الاحتلال يستعد للمرحلة الثالثة من الحرب.. ماذا يعني ذلك؟

قالت هيئة البث الإسرائيلية، الجمعة 22 ديسمبر/كانون الأول 2023: “الجيش الإسرائيلي يستعد للانتقال إلى المرحلة الثالثة في القتال بغزة خلال الأسابيع المقبلة، وفقًا للإنجازات العملياتية”، وذلك نقلًا عن مصادر لم تسمها، زاعمة أن الجيش سيطر بشكل كامل على معظم مناطق شمال القطاع بينما يواجه صعوبات بالمضي قدمًا في الجنوب.

وكشفت القناة الـ11 العبرية تفاصيل تلك المرحلة المزعومة، لافتة إلى أنها ستشمل “إنهاء المناورة البرية في القطاع، وتسريح القوات الاحتياطية، واللجوء إلى الغارات الجوية، وإقامة منطقة عازلة على الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة”، إضافة إلى “تقليص عدد القوات والاستمرار في هجمات مركزة” بغزة.

وأشارت صحيفة “هآرتس” العبرية إلى أن الجيش أصبح فعليًا في مرحلة الإعداد لتلك المرحلة، عكس ما يعلنه صناع القرار داخل حكومة الكابينت، منوهة أن مراكز القوى في الوسط الإسرائيلي تستعد “لتغيير كبير” في يناير/كانون الثاني المقبل، موضحة أن هذا التغيير مرتبط بإعادة انتشار مئات آلاف جنود الاحتياط بسبب العبء على الاقتصاد والجنود وعائلاتهم.

ولم يحدد الإعلام العبري الجدول الزمني لبدء تلك المرحلة التي يرجح البعض أن تكون مع بداية العام الجديد، وهو ما ألمحت إليه وسائل إعلام أمريكية خلال الأيام الماضية، غير أن الوضع على الأرض ميدانيًا لا يتقدم بالوتيرة ذاتها التي يسير عليها الخطاب السياسي حسبما ذكرت “هآرتس”، الأمر الذي يثير الكثير من التساؤلات عن دلالات الانتقال للمرحلة الثالثة من الحرب ومدى تحقيق الاحتلال لأهداف المرحلتين السابقتين.

تطورات الميدان.. نظرة عن كثب

يأتي الإعلان عن تلك المرحلة في وقت يعاني فيه جيش الاحتلال من وضعية مأزومة ميدانيًا، حيث الفشل في تحقيق أي من أهدافه المعلنة بداية المعارك، فلا استطاع القضاء على حماس وبقية فصائل المقاومة، ولا حرر أسراه بأيدي المقاومة، ولا جعل من غزة منطقة آمنة لا تهدد الداخل الإسرائيلي.

فبعد أكثر من 76 يومًا من الحرب لا تزال رشقات حماس الصاروخية تسقط في تل أبيب، وتجبر عشرات آلاف المستوطنين والإسرائيليين على الاحتماء بالملاجئ، ولا تزال المواجهات ضارية في مناطق الشمال التي ادعى جيش الاحتلال أنه سيطر عليها بالكامل، هذا بخلاف الفشل في تحرير أسير واحد من المحتجزين لدى المقاومة بالقوة.

علاوة على سقوط أكثر من 140 مجندًا وضابطًا في صفوف الاحتلال منذ العملية البرية في 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، من إجمالي 470 عسكريًا قُتلوا منذ بداية الحرب، وإصابة أكثر من 5 آلاف، منهم 800 بإصابات خطيرة، فضلًا عن الاضطرابات النفسية التي تعرض لها آلاف العسكريين الإسرائيليين، وتصنيف سلطات الاحتلال لـ3 آلاف جندي كأصحاب إعاقات دائمة في الجيش.

ويتزامن الحديث عن المرحلة الثالثة من الحرب مع سحب لواء غولاني البري من قطاع غزة، وهو أكبر ألوية جيش الاحتلال وأقدمها على الإطلاق، وذلك بعد الخسائر التي تكبدها خلال الأيام الماضية، فيما بررت وسائل إعلام عبرية هذا الانسحاب المفاجئ بأنه “لإعادة تنظيم صفوفهم والتقاط أنفاسهم، وزيارة أهاليهم لبضعة أيام”.

لم يكن لواء غولاني هو الانسحاب الوحيد لقوات جيش الاحتلال من غزة هربًا من الخسائر التي تعرض لها، فبعد ساعات قليلة من هذا الانسحاب تلاه إخراج قوات المظليين والمدرعات من القطاع كذلك، في تطور يعكس الكثير من ملامح المشهد الميداني بعيدًا عن التصريحات العنترية الصادرة عن جنرالات الكابينت.

الإعلان عن مرحلة جديدة رغم الفشل.. ما الدوافع؟

بعد أكثر من شهرين ونصف من الحرب التي لم تحقق أي من أهدافها، بعيدًا عن الخطاب الشعبوي الإسرائيلي الذي يغازل الرأي العام الداخلي، آملًا في امتصاص غضبه المتصاعد، يبقى السؤال: لماذا يعلن الاحتلال عن مرحلة جديدة من تلك الحرب وفي هذا التوقيت تحديدًا؟

المحلل العسكري والإستراتيجي الأردني فايز الدويري يرى أن التصور المقترح بشأن تلك المرحلة التي تنطوي على تقليص أعداد الجيش وإعادة تموضع وإنشاء منطقة عازلة بعمق يصل إلى كيلومترين على طول السياج وتشمل وادي غزة، ينسجم بشكل كبير مع رؤية الإدارة الأمريكية وتوجهاتها في الآونة الأخيرة بشأن التخلي عن العملية البرية التقليدية والبحث عن عمليات نوعية يحقق بها الاحتلال أهدافه.

