عن “الذين بايعوا محمدا”

منذ أكثر من عامين، جاءني خبر خروج صديقي التركي من غرفة العمليات بعد أن أجرى عملية جراحية في عينيه ليعلن بعدها تخليه عن النظارة التي لازمته سنوات طويلة حتى أخد وجهه يتطبع عليها، فحادثته فور علمي لأطمئن على حاله وعلى نتيجة العملية فأخبرني أنه بخير وأنه بدأ يتعافى بشكل كامل.
قال لي يومها إنه يدعو الله أن يتعافى بشكل نهائي قبل اختبارات القبول في كلية الشرطة التي كانت السبب الأساسي لقيامه بتلك العملية.
هو إمره جهاد كيرياز، شاب تركي من مواليد مدينة قسيري وسط تركيا، كانت قد جمعتني به الأيام في غربة مشتركة، كاملة بالنسبة لي وجزئية بالنسبة له، فكنت قادمًا من مصر وهو من مدينته وكان اللقاء في أنقرة، العاصمة التركية.
بدأ جهاد، كما يحب دائمًا أن يعرف نفسه، دراسته الجامعية بكلية السياحة في أنقرة، وذلك بعد أن تم رفضه من كلية الشرطة التي كان يريدها ليكون جوار أخيه الشرطي الذي يكبره بعامين، لكنه وبعد أن أنهى عامين من دراسته في السياحة، قدم مجددًا في اختبارات كلية الشرطة بعد أن عمل على كل الشروط المطلوبة.
على مدار عام كامل، كان جهاد يعيش معي في غرفة واحدة، أغلب حديثنا كان عن مصر وسوريا وما يحدث في الشرق الأوسط بشكل عام، وعلى الرغم من أنه لا يعتبر نفسه متدينًا ولا حتى مهتمًا بالشأن العام للعرب أو المسلمين فإنه كان نشيطًا في حضور الفعاليات التي تُقام من أجل سوريا أو مصر أو العراق، وكانت هديتي الأولى منه عبارة عن ملصق لشارة رابعة أخذه في مظاهرة شارك بها في مدينته بعد مذبحة الفض عام 2013.
من حديثي معه طيلة ذلك العام عرفت أن أخاه الأكبر شرطيٌ يعمل في إسطنبول، وأنه وأبناء عمومته يحاولون الالتحاق به لكي يقوموا بدورهم في حماية الوطن وكيف أن والده أخبره أن لهم دورًا كبيرًا في هذا المكان وأن أي فراغ في المؤسسة العسكرية والشرطية سينعكس عليهم بالسلب مستقبلًا، لهذا فعليه كمؤيد للحكومة وللقضايا التي يناصرها أن يحاول سد ذلك الفراغ المحتمل.
……
في شهر يناير من العام 2014 كنا باعتصام أمام السفارة المصرية في أنقرة، كان ذلك وقت التصويت على التعديلات الدستورية على ما أتذكر، ولأن السفارة في وسط المدينة وتطل على شارع رئيس فكانت الشرطة موجودة منذ اللحظة الأولى للاعتصام.
كنت وقتها مترجمًا بين كل من أفراد الأمن والمسؤولين عن الاعتصام من المصريين وكان تواصلي الرئيس مع الضابط المسؤول عن التأمين والذي لم يكن يبلغ الثلاثين على أقصى تقدير.
كان الرجل في منتهى الأدب والاحترام، وكان يتعامل مع بعض الأفعال المتهورة بقدرٍ عالٍ من ضبط النفس والاستيعاب لحالة الغضب التي كانت لدى المعتصمين، أخبرني بعد انتهاء اليوم الأول أنه يرجو تحديد عدد الأفراد الذين سيظلون حتى الليل لكي يحدد عدد أفراد الأمن الذين سيبقيهم من أجل الحماية.
كان سؤاله محل استغراب من مسؤولي الاعتصام الذين لم يمض على أغلبهم بضعة شهور في تركيا، فصورة رجل الأمن عندهم مختلفة تمامًا عن ذلك الرجل الذي يهتم فعلًا بالأمن والسلامة.
لذلك وبعد ترجمتي السؤال لهم بدأت عبارات الشكر والامتنان تخرج من أفواههم للرجل وكيف أنهم يقدرون جهوده وأنه يقف جوارهم ليحميهم في درجة حرارة تحت الصفر.
كان رد الشرطي عفويًا جدًا، فقال يومها إنه يقوم بواجبه أمام دولته وأمام نفسه، وأن طبيعة عمله ليست السبب الوحيد في وجوده معهم، فما يفعله الآن يعد “جهادًا” وهو أقل ما في يده الآن لنصرة المظلومين.
….
مولود ميرت ألطينطاش، ذلك الشاب العشريني الذي قتل السفير الروسي مساء أمس بالتكبير وبترديد عبارة “نحن الذين بايعوا محمدًا”.
