في خمسينيات القرن الماضي، قدم المخرج الياباني أكيرا كوروساوا فيلم “راشومون”، الذي يروي قصة مقتل رجل ساموراي ياباني، واغتصاب زوجته على يد قاطع طرق في إحدى الغابات اليابانية في القرن الثامن الميلادي.
رسم الفيلم في بدايته صورة واضحة لجريمة القتل وهوية القاتل، لكن تلك الحقيقة الواضحة ما لبثت أن تداعت مع توالي شهادات الشهود الثلاث، الذين يروون عبر زواياهم المختلفة قصصًا مختلفة وغير متطابقة حول جريمة القتل.
وجدت بروفسورة الاقتصاد السياسي في جامعة جون هوبكينز في نيويورك، دبوره براوتينغام، في فيلم “راشومون”، وما يطرحه من تساؤلات حول الموضوعية في ظل تشابُك الحقائق مع المغالطات في شهادات الشهود، منطقًا مشابهًا للرواية المنتشرة حول فخّ الديون الصينية التي بدأت عام 2017، مع شراء شركة China Merchants الصينية حصة الأغلبية في ميناء هامبانتوتا في سريلانكا، في صفقة هدفت الحكومة السريلانكية من ورائها إلى تجاوز أزمة الديون التي تعاني منها البلاد.
في الجارة الهندية، نشر براهما تشيلاني، بروفيسور الدراسات الاستراتيجية في مركز نيودلهي لدراسة السياسات في شمالي البلاد، مقالًا حول حادثة ميناء هامبانتوتا في سريلانكا، مشيرًا إلى ما بات يعرَف بدبلوماسية فخّ الديون الصينية للسيطرة على الميناء، ضمن خطة صينية استراتيجية أوسع تهدف إلى إيقاع الدول النامية في فخّ الديون، من أجل الحصول على مكاسب اقتصادية وسياسية، فضلًا عن أصول المشاريع العملاقة في البلدان النامية.
لم يمضِ وقت طويل بعد إطلاق تشيلاني مقولته تلك، حتى تسلّل المصطلح إلى وسائل الإعلام المختلفة، فنُشرت مئات المواد الصحفية حول نوايا الصين التوسعية، ولم يلبث الأمر الذي بات حقيقة واقعة إلى أن وصل إلى لسان الساسة الأمريكيين، الذين اتهموا الصين بتنفيذ سياسة توسعية عبر دبلوماسية فخّ الديون.
قال جون بولتون، مستشار الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية، إن الصين تستخدم الرشاوى والاتفاقيات الغامضة، إضافة إلى الاستخدام الاستراتيجي للديون، لجعل بعض الدول الأفريقية أسيرة لرغبات بكين وطلباتها.
كيف نسجت تفاصيل الحكاية؟
في العقد الأول من القرن الحالي، بدأ النموذج الصيني القائم على التصدير المدعوم بالبنية التحتية باستنفاد نفسه. فمع الزيادة المضطردة في بناء المشاريع التحتية، والفائض الناتج في السلع نتيجة التنافس الكبير بين الشركات الصينية، مقرونًا مع انخفاض الطلب الخارجي، بدأ سوق الاستثمار الداخلي في الصين يتجه نحو الانكماش، ما قاد لاحقًا إلى انخفاض نمو الاقتصاد الصيني من 10% خلال العقد الأول إلى 7% في السنوات اللاحقة.
وجد المستثمرون وأصحاب شركات البنية التحتية في السوق الخارجي ملاذًا من الأزمة الداخلية، فبدأت شركات البنية التحتية الصينية بالبحث عن فرص استثمارية على الساحتَين الأفريقية والآسيوية.
في سريلانكا، كان مشروع ميناء هامبانتوتا الواقعة في مسقط رأس الرئيس السريلانكي، ماهيندا راجا باكسا، ينتظر التمويل اللازم، بعد أن أثبتت دراسة جدوى أعدّتها شركة “رام بول” الألمانية عن النجاعة الاقتصادية للمرحلة الأولى من المشروع، المقتصرة على استضافة السفن المحمّلة بالحبوب والمواد النفطية.
بعد رفض الولايات المتحدة الأمريكية والهند تمويل المشروع، وسعيًا منه لزيادة شعبيته عبر المشاريع الاقتصادية، طرق الرئيس السريلانكي ماهيندا راجا باكسا أبواب بكين، فوافق بنك Eximbank الصيني الحكومي عام 2007 على تمويل مشروع الميناء بمبلغ 307 ملايين دولار، لتبدأ مجموعة هاربر الصينية بتشييد المرحلة الأولى من ميناء هامبانتوتا.