واستعرض الدويري على حسابه على منصة “إكس” 6 أسباب رئيسية وراء إعلان جيش الاحتلال عن بدء المرحلة الثالثة من الحرب، هي: “الضغوط الاقتصادية على دولة الكيان، بدء الحملة الانتخابية الأمريكية في بداية العام الجديد، تراجع الدعم الدولي لدولة الكيان والشعور الأمريكي بالعزلة، صمود المقاومة وقدرتها على الاستمرار في القتال لأمد مفتوح، الرفض المطلق لهدنة  إنسانية لإطلاق الرهائن، إلخ”.

وتذهب تقديرات أخرى إلى أن تلك المرحلة قد تتضمن اغتيال قادة المقاومة، وهو السيناريو غير المستبعد الذي أعلن عنه وزير خارجية الاحتلال بشكل مباشر، فضلًا عن وزير الدفاع، في تصريحات خاصة، تلك التصريحات التي وصفتها حماس بأنها محاولة للبحث عن انتصار زائف وسط هذا الفشل.

ويستبعد الخبير العسكري لقناة “الجزيرة” إمكانية تحقيق الاحتلال لتلك الخطة، خاصة بعد فشله في إنجاز أي من أهداف المرحلتين السابقتين، رغم كل الوحشية التي أظهرها خلالهما، لافتًا إلى أنه “في الحرب غير المتناظرة إذا لم يهزم الضعيف فهو منتصر”.

مأزق الاحتلال وفخ إدارة بايدن

بعد 75 يومًا من الإجرام اللا إنساني ضد قطاع غزة، وتحويله إلى محرقة طاردة للحياة وغير قابلة للعيش، يحاول جيش الاحتلال المدعوم من كبريات جيوش العالم الخروج من هذا المستنقع بأقل الخسائر، باحثًا عن انتصار يحفظ ماء الوجه، ويحافظ على استقرار الجبهة الداخلية للكيان المحتل وصورته الخارجية التي تعرضت للتشويه والتقزيم في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وتعاظمت خلال أيام الحرب السبعين.

ولأول مرة يطرق الاحتلال أبواب الوسطاء متسولًا صفقة مع المقاومة لتبادل الأسرى طويلة الأمد حتى ولو اُعتبرت انتصارًا لحماس، فليس هناك أي مشكلة لديه في تمرير هذا الأمر، لإنقاذه من وحل القطاع الغارق فيه ويتكبد يوميًا الخسائر الفادحة على المستويات كافة.

كما أن قطار الدعم العالمي الذي كان بمثابة الظهير السياسي الأكثر حضورًا للاحتلال بداية الحرب بدأ يتعرض لأعطال كثيرة، أسفرت عن انفلاته، عربة تلو الأخرى، ولم يعد يتبقى إلا العربة الأمريكية التي تواجه هي الأخرى انتقادات حادة بعد تصاعد الرأي العام ضدها، داخليًا وخارجيًا، ما تسبب في عزلها عن المجتمع الدولي الذي بدأ ينسحب تدريجيًا من قافلة دعم الاحتلال وجرائمه اللاإنسانية بحق الفلسطينيين.

ونتيجة لذلك استشعرت الولايات المتحدة الخطر على مصالحها التي باتت مهددة بسبب الشيك على بياض الذي منحته للاحتلال في انتهاكاته، وعليه جاء تراجع الخطاب على مضض، استجابة ورضوخًا لتلك الضغوط، وهو ما أفرز في النهاية عن قرار 2720 الصادر عن مجلس الأمن بالأمس والخاص بدخول المساعدات إلى قطاع غزة.

فالقرار رغم تفريغه من محتواه، يعد خطوة جيدة في مسار الانصياع الأمريكي للرأي العام الدولي ووضع الإدارة الأمريكية للغضب العالمي تحت مجهر الاهتمام، كما ذهب المحلل الفلسطيني، ياسر الزعاترة، خاصة بعد توسيع رقعة الحرب إثر دخول حزب الله والحوثيين على خط المعركة، ومخاوف خروج الأمر عن السيطرة بما يضع سمعة أمريكا ومصالحها في مرمى الاستهداف المباشر.

ويمكن القول إن صمود المقاومة وإدارتها للمعركة بشكل جيد، عسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا ونفسيًا، وضع الاحتلال وأعوانه في مأزق كبير، الأول بفضح جرائمه وعنصريته من جانب، وهشاشة بنيته وضعف أدائه رغم الإمكانات الكبيرة من جانب آخر، والثاني من خلال كشف زيف شعاراتهم الإنسانية ومبادئهم المزيفة وازدواجيتهم الفاضحة.

ولذا كانت محاولات القفز من قارب الاحتلال لتبرئة الساحة والتطهر من المسؤولية هي السمة الأبرز لحلفاء الاحتلال من الأوروبيين خلال الأيام الأخيرة عبر تغير الخطاب الإعلامي والسياسي مقارنة بما كان عليه بداية المعركة، لتجد أمريكا نفسها وحيدة في ساحة غضب الرأي العام الدولي، وفي كفة واحدة مع الاحتلال وإجرامه الذي لا يتوقف.

وأسفرت تلك الضغوط التي تعمقها المقاومة يومًا بعد الآخر بثباتها وصمودها، مدعومة من الرأي العام العالمي، عن تغيرات جوهرية في الميدان، تجبر الاحتلال على إعادة تقييم المشهد والخروج من الفخ بأسرع وقت ممكن، لكن بصورة تحفظ له ماء وجهه وتوهمه بالنصر، فكان القفز للمرحلة الثالثة رغم الفشل في تحقيق أهداف المراحل السابقة.