دول الغرب؟ وكيف نقيس مدى نجاحها في إصلاح ذاتها؟ يجيب فوكوياما فيقول إن أي نظام سياسي ناجح يجب أن يقوم على ثلاث أسس ثابتة وهي:
– دولة قوية ذات نفوذ في كل المجالات.
– سيادة القانون وتساول الجميع أمامه.
– المساءلة الإجرائية والديمقراطية.
فالديمقراطية بالنسبة له تعتبر تحصيل حاصل لهذه العوامل الثلاث، فلو كانت الحكومة قادرة على ممارسة نفوذها بكل قوة في جميع أرجاء الدولة، وكانت سيادة القانون فوق كل شيء حيث يقف الكل متساوين أمامه، وكانت هناك مساءلة إجرائية حقيقية للحكومة وموظفيها فهذا كله يضمن تدرج الدولة ولو ببطء نحو تبني نظام ديمقراطي حقيقي تعددي منفتح على كل أطياف النسيج الأيديلوجي والعرقي للدولة.
ديمقراطية محلية غير مستوردة
يشرح فوكوياما أيضًا أهمية العودة إلى النُظم المحلية التي كانت قائمة في بعض الدول قبل الاستعمار، فأفريقيا وبعض دول شرق أسيا كانت لديها نُظم “قبلية” محلية كانت تدير أمورها، فبعض قبائل أفريقيا مثلًا كانت تتمتع بنظام قبلي ديمقراطي حيث يتم اختيار “شيخ” للقبيلة من خلال ممثلي المجتمع، في نظام قائم على تنصيب ممثلي للمجتمع (شيوخ القبيلة) يحق لهم مناقشة مشاكلهم في مجلس خاص يمكن اعتباره “مجلس الشيوخ” ويكون القرار الأخير بيد شيخ القبيلة والذي لا يمكنه أن يتجاوز ما أجمع عليه مشايخ القبيلة، ولو فعل هذا وتجاوزهم في قراراته، يتم عزله وأحيانًا طرده من القبيلة ويتم استبداله بآخر.
الاستعمار لم يفهم أن أفريقيا وغيرها تتمتع بديمقراطية محلية ولم يدرك أن قادة هذه المجتمعات لا يمكنهم اتخاذ قرارات تخالف آراء ممثليها، بل جاء وانتزع كل هذه الحقوق والحريات ووضع عليهم ديكتاتوريات استبدادية ليسهل عليه التعامل مع ثروات هذه البلاد ليسخرها في خدمة مصالحه الخاصة، فالاستعمار كان ينظر إلى هذه الدول والمجتمعات على أنها مجرد كنوز ثمينة يجب استنزافها بأقصى سرعة قبل انتهاء زمن التوسعات الإمبريالية.
ما تعيشه بلدان العالم الثالث اليوم ليس سوى محصلة لتدخل الاستعمار فيها وخروجه السريع منها قبل بناء نُظم حكم راسخة وعادلة في قضائها ومساءلتها لموظفيها، فالحل في نظر فوكوياما هو العودة إلى تاريخ هذه المجتمعات والبناء على أسس متجذرة في تقاليد وعادات السكان الأصليين لهذه الدول قبل المسير قُدمًا نحو الدنمارك، هذا سيأخذ الكثير من الوقت والجهد، فكما ظهر لنا في تاريخنا الحديث في أفغانستان والعراق وغيرها من المناطق لا يمكننا استيراد نُظم حكم مصنعة بالخارج وتفعيلها في بيئة غير مهيئة لها، يحذر فوكوياما فيقول: “علينا أن نكون حذرين من الغرباء الذين يأتون إلينا بهدايا الحداثة وبناء المؤسسات”.