مبادرة “الحزام والطريق”
مع حاجة الصين إلى مواجهة التعثرات الداخلية لقطاع الإنشاءات وفائض السلع الداخلية، وتطلعها في الوقت ذاته إلى بناء شبكة من البنية التحتية الآمنة عالميًّا، وتدعيم دورها السياسي والاقتصادي على المستوى الدولي، أطلق الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013 من العاصمة الكازاخستانية أستانا (نور سلطان) مبادرة “الحزام والطريق”.
تهدف المبادرة إلى إحياء طريق الحرير القديم، الذي يربط الصين ببقية مناطق آسيا والشرق الأوسط وأجزاء من أفريقيا وأوروبا، من خلال إنشاء مشاريع استثمارية في مجال البنية التحتية، بما فيها المطارات والموانئ و مشاريع توليد الطاقة.
في ظل غياب الممولين الدوليين لمشاريع البنية التحتية عالية المخاطرة، لاقى المشروع الصيني رواجًا دوليًّا، خصوصًا في الدول النامية، مع الحاجة الماسّة إلى البنية التحتية، حيث تشير تقديرات البنك الدولي إلى حاجة العالم لحوالي 97 تريليون دولار حتى عام 2040 من مشاريع البنية التحتية لمواكبة النمو الاقتصادي.
في انتخابات سريلانكا عام 2015، أطلق المرشح الانتخابي المعارض، مايثريبالا سيريسينا، وعودًا بمراجعة الاستثمارات الأجنبية الخارجية، متهمًا الرئيس السريلانكي راجاباكسا بالفساد وسوء الإدارة.
كان ميناء هامبانتوتا الذي توسّع عام 2012 بتمويل صيني، قبل أن تؤتي المرحلة الأولى من الخطة ثمارها الاقتصادية، يعاني من فشل ذريع وخسائر بلغت 215 مليون دولار فترة 2011-2016، حالت دون دفع الحكومة السريلانكية ديونها المترتّبة عن إنشاء الميناء للصين.
قررت الحكومة السريلانكية الجديدة، التي كانت تعاني من أزمة مالية خانقة وديون خارجية ملزمة التسديد، بلغت قيمتها حوالي 46 مليار دولار لم تتجاوز نسبة الديون الصينية منها حاجز 10%، خصخصةَ ميناء هامبانتوتا المحسوب على الرئيس السابق لشركة China Merchants الصينية، المتخصصة في الشحن وإدارة الموانئ، بمبلغ 1.2 مليار دولار، سخّرتها سريلانكا لاحقًا لرفع احتياطيها النقدي ودفع ديون مستحقة عليها لجهات متعددة ليس من بينها الصين.
لكن من بين المشاكل العديدة التي اعترت تنفيذ مشروع ميناء هامبانتوتا، عدم الالتزام بدراسات الجدوى الاقتصادية لمراحل المشروع المختلفة من قبل الطرفَين، وسوء إدارة الميناء من قبل الطرف السريلانكي، إلا أن فخّ الديون الصينية لم يكن إحدى هذه المشاكل التي أرجعها البروفيسور الهندي براهما تشيلاني إلى الصين، والتي لم تلبث أن انتشرت كالنار في الهشيم.
غذّتها أيضًا حوادث متكررة لمشاريع صينية في أكثر من مكان في العالم: ففي وقت متزامن مع أزمة ميناء هامبانتوتا، كان رئيس وزراء ماليزيا، نجيب رزاق، يحاول التغطية على حادثة اختلاس حوالي 7 مليارات دولار في شركة Malaysia Development Berhad التابعة لوزارة المالية الماليزية، من خلال عقد صفقة مع الصين لبناء خط سكة حديد الساحل الشرقي الاستراتيجي وخطوط غاز بقيمة 34 مليار دولار، بسعر أعلى من قيمة المشاريع الحقيقية، لتغطية العجز الناتج عن الاختلاس في الشركة الماليزية.
مجددًا مع اندلاع أزمة الديون في ماليزيا، كانت الصين المتهم الرئيسي من طرف المعارضة الماليزية، التي اتهمت بكين بمحاولة إدخال ماليزيا في فخّ الديون، من أجل الحصول على مشروع خط سكة حديد الساحل الشرقي الاستراتيجي، الذي يهدف إلى تجنُّب مضيق ملقا معبر التجارة الآسيوية إلى العالم.