ألطينطاش، الذي عاش نصف عمره تقريبًا، مستمعًا لأخبار القتل والتعذيب والتهجير منذ بداية الغزو الأمريكي على العراق ونشأة داعش ومن ثم كان حراك الربيع العربي.
في رأيي، فإن وجود ألطينطاش في حقبة زمنية كتلك التي نعيشها وفي بلد مجاور لأغلب المناطق الساخنة كتركيا هو العامل الأكبر في تكوينه النفسي والذي أضيفت عليه أبعاد أخرى كثيرة من مصادر مختلفة، فالطبيعة الإعلامية في تركيا والمناخ السياسي بالإضافة للعملية التربوية، أيًا كان مصدرها وشكلها، كل تلك العوامل ساعدت على تشكيل نفس ساخطة على الوضع كله.
كما أن وجوده في مؤسسة الشرطة في تلك الفترة تحديدًا له دور كبير في زيادة ثقته في دوره بشكل عام وفي نفسه بشكل خاص حاله كل أفراد الشرطة الذين ساهموا بشكل كبير في التصدي لمحاولة الانقلاب الفاشلة منتصف يوليو الماضي وقويت شوكة جهاز الشرطة بعدها بشكل واضح.
….
إن جهاد وألطينطاش وغيرهم الكثيرين من أفراد الشرطة التركية هم قبل أي شيء أفراد من هذا الشعب الذي يتمتع بنفسية تقدس القضايا الإنسانية، ذلك بالإضافة إلى أنه كان عرضة لعمليات حشد غير مسبوقة وصلت لرأس الدولة شخصيًا رجب طيب أردوغان، لدعم القضايا الإنسانية في كل من سوريا والعراق ومصر ومختلف دول القُطر الشرق أوسطي.
تلك الحملات الإعلامية والرسمية أثرت بشكل واضح في تركيبة الأتراك النفسية وفي استعدادهم لفعل الكثير من أجل دعم تلك القضايا عن طريق منظمات المجتمع المدني أو حتى في أبسط الصور كتنظيم المظاهرات.
ومن عاشر الأتراك في الفترة الأخيرة يدرك ذلك البُعد جيدًا ويدرك أنه مهما أظهر الأتراك من عنصرية في بعض الأوقات ومهما أظهروا تعصبًا ضد الأجانب إلا أن هناك شريحة كبيرة في هذا الشعب ما زالت تؤمن أن لها دورًا رياديًا في كل ما يحدث في المنطقة.
ذلك بالإضافة إلى جانب آخر يعرفه من يتحدث مع أوساط الإسلاميين في تركيا وهو تأثير التراث التاريخي عليهم ذلك باعتبارهم “أحفاد” للعثمانيين الذين كانوا في فترة ليست بعيدة ملوكًا لتلك الرقعة كلها، وأصبح ذلك التراث التاريخي والحضاري من أهم المحفزات لأفعال الإسلاميين والذي يتم استغلاله في الكثير من المواضع السياسية والاجتماعية.
وبالنسبة لرجل الشرطة سواء كان ينتمي لجماعة غولن أو لحزب العدالة والتنمية، فإن كل تلك العوامل تبقى في جهة مقابلة تمامًا لعوامل أخرى مؤسسية بحتة داخل أي كيان شرطي في العالم كالطاعة العمياء للأوامر وخلافه من المحددات الهيكلية داخل الجهاز الشرطي نفسه والتي تحتم على أفراده الكثير من القيود في تحركاتهم وحتى في آرائهم.
ذلك الصراع بين ما يمكن أن أسميه الطبيعة المدنية لضابط الشرطة وووظيفته كضابط شرطة تحتم عليه الاختيار في الكثير من المواقف والتي يتم الترجيح في أغلبها لصالح الدور الوظيفي، فدوره هذا، في أغلب الأحيان، يكون متسقًا مع شعوره الشخصي بأهمية دعمه للقضايا الإنسانية.
وفي حالة التعارض في هذا الصراع نجد النتائج مختلفة، ففي أغلب الأحيان، يتم الترجيح أيضًا للأمر المؤسسي من قادته، فيمكن وقتها أن نجد الضابط الذي كان يحمي تجمعًا للسوريين في يوم ما يواجههم في يوم آخر بالهراوات وقنابل الغاز، أو في حالات نادرة أخرى، كالتي كانت عشية محاولة الانقلاب الفاشلة من بعض رجال الداخلية، أو حالة ألطينطاش أمس عندما قرر أن يفعل ما يشعر به دون اتباع أمر من أحد.
ما أريد قوله، لفهم حادثة أمس بشكل أفضل يجب علينا إدراك السياق الزماني والمكاني والطبيعة النفسية لألطينطاش وزملائه، فبغض النظر عن وجود دافع خارجي من عدمه، على هيئة أمر من قائد أو جماعة أو تنظيم، فإن الدافع والمحرك الداخلي هو الأهم في المعادلة وهو الذي حسم الصراع وهو الذي ضغط على الزناد تجاه قلب السفير الروسي.