كيف حيرت أعمال السحر عقول العلماء؟

santet

“هوكاس بوكاس، تونتوس تالونتوس، فادي سيلير يتير جوبيو” لم تكن لهذه الكلمات أي قوة وإنما مجرد أداة إلهاء، فهي مجموعة من الألفاظ المبهمة التي كان يستخدمها أحد السحرة بهدف خداع أبصار المشاهدين لتمرير حيلته دون أن تنكشف، وذلك لأن إلهاء عين الرائي وأذنه يجعل من الصعب اكتشاف الحيلة وتمييز الدجال.

حاول علماء النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا والفلاسفة ورجال الدين أن يضعوا تفسيرًا واضحًا للممارسات الغريبة التي يقوم بها السحرة، واختلفت الآراء والتفسيرات على مدى ألفين وخمسمئة عام، لكنهم في النهاية اتفقوا على ارتباطه بالوهم والاحتيال والخرافة، ولاحظوا انتشاره بين الطبقات التي تعاني من الجهل والفقر، كوسيلة لتعبئة هذا الفراغ الذي يعيشون فيه بالتفسيرات والحلول المثيرة للدهشة.

وللتعرف على تاريخ هذه الممارسات السحرية والتفسير العلمي والنفسي لها، يعرض لنا كتاب “السحر” لأستاذ التاريخ الاجتماعي أوين ديفيز مقدمة مختصرة عن بدايات هذه القضية التي تسيطر على الخيال الشعبي وتتشابك بصورة معقدة مع تطور الدين والعلم بحسب وصفه.

من أين جاء مصطلح السحر؟

هي كلمة مستمدة من الكلمة اليونانية “ماجيا” التي تشير إلى شكل الطقوس التي يؤديها “الماجو” أو “المجوس” وهم كهنة سحرة من الشرق من مملكة بابلية اسمها “كلدو” تقع جنوب العراق أو فارس قديمًا، والمجوس كلمة مشتقة بالأساس من الكلمة الفارسية “ماكوز” وفي بداية القرن الخامس قبل الميلاد باتت كلمة “ماجيا” هي المصطلح الأكثر استخدامًا للتعبير عن هذه الممارسات بعد أن استخدمت ألفاظًا مختلفة في الحضارة الإغريقية مثل كلمتي فارماكا وجويتيا.

تربط المراجع الإغريقية بين الديانة الزرادشتية في بلاد فارس والماجوي، بسبب الأوصاف التي لصقت بالزرادشتيين مثل عبدة النار، واتهامهم بنقل هذه الثقافة إلى اليونان والتشكيك بالراحلين إليها على أنهم ذاهبين لتعلم هذه الطقوس

أما بالنسبة إلى طباع وتقاليد الماجو، فلقد وصفهم عدد من الشخصيات اليونانية البارزة مثل الكاتب سوفوكليس الذي قال بأنهم “كهنة متسولون محتالون” والمؤرخ هيرودوت عندما كتب “كانوا يشرفون على طقوس الإراقة ويفسرون الأحلام وكسوف الشمس، وكانوا يغنون الترانيم والتعاويذ للآلهة وقت شروق الشمس، وكانت ممارساتهم تختلف عن ممارسات رجال الكهنوت في الإغريق، فمثلًا مارس “الماجوي” طقس إراقة الحليب بينما لم يمارس الإغريق هذا الطقس، ويعتقد أنهم كانوا يتلون ترانيمهم همسًا، وهذه ممارسة مشبوهة، كما كان من المعتقد أنهم يمارسون نكاح المحارم”، ومصادر أخرى أوضحت بأنهم يقدمون تضحيات من البشر والحيوانات ويسيطرون على أرواح الموتى ويشفون المرضى.

تربط المراجع الإغريقية بين الديانة الزرادشتية في بلاد فارس والماجوي، بسبب الأوصاف التي لصقت بالزرادشتيين مثل عبدة النار، واتهامهم بنقل هذه الثقافة إلى اليونان والتشكيك بالراحلين إليها على أنهم ذاهبين لتعلم هذه الطقوس من الماجوي، ومن ناحية أخرى، يرى المؤرخون أنه من الصعب الحسم بشأن أول مصدر ومنشأ للسحر.