لاقى الأمر صدى في الأوساط الأمريكية المترصدة لأخطاء الصين وخطواتها المتسارعة لزيادة نفوذها العالمي، ومن ورائها الهند الصاعدة بقوة على الساحة السياسية والاقتصادية في آسيا، والتي تخشى من اتّساع نفوذ الصين في مناطق نفوذها الاستراتيجية، ومن بينها سريلانكا التي تربطها بالهند اتفاقية تجارة حرة، لا تفرض سريلانكا بموجبها أية رسوم على البضائع الهندية.
تكمن إحدى مشاكل المشاريع الصينية في غياب الرقابة الحكومية على الشركات الاستثمارية العاملة على الصعيد الدولي، التي تسبّبت في خسائر اقتصادية متمثلة في ديون غير مستردة من جهة، وفي إثارة الجدل حول مشاريع الصين وأهدافها التوسعية من جهة أخرى.
في عام 2018، أقرَّ الرئيس شي بأن مبادرة “الحزام والطريق” لم تعمل إلا في إطار مبادئ توجيهية فضفاضة، مشيرًا إلى أنها تحتاج إلى إدارة أكثر إحكامًا مع مشاريع ذات جودة أفضل، ودرجة أكبر من إشراف الحزب.
الدعوة كرّرتها الرئيسة السابقة لصندوق النقد الدولي كريستين لاغارد، في مؤتمر في بكين عام 2019، حين قالت: “يعلّمنا التاريخ أن الاستثمارات في البنية التحتية، إذا لم تُدار بحذر، يمكن أن تؤدي إلى زيادة في مشكلة الديون. لقد ذكرت سابقًا أنه إذا ما أرادت مبادرة “الحزام والطريق” أن تكون ناجحة تمامًا، يجب أن تنفَّذ في الأماكن التي تتطلب ذلك. وأود أن أضيف اليوم أنها يجب أن تنفَّذ فقط في الأماكن التي تسمح بتنمية مستدامة من جميع الجوانب”.
الاندفاع الصيني للاستثمار واجهته رغبة عارمة في الدول النامية الساعية لدفع عجلة التنمية في البلاد، لكن كثيرًا من هذه الدول افتقدت في أحيان كثيرة إلى التقييم الدقيق لخطواتها الاقتصادية مع الصين، كذلك لعبَ الفساد وغياب الشفافية مع الحاجة إلى اكتساب شرعية داخلية عبر تنفيذ المشاريع التنموية، الدورَ الأكبر في انخراط بعض الدول في مشاريع باهظة الثمن ترهق الميزانية العامة.
ففي الشرق الأوسط الذي بدأ يشهد إقبالًا صينيًّا متناميًا، وفي عام 2020، رفعت وزارة الطاقة الأردنية قضية تحكيم لدى غرفة التجارة الدولية بباريس، ضد شركة العطارات الممولة من قبل البنوك الصينية، للتخلص من الظلم الجسيم، على حدّ قول الوزارة، للاتفاقية التي عُقدت عام 2017، والتي هدفت إلى إرفاد المملكة بـ 15% من احتياجاتها الكهربائية.
رفضت الوزارة التعقيب حول الأسباب التي دفعتها إلى عقد الصفقة المكلفة للمشروع البالغة 2.1 مليار دولار، والتي ستسبّب في حال استمرارها خسائر سنوية للأردن بقيمة 280 مليون دولار سنويًّا لمدة 30 عامًا، لكن الجيولوجي الأردني في لجنة الطاقة في البرلمان الأردني، موسى هنطش، وصف الصفقة بكونها نتيجة طبيعية للفساد، والافتقار إلى الخبرات التقنية، والسعي إلى تحقيق مصالح شخصية.
تبدو في أفريقيا الصورة أكثر وضوحًا فيما يتعلق بسوء الإدارة الحكومية للمشاريع الصينية، حيث يقول الرئيس الإريتري أسياس أفورقي: “لو كان هناك أي فخ يتعلق بالديون، فهو مسؤولية هذه الشعوب في أفريقيا التي أساءت إدارة اقتصاداتها، ولا يمكن أن تعود باللوم على الصين في أي من هذه الحوادث”.
منذ عام 2000 وحتى عام 2018، نفّذت الصين مشاريع استثمارية بقيمة 145 مليار دولار بمعدل 70 مشروعًا سنويًّا في القارة الأفريقية. في بعض الأحيان و ضمانًا لتسديد الديون المترتبة على الدول، كانت الصين تقدم مشاريع البنية التحتية مقابل الحصول على المواد الخام، ففي تنزانيا قدمت الصين استثمارات مقابل الحصول على الذهب، وفي السودان مقابل النفط، وفي زامبيا مقابل النحاس.