من جهة أخرى يشكك فوكوياما في مزاعم من يقولون إن الإسلام غير متوافق مع الديمقراطية، حيث يشرح مفهوم الشورى وكيف تم اختيار الخلفاء الراشدين وكيف أن دول إسلامية عديدة مثل تركيا وإندونيسيا وماليزيا وغيرها تبنت الديمقراطية والتعددية الحزبية، ثم يتطرق للربيع العربي ويصفه بأنه أشبه ما يكون بما شهدته أوروبا من فوضى وتقلبات سياسية في القرن الثامن عشر الأمر الذي قاد أوروبا لبناء مؤسساتها السياسية الحديثة. يصر فوكوياما فيقول: “الإسلام ليس عدوًا للديمقراطية”، ثم يشرح كيف أن الأحزاب السياسية الإسلامية كانت أحرص من غيرها على الديمقراطية، فالليبراليون تحالفوا مع العسكر والأنظمة الاستبدادية السابقة حرصًا على مصالحهم الخاصة بعد أن فشلوا في مجاراة الإسلاميين عبر صناديق الاقتراع.
الديمقراطية التدرجية
الأمر الذي قد يصدم الكثيرين في دراسة فوكوياما هو أنه يتبنى مفهوم مغاير لكل ما كان متعارفًا عليه في الطرق الكلاسيكية لبناء الدول، فعادة يتم بناء مؤسسات شبيهم بنظيراتها الغربية وبعدها يتم ترك الأمور للقادة المحليين ليحلوا مشاكلهم باستخدام هذه الأدوات المستوردة، وهذا ما فعله الأمريكان بعد حل نظام صدام حسين في العراق واجتثاثهم لكل مقومات الدولة والبناء دولة جديدة على أرضية فارغة بعيدة عن عادات وتقاليد وتاريخ العراق وأهله، وها نحن نرى كيف يتدهور هذا النظام المصطنع والمجبور على العراقيين.
فوكوياما يرى أن الديمقراطية ليست أهم شيء في الدولة فأهم منها هو بناء دولة قوية قادرة على حكم البلاد بشكل فعّال حتى لو كانت ديكتاتورية وذات حزب واحد، ويعطي أمثلة عديدة لشرح نظريته هذه؛ فاليابان وكوريا الجنوبية وحتى تنزانيا كانت دول ذات حكم ديكتاتوري شمولي قوي قبل أن تتدرج نحو الديمقراطية، وعليه فإنه يرى تأجيل الديمقراطية حتى تقوم دولة قوية قادرة على النهوض بالدولة اقتصاديًا حتى تتقلص الفجوة العميقة بين الفقراء والأغنياء ويكون هناك طبقة أخرى قوية في المجتمع تسمى “أصحاب الدخل المتوسط”، هذه الطبقة الوسطى هي وحدها القادرة على تفعيل عجلة السير نحو الديمقراطية، وكلما كثر عدد هذه الطبقة ونضجت فكريًا كلما تضاعفت فرص تغيير النظام الديكتاتوري إلى نظام تعددي ديمقراطي.
ففقراء أوروبا لم يصنعوا الديمقراطية في بلادهم، بل صنعها أصحاب المصالح الوسطى والذين حاولوا تقليص الفجوة بينهم وبين الأثرياء والأسر الحاكمة، ولأنهم كانوا مصممين على الحد من نفوذ الأثرياء، قاموا بالمطالبة بتعديلات جذرية للسماح لهم بالمشاركة في الحكم واتخاذ القرارات تحت شعار “لا ضرائب بدون تمثيل برلماني”، وهذا ما دفع بعجلة التنمية السياسية والاقتصادية في الغرب ولكن بعد عقود من العمل الدؤوب والمتدرج نحو بناء مجتمعات ليبرالية تؤمن بالحرية والمساواة.
التدهور السياسي وسلبيات الديمقراطية
في منتصف الكتاب الثاني، يبدأ فوكوياما للتطرق إلى مشكلة التدهورات السياسية في الأنظمة الديمقراطية نفسها، فهو يعتبر الديمقراطية سلاح ذي حدين يمكن أن يكون إيجابيًا وسلبيًا في نفس الوقت، ولكن مع مرور الوقت يبدأ الجانب السلبي في النمو بشكل متسارع حتى يصبح سببًا للتدهور السياسي في الدولة، بحيث لا تتمكن الحكومة من ممارسة عملها بشكل فعّال بسبب العقبات الديمقراطية القائمة أمامها.