السحر مرادف للشرك والجهل والتخلف

على مر العقود والحضارات، تحول السحر إلى أداة اتهام بين الجماعات الدينية المختلفة، على اعتبار أن السحر انحرافًا أو شكلًا مفسدًا للدين، حيث ألصقت صفات الشرك والشر والفحش بأنشطة وشعائر الديانة التي تختلف عن خطى السلطات، وهذه الاتهامات لحقت بالمسيحيين الأوائل في المجتمع الروماني واليهود في ألمانيا والمسلمين في إفريقيا على حد سواء.

واتسعت أيضًا داخل الأديان نفسها، فعلي سبيل المثال، اتهمت الغنوصية المسيحية بممارسة السحر وخلال حركة الإصلاح الديني اتهم عدد من الباباوات بممارسة استحضار الأرواح وعرف الكهنة والرهبان بأنهم مروجون للخرافة، والأمر نفسه ينطبق على الصوفية في الإسلام التي تم رفض طقوسها التقديسية للأضرحة وأسلوبها في التعليم الشفوي والروحي من الحركة الوهابية وبعض العلمانيين الإسلاميين مثل مصطفى كمال أتاتورك الذي رأى أن التصوف يساهم في إبقاء الناس في حالة من الجهل والسذاجة.

أصبح السحر حجر تتعثر به الدول في طريقها إلى التقدم والتطور الحضاري، إذ قضت الهند على المظاهر الهندوسية المثيرة للشبهة والشك، لإيمانها بأن هذه الممارسات باتت عائقاً أمام التقدم العصري

كما أصبح السحر حجر تتعثر به الدول في طريقها إلى التقدم والتطور الحضاري، إذ قضت الهند على المظاهر الهندوسية المثيرة للشبهة والشك التي اتهمت فيما سبق من جهات مختلفة بالوثنية والبدائية، فقضت على جميع أشكال السحر، لإيمانها بأن هذه الممارسات باتت عائقًا أمام التقدم العصري.

العلم الفاسد

بحسب كتاب ديفيز، فإن هربرت سبنسر العالم والمفكر البريطاني أول من صور السحر على أنه “نموذجًا بدائيًا للدين يقوم على العلاقات المتجانسة وعبادة الأسلاف ولكنه كممارسة قابل للتكيف مع تطور الدين، بحيث يستطيع كلاهما التعايش معًا”، وفي الجهة الأخرى رأى العالم إدوارد بيرنت تايلور أن السحر كان موجودًا في بادئ الأمر باعتباره تعبيرًا عن فكرة “الإحيائية” التي ترى أن الأشياء والبشر لها أرواح أو جوهر روحاني، كما وصفه بالعلم الزائف الذي يفسر العلاقة السببية بين الأشياء ويستغلها، لكنه علم فاسد لأن افتراضاته وتفسيراته البدائية كانت دائمًا خاطئة، وقال بأنه “أحد أخبث الأوهام التي حيرت الجنس البشري”.

أحدثت هذه الوجهات العلمية منعطفًا مهمًا في مسألة التفسير العلمي للسحر، وبناءً عليه قدم العالم جيمس فريزر نموذجًا مفصلًا عن نظريته الخاصة بهذا الشأن وقسم مراحل التطور الفكري الإنساني إلى ثلاث مراحل من السحر إلى الدين إلى العلم، وأوضح أن السحر جاء قبل الدين – الذي عرفه بأنه إيمان بقوى أعلى من قدرة البشر ومحاولة لاسترضائها – يتعارض مع السحر الذي يفترض أن السيطرة للبشر والدين نشأ بسبب فشل السحر.

السحر أخذ بالتوسع والتعمق في تفسير المحن والصعوبات في مجتمع الخير المحدود، وتختلف أشكاله ومفاهيمه بوصفه بالعين الحاسدة أو الشريرة والنحس

هذه الأبحاث والنظريات لاقت انتقادات واسعة، أهمها أفكار عالم الاجتماع إميل دوركايم الذي قال: “صحيح أن السحر والدين تجمعهما معتقدات وطقوس وعقائد مشابهة، لكن اختلاف وظيفة كل منهما الاجتماعية هو الذي فرق بينهما”، فالسحر اعتمد على تقديم بعض الخدمات لزبائنه بشكل سري وغامض.

وكما جرت العادة في الاجتهادات العالمية، تعامل مارسيل موس بشكل مختلف مع هذه الرؤية وبين أن الدين تطور قبل السحر على اعتبار أن الدين كان شكلًا من أشكال التعبير عن المجتمع ونشأ السحر عندما قرر البعض اقتباس الطقوس والمراسيم القدسية لتطبيقها بصورة تلائم معتقداتهم وأهوائهم.

