تعتبر جماعة فتح الله غولن من الجماعات النورسية المهمة التي ظهرت على الساحة التركية في النصف الثاني من القرن العشرين، ورغم أن الجماعة بقيادة الأستاذ غولن، وحسب التصريحات العديدة، لا تؤمن بكون الإسلام أيديولوجيا سياسية، وتعمل تحت سقف الحكومات، إلا أن المعركة التي نشبت بين الجماعة والحكومة التركية خلال العامين الماضيين أظهرت تناقضًا إلى حد كبير بين التصريحات السياسية للجماعة والسياسة الفعلية لها، حيث تسعى الجماعة، حسب الحكومة وقيادات حزب العدالة والتنمية، من خلال ماكينتها الإعلامية، وقوتها الاقتصادية، وتواجدها المكثف في أجهزة الدولة إلى تقويض الحزب الحاكم والانقلاب على الإرادة الشعبية بالاتفاق مع قوى داخلية وخارجية.
كان التحالف غير المعلن بين جماعة فتح الله غولن وحزب العدالة والتنمية يتيح للحزب الاستفادة من قوة الجماعة داخل أجهزة الدولة ومن أصوات أعضائها، وفي المقابل يسعى الحزب إلى تعزيز وجود الجماعة على الساحة التركية وفي أجهزة الدولة على حد سواء، إلا أن المعركة التي اندلعت بين الحكومة وجماعة فتح الله غولن أثارت تساؤلات عن قوة الجماعة الحقيقية ونسبة الأصوات التي تمتلكها.
وتختلف الروايات بشأن نسبة الأصوات التي تمتلكها الجماعة، بين من لا يعتقد بوجود كتلة تصويتية كبيرة للجماعة، أي غير قادرة على إحداث فرق في أي انتخابات – أي نسبة لا تزيد عن 1-2% -، وبين من يرى أن الكتلة التصويتية للجماعة تتراوح بين 5 – 10% وهي نسبة مبالغ فيها للغاية.
وقد دعمت الجماعة، ومن خلال حملتها الدعائية، قدرتها على إحداث تغيير من خلال استخدام كتلتها التصويتية، إلا أن الانتخابات المحلية والرئاسية لم تُظهر ذلك، حيث ظل حزب العدالة والتنمية متصدرًا المشهد الانتخابي بدون وجود خسائر تذكر في أصوات ناخبيه؛ وقد يعود ذلك لكون الكتلة التصويتية للجماعة صغيرة وغير قادرة على إحداث فرقًا، أو أن الجماعة وفي ذروة المعركة مع الحكومة حاولت إخفاء قدرتها الانتخابية من خلال اتباع إستراتيجية معينة في توجيه كتلتها الانتخابية.
وعلى أي الأحوال فإن التقديرات التي ربما تكون أقرب للدقة هو كون الجماعة تمتلك نسبة أصوات تقدر بـ 3% من مجمل أصوات الناخبين، وهي نسبة وإن كانت صغيرة، لكن قد تحدث فرقًا مهمًا خصوصًا في الانتخابات القادمة، وسنحاول في هذه المقالة النظر في الطريقة التي يمكن أن تتعامل بها الجماعة مع الانتخابات البرلمانية القادمة.
دعم الجماعة لحزب الشعوب الديمقراطية
تُظهر العديد من كتابات وتصريحات الصحفيين المقربين من جماعة فتح الله غولن، بأن الطريقة المثلى لمواجهة التحديات التي تمر بها الجماعة، وفي ظل معركتها المستمرة مع الحكومة، هي بتأييد حزب الشعوب الديمقراطية في الانتخابات البرلمانية القادمة، وذلك لأن تخطي الحزب عتبة 10% قد يكون الخيار الوحيد لإيقاف الحزب الحاكم وتقليص سلطاته.