فالديمقراطية تفتح الباب على مصراعيه أمام كل من لديه رأي أو انتقاد وتعطيه الحق في التعبير عن آرائه بشكل سلمي وقانوني، فتقوم بعض الجمعيات الخاصة وجماعات الضغط باستغلال هذه الحريات فتنشأ تحالفات قوية فيما يعرف بجماعات الضغط أو لوبيات وتعرقل قوانين قد تكون مفيدة للبلاد بشكل عام ولكن مضرة ببعض مصالح هذه الجماعات، فيكون الشعب ومصلحة البلاد رهينة لمصالح هذه القوى.
يناقش فوكوياما مشكلة اللوبيات المختلفة في أمريكا ويوضح كيف عرقلت الكثير من القوانين بشكل ديمقراطي، كما يستدل أيضًا بجماعات الضغط القوية في بلدان ديمقراطية عديدة مثل الهند والتي تعجز حتى الآن عن تطوير بنيتها التحتية وخاصة الطرق وسكك الحديد بسبب تعارض هذه المشاريع مع المصالح الخاصة للقوى الفردية والمتمثلة في أصحاب الشركات العملاقة واللذين يمولون لوبيات خاصة تقوم بخدمة مصالحهم.
كحل لهذه السلبيات، يقترح فوكوياما نظامًا أقل ديمقراطية أو بمعنى آخر نظامًا يمنح المزيد من الصلاحيات للحكومة بحيث لا تكون رهنًا لضغوط اللوبيات، في نفس الوقت يشير إلى أهمية تنظيم هذه الجماعات كي لا تكون دولة في داخل الدولة نفسها، فالتعامل معها يجب أن يكون صارمًا ولكن بشكل قانوني لا يسلب حقوقهم الديمقراطية على الاعتراض وإبداء آراء مغايرة للنظام الحاكم.
الخلاصة
هذان الكتابان “أصول النظام السياسي: من ما قبل الإنسان حتى الثورة الفرنسية” و”النظام السياسي والتدهور السياسي: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديمقراطية”، يعتبران أهم ما كُتب حديثًا عن تاريخ التحولات السياسية في العالم، يشرح فوكوياما كيف وصل الإنسان الحجري إلى فكرة الديمقراطية والتقاسم السلمي للسلطة، الإنسان بطبيعته اجتماعي ولكن في نفس الوقت عُدواني يشك في من حوله ويحتاج للكثير من الوقت والصبر ليثق فيمن حوله وهذا ما يجعل الإنسان مستعدًا لتقنين كل شيء لينظم حياته ويحافظ على حقوقه الأمر الذي بدوره ساعده على بناء الحضارات القديمة.
ما نحتاج إليه اليوم هو العودة إلى جذورنا التاريخية العميقة لفهم مشاكلنا الحالية، والتفكير بشكل أعمق في سؤال كيف وصلنا إلى هنا؟ وكيف نصل إلى الدنمارك؟ فالوضع الحالي لعالمنا المتسارع يقتضي فهمًا أعمق للتاريخ لنتجنب تكرار الأخطاء السابقة أو البحث عن حلول مستوردة غير قابلة للتطبيق في مناطقنا الخاصة، فبعض الديكتاتوريات قد تنجح في بناء دول قوية سياسيًا واقتصاديًا وقد يقود هذا النجاح نحو ديمقراطيات طويلة الأمد بعد بزوغ طبقة متوسطة الدخل من الشعب تقود عجلة الديمقراطية مثل ما حدث في اليابان وتنزانيا وغيرها، وبعض الديمقراطيات قد تقود البلاد إلى حروب أهلية أو إلى كساد اقتصادي وتنموي بسبب عجزها عن اتخاذ القرارات الصحيحة وتنفيذ مشاريعها بحرية.