لكن أزمات الديون التي ضربت عددًا من الدول الأفريقية، وأبرزها زامبيا، خلال السنوات الماضية، أعادت الحديث مجددًا عن المشاريع الصينية في القارة السمراء، وجدواها الاقتصادية.
في كينيا، تكبّد خط سكة الحديد المموَّل صينيًّا بتكلفة 3.2 مليارات دولار خسائر فادحة، تكررت الخسارة مع خط أديس أبابا-جيبوتي البالغة تكلفة إنشائه 4.5 مليارات دولار، ما اضطر شركة Sinosure الصينية إلى محو مليار دولار من ديون الخط بسبب الخسائر الكبيرة.
مع جائحة كوفيد-19، شهدت عدة دول أفريقية أزمات اقتصادية حادة، أبرزها زامبيا التي فشلت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 من دفع 42.5 مليون دولار من السندات الأوروبية، كما توقفت عن سداد 17 مليار دولار من الديون الخارجية.
دفعت التعثرات المالية المتكررة لبعض المشاريع الصينية في أفريقيا دولًا مثل كينيا وتنزانيا وغانا، إلى إلغاء أو تعليق بعض المشاريع وإعادة دراسة مشاريع أخرى، أما أزمة الديون في زامبيا فقد أخذت بُعدًا عالميًّا، بعد اتهامات من وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، للصين بإعاقة جدولة الديون الزامبية.
أشارت جانيت يلين إلى أن “المشاركة الصينية أساسية لتخفيف عبء الديون، لكن ولوقت طويل فإنها لم تسر بشكل شامل وفي الوقت المناسب، بل شكّلت مانعًا إزاء الإجراءات الضرورية”.
كيف تتصرّف بكين إزاء أزمات الديون؟
أشارت دراسة لجامعة جون هوبكنز الأمريكية إلى أن الصين ألغت ديونًا بلغت قيمتها 3.4 مليارات دولار في أفريقيا فترة 2000-2019، وأعادت جدولة 15 مليار دولار من الديون في الفترة نفسها، فيما خلت سجلّات بكين من حيازة أصول أي من المشاريع في أفريقيا في حالة التخلف عن السداد.
ترفض الصين محاولات إلصاق التهم بها حول أزمة الديون في الدول النامية، مشيرة إلى أن المؤسسات المالية العالمية هي المسؤول الأول عن أزمة الديون في الدول النامية.
وفي هذا الصدد، يقول الناطق باسم وزارة الخارجية الصيني، وانغ ون بين: “لقد ساعدنا الدول النامية على تخفيف أعباء الديون، وقدمنا أكبر مساهمة لتطبيق مبادرة الدول العشرين لخدمة تعليق الديون. أريد أيضًا القول إنه حسب إحصاءات البنك الدولي، فإن المؤسسات المالية متعددة الجنسيات والقروض التجارية هي المسؤولة عن أكثر من 80% من القروض السيادية في الدول النامية”.
عقد على انطلاق مبادرة “الحزام والطريق”
بلغ عدد الدول المنخرطة في مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، بحلول عام 2023، 152 دولة حول العالم، فيما بلغ عدد المشاريع الصينية التي تمّ تنفيذها في إطار المبادرة أكثر من 13 ألف مشروع، بتكلفة تتجاوز 900 مليار دولار.
وبعد عقد من انطلاق المبادرة، تعاني الصين من أزمة ثقة جرّاء المشاكل التي ضربت حوالي 35% من مشاريعها الاستثمارية، والتي أشرعت الأبواب لاتهام بكين بتسخير المبادرة من أجل السيطرة على الدول عبر إغراقها بالديون.
ورغم انعدام الأدلة حول دبلوماسية الفخاخ الصينية، إلا أن الأخطاء التي وقعت فيها الصين باندفاعها للاستثمار دون ضوابط صارمة في بعض البيئات التي تفتقر لشروط التنمية المستدامة من جانب، وللإدارة الاقتصادية الشفافة والمنضبطة من جانب آخر، جعلها في مهبّ المزايدات من قبل الولايات المتحدة والخصوم المرتابين من خطط بكين لزيادة نفوذها العالمي، وعلى رأسها الهند التي تسعى مع الولايات المتحدة الأمريكية إلى إنشاء خطوط اقتصادية، تكون بديلًا عن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية.
فهل ستستفيد بكين والدول النامية من تجربة العقد الماضي لتحسين شروط الاستثمار، بما يضمن التنمية المستدامة للجميع؟ أم ستستمر الأخطاء والعثرات والتربّصات في نسج المزيد من الحكايا والفخاخ على طريق الحرير؟