وقد يعتبر اللقاء السري بين كل من ناظلي إلي جاك، والتي تعتبر أحد الكوادر المهمة في جماعة فتح الله غولن، وصلاح الدين دميرطاش، الرئيس المشارك لحزب الشعوب الديمقراطية، مؤشرًا على سلوك الجماعة في الانتخابات القادمة، وقد صرحت ناظلي إلي جاك، في مقالة لها في جريدة Bugün بتاريخ 28 يناير، عن تأييدها لدعم حزب الشعوب الديمقراطية في الانتخابات البرلمانية لعدة أسباب منها؛ دعم التوجه الديمقراطي في البلاد، وترسيخ التمثيل السياسي الصحيح، والإسهام في دخول حزب جديد للبرلمان التركي، إضافة إلى كون دعم حزب الشعوب الديمقراطية فرصة لإيقاف الحزب الحكم والحد من سلطاته، وخصوصًا فيما يخص النظام الرئاسي والدستور الجديد.
ورغم أن رؤية جماعة فتح الله غولن للمسألة الكردية تكاد تكون سلبية، حيث صرح غولن في مقابلة مع البي بي سي في عام 2013، بأنه يرى أن السبب الرئيسي للمشكلة الكردية هي المشاكل الاقتصادية وغياب التعليم، إلا أن إمكانية تأييد الجماعة لحزب الشعوب الديمقراطية، رغم أجندته التي قد تكون غير مقنعة للجماعة بشكل كلي، قد تكون فرصة للجماعة للانتقام من حزب العدالة والتنمية، ومحاولة للإفلات من ملاحقات الحكومة، فضلًا عن تعزيز موقعهم داخل الساحة التركية، حيث إن التقديرات التي ذكرناها بكون الجماعة تمتلك 3% من أصوات الناخبين قد تكون مؤثرة جدًا إن حشدت في تخطي حزب الشعوب الديمقراطية لعتبة 10%.
إستراتيجية تعدد الوجهة الانتخابية
وقد تتبع الجماعة سلوكًا مغايرًا عن دعم حزب بعينه خصوصًا حزب الشعوب الديمقراطية، ويرى بعض المحللين بأن الجماعة ستسلك طريقًا آخر، حيث ستعمد إلى تفريق أصواتها بين المرشحين سواء كانوا أحزابًا أو مستقلين، كل حسب قوته في منطقته وإمكانية فوزه، أو إمكانية إبرام اتفاقية معه لدعمه من أجل الفوز أو زيادة أصواته، وهناك جملة من الأسباب التي قد تجعل الجماعة تتجه لهذا السلوك؛ أولًا: محاولة تدعيم الضبابية التي حاولت الجماعة إظهارها بخصوص عدد أعضائها وقدراتها من خلال تشتيتها لأصواتها، ثانيًا: محاولة إظهار نوع من الحرص على المبادئ التي اعتادت أن تنادي بها؛ وهي عدم التأثير على قرارات وقناعات أفرداها، وكذلك بشأن موقفها من المسألة الكردية الذي قد يظهر نوعًا من التناقض بين أقوال الجماعة وأفعالها إذا ما دعمت حزب الشعوب الديمقراطية، وثالثًا: هو كون الجماعة تهدف إلى التأثير على صناعة القرار بالدرجة الأولى، وبالتالي فهي لن تضع كل أصواتها في سلة حزب واحد بل ستسعى إلى ضمان أكبر عدد من المرشحين حسب إمكانيات فوزهم، من أجل الحصول على قوة ونفوذ داخل البرلمان القادم.
وتبقى قوة هذه الجماعات في الهالة التي تصنعها حول نفسها، والسرية التي تتمتع بها، بالإضافة إلى قدرتها على إبرام الاتفاقيات والتنسيق مع الجميع، من أجل تحقيق أهدافها الخاصة، والحصول على أكبر مستوى من النفوذ والقوة داخل أجهزة الدولة، ولذلك من الصعب التكهن بالجهة التي ستمنحها جماعة غولن أصواتها، وإن كانت المعركة بين الجماعة وحزب العدالة والتنمية أهم المؤثرات على سلوك وقرارات الجماعة في المرحلة الحالية.