تداول عدد من النشطاء المصريين قبل أيام فيديو عمره عام لباحثة مصرية أثناء مقابلة لها مع أحد الإعلاميين المصريين وهي تقوم بالترويج لمشروع تطوير قناة السويس، حيث وعدت هذه الباحثة الشعب المصري بأن هذا المشروع سيدر مئات المليارات من الجنيهات على الشعب المصري قبل وبعد افتتاحه وأخذت في سرد أرقام وإحصاءات ودراسات أتعبت فيها رأس المذيع ومشاهديه لضخامتها، مؤكدة أن كل متر يتم حفره ستستفيد الدولة المصرية من المواد الخام الناتجة عنه كالرمل والجير وغيره الذي من شأنه أن يدخل على خزينة الدولة المصرية الكثير كما قالت.
في أغسطس الماضي تم افتتاح قناة السويس بشكل رسمي في احتفالية مهيبة أشرفت عليها الدولة المصرية الرسمية وقامت قنوات الإعلام المصري بتسويق كبير لهذا المشروع الذي يعتبر حسب ادعائهم نقطة فارقة في تاريخ الاقتصاد المصري وأنه سيكون بمثابة مصدر أساسي لزيادة معدلات النمو الاقتصادي المصري والناتج القومي الإجمالي، كيف لا والشعب المصري قام بدفع 64 مليار جنيه من مساهماته لتمويل هذا المشروع، إلا أن ما حدث بعد شهور من الافتتاح الرسمي للقناة جاء مخيبًا لآمال المصريين حكومة وشعبًا فإيرادات قناة السويس الشهرية في تراجع مستمر بل وأقل بملايين الدولارات من مثيلاتها في الأعوام السابقة، الأمر الذي دعا الحكومة المصرية لتجييش عدد من الخبراء والاقتصاديين ليثبتوا أن هذا التراجع سببه التباطؤ العام في الاقتصاد العالمي الذي تزامن مع افتتاح المشروع الجديد لقناة السويس.
في نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات قام رئيس الاتحاد السوفييتي جوزيف ستالين بجمع مئات الآلاف من الشعب الروسي وأرسلهم إلى منطقة في شمال البلاد في عملية سميت “إعادة التثقيف عن طريق العمل” وهي لم تكن أكثر من عملية استعباد جديد يقوم بها النظام البلشفي البوليسي ضد المعارضين من أبناء شعبه، تم وضع هذا العدد الكبير في منطقة في شمال روسيا في درجة حرارة وصلت في بعض الأحيان إلى خمسين تحت الصفر ليتم حفر قناة مائية تربط البحر الأبيض ببحر البلطيق طولها مائتي كيلو متر، سميت فيما بعد قناة ستالين، حيث يذكر المؤرخون أن ستالين قام بعمل احتفال مهيب لم يعرفه الشعب الروسي من قبل لافتتاح هذه القناة، حيث تم التخطيط بعناية لأن تكون قناة ستالين رمزًا لجبروت وقوة الشعب الروسي ونظامه العتيد، وما هي إلا شهور معدودة حتى تبين أن هذا المشروع ما هو إلا “فنكوشًا” ستالينيًا جديدًا حيث تبين أن عدد القتلى الذين قضوا جراء العمل في هذه القناة وصل إلى ثلاثين ألف، أي ما نسبته 10% من العمال المشاركين، والمصيبة الأكبر أن هدف إنجاز هذه القناة في أقصى سرعة ممكنة أنسى المهندسين الروس أهمية زيادة عمق القناة حيث لم يكن عمقها بالمستوى المطلوب الأمر الذي جعل معظم السفن الكبيرة تمتنع عن المرور فيها.
إذًا ما الذي دعا نظام ستالين من قبل والنظام المصري الآن إلى تدشين مثل هذه المشاريع الضخمة بدون دراسة جدوى حقيقية لنتائج وأبعاد والمآلات المرجوة منها والعمل بشتى الطرق إلى إنجازها بأسرع وقت ممكن، ما الذي يدعو الأنظمة القهرية البوليسية إلى المقامرة في ثروات البلاد البشرية والمالية والاقتصادية مع أنهم على يقين أن مثل هذه المشاريع مصيرها الفشل والخراب، إنه وباختصار تعويض غياب الشرعية السياسية عبر تسويق الإنجازات، تدرك الديكتاتوريات جيدًا وخصوصًا التي تفتقد أنظمتها إلى الشرعية الحقيقية المكتسبة من الشعب أن مثل هذه المشاريع تقنع شريحة واسعة من الشارع أن هذا النظام يضع نصب عينيه مصلحة شعبه فهو مشغول من إنجاز مشروع إلى آخر بل تقوم باتهام الأصوات العاقلة التي تسأل عن ماهية وهدف والنتائج المرجوة من هذه المشاريع بأنها أصوات مدفوعة وعميلة للخارج ويجب التخلص منها عند أقرب منصة إعدام، وقد أعدم ستالين عشرات الآلاف من شعبه بتهمة التخابر الجاهزة مع النظام الملكي السابق أو أنظمة مجاورة.
ليس هذا فحسب بل تقوم الأجنحة الإعلامية للنظم الديكتاتورية بالمن باستمرار على الشعوب المسحوقة دافعين إياهم دائمًا إلى الشعور بالخزي والتقصير في حق زعيمهم المفدى الذي لا يكاد ينتهي من إنجاز مشروع لمصلحة شعبه حتى ينشغل في آخر، بالضبط كما كانت مهمة سكويلر في رائعة جورج أوروييل “مزرعة الحيوانات”، ثم تثبت الأيام اللاحقة أن هذه المشاريع ما كانت إلا زيفًا ووهمًا وفنكوشًا جديدًا، وما مشروع المليون وحدة سكنية والمؤتمر الاقتصادي عنا ببعيد.