بعد هجوم أربيل.. هل تدفع إيران ثمن مغامراتها في العراق؟

أظهرت الحكومة العراقية تحولًا نوعيًّا في سياق التعاطي مع التجاوزات الإيرانية التي تحدث بين الحين والآخر في العراق، ومنها الهجمات الصاروخية الأخيرة التي حدثت في أربيل، بعد أن قام الحرس الثوري الإيراني فجر الثلاثاء، بتوجيه عدة ضربات صاروخية إلى مناطق متفرقة فيها، عبر استخدام صواريخ “فاتح 110” قصيرة المدى، أوقعت العديد من الخسائر المادية والبشرية، والتي كان من أبرزها مقتل رجل الأعمال الكردي بيشرو دزيي، مالك شركة “أمباير وورلد”، والمقرّب من عائلة البارزاني الحاكمة في إقليم كردستان.

ورغم أن إيران بررت عمليات القصف بأنها تأتي ردًّا على “الأعمال الإرهابية” الأخيرة داخل إيران، باستهداف مقرات تابعة للموساد الإسرائيلي في أربيل، إلّا أن لجنة تقصّي الحقائق التي شكّلتها حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، للوقوف على خلفيات الهجوم والادعاءات الإيرانية، برئاسة مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي، أكّدت في تقريرها أن الأماكن المستهدفة لا تحتوي على أدلة واضحة على وجود نشاط للموساد فيها، وأن الادعاءات الإيرانية غير صحيحة في هذا الخصوص.

وفي هذا السياق، سرعان ما عبّرت الحكومة العراقية عن إدانتها للأعمال العسكرية التي قامت بها إيران، وفي الإطار ذاته جاء بيان صادر عن حكومة إقليم كردستان، معتبرًا أن الهجمات الإيرانية المتكررة في الإقليم تمثل خرقًا واضحًا للسيادة العراقية، ومطالبًا المجتمع الدولي بالتحرك لوقف هذه الهجمات.

اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي

رغم استدعاء وزارة الخارجية العراقية سفيرها في طهران ناصر عبد المحسن يوم الأربعاء “للتشاور”، بعدما استدعت القائم بالأعمال الإيراني لديها أبو الفضل عزيزي، للاحتجاج على شنّ بلاده هجمات على عدد من المناطق في أربيل، إلّا أنها أكدت أيضًا أن “حكومة جمهورية العراق تعدّ هذا السلوك عدوانًا على سيادة العراق وأمن الشعب العراقي، وإساءة إلى حسن الجوار وأمن المنطقة، وتؤكد أنها ستتخذ جميع الإجراءات القانونية تجاهه ضمنها تقديم شكوى إلى مجلس الأمن”.

يمثل لجوء العراق إلى مجلس الأمن الدولي تحركًا مختلفًا عن سياسات الإدانة والاستنكار التي اعتادت الحكومات العراقية عليها في الفترة السابقة، ورغم أن هذه الخطوة لم تتبلور بعد كإجراء عملي على أرض الواقع، إلّا أنها قد تمثل ضربة قوية للعلاقات بين البلدَين، خصوصًا أن إيران تنظر إلى العراق على أنه بيئة داعمة للنفوذ الإيراني، وجزء من “محور المقاومة”، نظرًا إلى طبيعة العلاقات الوثيقة التي تربطها مع العديد من القوى السياسية والجماعات المسلحة، ومن ثم إن إمكانية صدور قرار بالإدانة ضد إيران، قد يعيد تشكيل صورة إيران ليس في العراق فحسب، إنما في باقي البلدان التي تمتلك فيها إيران حضورًا لافتًا.

ما يزيد من قوة الموقف العراقي في حالة ما تم المضيّ قدمًا في طرح ملف الهجمات الإيرانية الأخيرة داخل أروقة مجلس الأمن الدولي، أن هناك تفاعلًا دوليًّا مع العراق بهذا الخصوص، وذلك ما ظهر في دعوة وزراء الخارجية العرب لعقد جلسة طارئة للجامعة العربية لبحث الاعتداءات الإيرانية الأخيرة، كما أن العديد من وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي عبّروا عن دعمهم للموقف العراقي، على هامش اجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي “دافوس” المنعقد حاليًّا في سويسرا.

إن إعلان السوداني، ومعه رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني، عن إلغاء اجتماعات كانت مقررة مع وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان على هامش مؤتمر “دافوس”، يشير بما لا يقبل الشك إلى حجم الانزعاج الرسمي العراقي من التجاوزات الإيرانية المستمرة، وهي أشبه ما يمكن اعتباره إدانة سياسية لإيران عمّا تقوم به بين الحين والآخر داخل الأراضي العراقية.

هل سيمضي العراق إلى النهاية؟

التحدي الأكبر الذي يقف أمام حكومتَي بغداد وأربيل، يتمثل في مدى القدرة على المضيّ قدمًا في تدويل ملف الهجمات الإيرانية الأخيرة، فرغم إعلان العراق عن نيته في هذا السياق، إلّا أن تصريحات وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين أظهرت ارتباكًا عراقيًّا بهذا الخصوص، كما أظهر خشية حكومية من طبيعة التوازنات السياسية في البلاد، ففي جزء من مقابلة لمراسلة “سي إن إن” بيكي أندرسون في “دافوس”، قال حسين إن ذهاب العراق إلى مجلس الأمن الدولي سيخلق مشكلة كبيرة لإيران.