كيف أصبح غيري أكثر ثراءً مني؟

وضع عالم الأنثروبولوجيا جورج فوستر نظرية “الخير المحدود” في الستينيات، وهي نابعة من دراسته لمجتمعات الفلاحين التي لا تشهد نموًا مرتفعًا من الناحية الاقتصادية لمحدودية وثبات الموارد، ولذلك إذا زاد ثراء شخص ما بينهم يصبح هدفًا للحسد وألسنة الجيران التي تتساءل عن مصدر هذه الوفرة، وكانت أحد مبررات هذا التغيير هي استعانته بالسحر.

وهذ يعني أن دور السحر أخذ بالتوسع والتعمق في تفسير المحن والصعوبات في مجتمع الخير المحدود، وتختلف أشكاله ومفاهيمه بوصفه بالعين الحاسدة أو الشريرة والنحس، وتنتشر هذه المصطلحات بقوة في مجتمعات حوض البحر المتوسط التي ابتعد بعضها عن الاستعراض الاجتماعي بممتلكاتهم ومناسباتهم السعيدة خوفًا من العين الحسودة.

كيف نظر علم النفس إلى السحر؟

رأى علماء النفس القدامى أن قصص السحر ما هي إلا خيال وهذيان ونوعًا من الجنون وعلى الساحرات والسحرة أن يتعالجوا من هذه الهلاوس والتخيلات التي تكون ناجمة أحيانًا عن بعض المواد والنباتات التي يستخدمها الدجال في ممارسة الطقوس وكانت تجعل الناس يعتقدون بأنهم تعرضوا للسحر دون قصد، لكن الطبيب الهولندي يوهان فاير نظر إلى السحر كمصدر رئيسي للإيمان لمن يعانون الكآبة.

علم النفس ربط بين النساء والاضطراب العقلي والسحر، وذلك بسبب الاعتقاد الشائع بأن النساء أكثر عرضة للكآبة من غيرهن، وبالتالي يزداد احتمال لجوئهن إلى أعمال السحر

المثير للاهتمام، أن علم النفس ربط بين النساء والاضطراب العقلي والسحر في القرن التاسع عشر، وذلك بسبب الاعتقاد الشائع بأن النساء أكثر عرضة للكآبة من غيرهن، وبالتالي يزداد احتمال لجوئهن إلى أعمال السحر.

محاربة الشعوذة

شهد القرن السادس عشر مواقف سياسية حيال الممارسات السحرية، وكان من بينها محاكمة السحر وسن قوانين في كل من إنجلترا والدنمارك ورومانيا بمعاقبة الجماعات التي تنضم إلى محافل المشعوذين والسحرة والدجالين.

وفي عصرنا الحاليّ ساعد التقدم التكنولوجي بصورة كبيرة على انتشار الأشخاص الذين يروجون لقدرتهم على شفاء وعلاج الناس باستخدام الآيات القرآنية حتى يكسبوا ثقة الناس بهم، خاصة أولئك الذين فشل الطب في إيجاد علاج لأمراضهم أو من فقدوا الأمل في إيجاد حل لمشكلاتهم الحياتية واعتقدوا أن الخلاصة قد تكون على يد السحرة.

الأمة العربية والإسلامية تنفق نحو 40 مليار دولار سنويًا على أعمال السحر والشعوذة

وخوفًا من تفشي هذه الظاهرة بشكل أكبر في المجتمعات، حاربت الحكومات المكاتب والعيادات التي تشتبه بها أو يتم الإبلاغ عن أساليب النصب والاحتيال التي يتعرض لها الآخرون، كما حدث العام الماضي في العراق عندما أقرت وزارة الداخلية العراقية بإغلاق مكاتب السحر والشعوذة المنتشرة في البلاد ومعاقبة المخالفين.

الأمر المثير للدهشة هي المبالغ التي تنفقها شعوب الدول العربية على هذه الأعمال، فبحسب الداعية المصري مرزوق رضوان فإن الأمة العربية والإسلامية تنفق نحو 40 مليار دولار سنويًا على أعمال السحر والشعوذة، وذلك خلال حوار له على قناة “إل تي سي” المصرية قبل عامين، وفي دراسة أكاديمية أخرى أظهرت نتائج مختلفة عن هذا الرقم، وذلك بإنفاق العالم العربي نحو خمسة مليارات دولار على هذه الممارسات، وتزداد المسألة خطورة وجدية في المملكة العربية السعودية التي تقوم فيه السلطات بإعدام كل من يمارس السحر والشعوذة كمحاولة لردع جميع الحالات.