الديموقراطية كنظام للتوافق الاجتماعي

democracy

ما لا يفهمه كثيرون في الديموقراطية أنها نظام للتوافق الاجتماعي أكثر من كونها نظاما لتحديد الصواب من الخطأ .. أعلم أن ثمة من سيستنكر أصلا أن يكون للديموقراطية -أو لاجتماع أكثر الناس على رأي- علاقة بتحديد الصواب من الخطا، وهذا استنكار متسرّع، يمكن أن نناقشه طويلا، ولكن لنكتفِ بالإشارة إلى أن أحد الأدلة التي يسوقها الفلاسفة والمتكلمون على أصالة الإيمان بالله وظاهرة الدين عموما أنه لم تخلُ حضارة معروف…ة من دور عبادة وطقوس وتعظيم لكيان روحيّ ما .. أي أنّ لاجتماع الناس على رأي قيمة معرفية ما، ليست مطلّقة وكذلك ليست مهمَلة ..

لكن بتجاوز هذا الشقّ من الديموقراطية، ينبغي التأكيد على جانب التوافق الاجتماعي فيها، خاصة بالنسبة إلى مجتمعات عانت عقودا طويلة من الاستبداد وترعرعت في ظلّه كثير من التصورات الإيديولوجية الحالمة، وحامت بسببه -أي الاستبداد- حول السلطة وما يمكن ان تفعله هالاتٌ ضخمة من التعظيم والتقديس، وتصوّرُ إمكان حلّ اكثر المشكلات بمجرد الوصول إلى السلطة ..

أكثرُ الجدل الذي ينطلقُ من آفات الديموقراطية في الغرب، وكونها نظاما شكليا يعطي الغطاء الأخلاقي لهيمنة الإعلام والسوق ودوائر النفوذ على المجتمع .. كلّها جدالات متمركزة حول الغرب وإن كانت تدّعي نقدَه والتحرّر من تجربته .. وهي شبيهة بالدعوات ذات الطابع الصوفي التي تتخذ من مادية الغرب منطلقا لها، في الوقت الذي يدرك فيه أي ناظر في شأن العرب والمسلمين أنهم بحاجة للتفكير السنني والتنبّه للمكون المادي في العلاقة بالطبيعة والإنسان والاجتماع .. هي إذن نزعاتٌ تدّعي تجاوز الغرب فيما هي تقدّم حلولا لمشكلاته لا لمشكلاتنا ..

التوافق الاجتماعي من خلال الديموقراطية لا يعني أن تكون منتجاتُها -أي الديموقراطية- فيصلا في سؤال الحق والباطل والخير والشرّ .. ربما يكون هذا ما حصل في الغرب وفق الرؤية التي حل فيها المطلّق في الدولة، فأصبح القانون بديلا حقيقيا للدين، أي حلّت الدولة محلّ المعبد، لكن تحليلا متأنيا لواقع العرب والمسلمين يظهر ان مؤسسة الدولة ليست مؤهلة أبدا للقيام بدور من هذا النوع، وما تزال مؤسسة المعبد -أي المشايخ والعلماء أيا كانت مذاهبهم ومشاربهم- قادرة على إعطاء قدر لا بأس به من التأثير على تصور الناس للقيمة، أي للحق والباطل والخير والشر .. ومن يتصورون أن الدين -بمؤسساته المادية والرمزية- سينحلّ لصالح مؤسسة الدولة يبدون مغالين في الشطط ..

الدولة في الغرب حرّرت نفسها من المعبد، وحاولت في بعض الأحيان إعادة احتلاله -العلمانية الفرنسية- لكن الدولة في أي نظام ديموقراطي تقرّر الأمة بناءه والمساهمة فيه بقوة سيكون حظُّها التحجيم أكثر من كونها مرشَّحة للتمدّد .. الدول العربية والإسلامية التي ما تزال نظمها قوية وقادرة على قمع شعوبها هي الدول التي استغلّت الشرعية الدينية ومزجتها بشرعية قبلية -السعودية والمغرب- أو عسكرية -مصر- أو اتكأت على الطائفة -سوريا- أما الدول التي أقصت الدين تماما من تصورها لمصدر شرعيتها -تونس وتركيا- فهي في الحقيقة الدول التي استطاعت الأمة فيها أن تستأنف شكلا من التأثير وإعادة امتلاك الدولة بحيث تصبح إحدى مؤسسات الأمة .. وها هو الدين في البلدين ما زال حاضرا بقوة ماديا ورمزيا رغم أن الدولة أقصته، فكيف سيكون الحال لو أن الأمة نفسها قامت هي بتحجيم الدولة وكفّت يدّها عن مجال حركة الدين في المجتمع والضمائر، ليترجم نفسه تاليا في التنظيم السياسي -أي مؤسسة الدولة-؟

مأساة كثير من الإسلاميين أنهم لا يتصوّرون حضورا للدين في مؤسسة الدولة إلا من خلال الامتلاك المباشر من مؤسسة المعبد لمؤسسة الدولة، لكن الطريق الصحيح لتأثير الدين في الدولة هو أن يعمل الدين في المجتمع والتربية والضمائر، ثم ينعكس هذا الأثر من الناس على الدولة، أي أن مرور أثر المعبد على الدولة بالإنسان شرطٌ أساسي وضروري لفعالية كلّ من الدين والسياسة وتفاعلهما .. ثم يأتي بعد ذلك كله من يحدّثك عن “استسلام للعلمنة” .. وكأن الخيارات محصورة بين امتلاك المعبد للدولة أو امتلاك الدولة للمعبد! .. هؤلاء بحاجة لمراجعة جادة في إيمانهم بالإنسان وفهمهم للإسلام على السواء ..