فإدانة إيران ستفتح الباب أمام العديد من الدول المتضررة من الهجمات التي تشنّها الجماعات الحليفة لإيران في المنطقة للمضيّ قدمًا نحو تدويلها، كما سيجعل إيران تواجه مشكلة دولية كونها دولة داعمة للفوضى في المنطقة، والأهم أن هذا الواقع سيشجّع باكستان هي الأخرى على الذهاب إيضًا نحو مجلس الأمن الدولي، بعد قيام إيران بشنّ هجمات صاروخية داخل الأراضي الباكستانية مساء الثلاثاء الماضي.

سلوكيات حكومتَي بغداد وأربيل، بعد الهجمات الإيرانية الأخيرة، أظهرت جانبًا مهمًّا يمكن البناء عليه مستقبلًا، وهو أن التطابق والتعاون بين الطرفَين يمكن أن يشكّلا الأساس لبناء سياسة خارجية فاعلة

ممّا لا شك فيه أن حكومة السوداني تدرك حجم التحديات الكبيرة التي تواجهها في هذا الإطار، خصوصًا أنها مشكّلة من قبل تحالف سياسي، والحديث هنا عن الإطار التنسيقي، الذي تنضوي ضمنه العديد من القوى السياسية والعسكرية ذات العلاقات الوثيقة مع إيران.

وبالتالي من غير المتوقع أن تسمح هذه القوى لحكومة السوداني المضيّ قدمًا بإجراءات تدويل الملف، لأن هذا الواقع سيمثل إدانة لها أيضًا قبل إيران، على اعتبار أن العديد منها منخرط في مواجهة مفتوحة مع القوات الأمريكية في العراق، واستهدف مرارًا مطار أربيل الدولي وقاعدة حرير الجوية، التي تتواجد فيها قوات أمريكية ضمن التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”.

حملة شعبية لمقاطعة إيران

“خليها تخيس” هو الوسم الذي بدأ تداوله في العراق، في ردّ فعل شعبي على الهجمات الأخيرة التي شنتها إيران في أربيل، ويستهدف هذا الوسم مقاطعة البضائع الإيرانية الموجودة في الأسواق العراقية.

ورغم أن هذه الخطوة لا يتوقع أن تستمر طويلًا بسبب السيطرة الإيرانية الكبيرة على السوق العراقية، فإنها إلى جانب بُعدها الاقتصادي الذي سيكلف إيران خسائر مالية كبيرة، تمثل أيضًا ردّ فعل اجتماعيًّا عراقيًّا ضدّ ما تقوم به إيران، خصوصًا أن بعض المطالبات المجتمعية بدأت تروّج لفكرة طرد السفير الإيراني من بغداد، على غرار ما فعلته باكستان بعد هجوم إيران عليها.

ممّا لا شك فيه أن إيران بعد اغتيال قائد قوة القدس السابق قاسم سليماني لم تعد كما كانت، أصبحت مرتبكة في العراق، وأحد أبرز مظاهر هذا الارتباك هو أن الحرس الثوري الإيراني شنّ الهجمات الأخيرة على أربيل دون علم الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بها، فهي جاءت بعد تنسيق مباشر بين المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي وجنرالات الحرس الثوري، ما يظهر بدوره حجم التقاطع الكبير داخل دوائر صنع القرار الإيراني.

إذ إنه بعد هذه الهجمات، تُركت حكومة رئيسي وحدها لتواجه تداعيات هذا الهجوم، سواء في الداخل العراقي أو على صعيد المجتمع الدولي، كما أنها أصبحت تواجه سيناريوهات معقدة في الداخل العراقي، وتحديدًا في سياق القوة الناعمة الإيرانية التي بدأت تتآكل يومًا بعد آخر.

فإيران فقدت الكثير من زخمها السياسي في الداخل العراقي، كما أن الإخفاقات الكبيرة التي مرّت بها في مرحلة ما بعد سليماني، دفعت بالعراق للمضيّ قدمًا بعيدًا عن الخيارات الإيرانية، رغم التأثيرات التي يمارسها حلفاء إيران في العراق.

إن النقطة المهمة التي يمكن البناء عليها هي أن سلوكيات حكومتَي بغداد وأربيل، بعد الهجمات الإيرانية الأخيرة، أظهرت جانبًا مهمًّا يمكن البناء عليه مستقبلًا، وهو أن التطابق والتعاون بين الطرفَين يمكن أن يشكّلا الأساس لبناء سياسة خارجية فاعلة، وقادرة بالوقت ذاته على مواجهة التحديات الإقليمية والدولية.

والأهم من كل ذلك، إن استمرار هذا التعاون سيدفع بالعديد من القوى الإقليمية، وتحديدًا إيران، لإعادة تشكيل دورها في العراق على نحو أكثر سلمية، ومراعاة للمصالح والسيادة العراقية، والكفّ عن التدخل المستمر في الشأن العراقي، والأهم من ذلك كله عدم جعل العراق ساحة لتصفية الحسابات مع قوى إقليمية أخرى، والحديث هنا عن “إسرائيل”.