السويداء بين التظاهر والفصائل.. تطور الحراك تحت وطأة القمع

في غياب دولة القانون وتحولها إلى نظام عصابات، يصبح من الحتمي ظهور فصائل تحمل توجهات مختلفة..

مع اندلاع ثورة 2011، سارع العديد من المعارضين الدروز إلى تبني خطاب الثورة وخاصة فئة المثقفين منهم، فانطلق أول اعتصام نقابي في السويداء بعد أيام من انطلاق الثورة، إضافة إلى انشقاق عدد من الضباط الدروز وتشكيلهم كتائب مقاتلة وانضمامهم للجيش السوري الحر، وفي ذات الوقت حرك النظام مؤيديه لقمع أي صوت معارض في المحافظة، فاستخدم بعض فئات البعثيين والأمنيين إضافة إلى “الزعران” والشبيحة من أبناء السويداء.

ولعبت وسائل الإعلام المؤيدة والمعارضة دورًا بارزًا في التقليل من شأن الحراك بجبل العرب آنذاك، وتأطير الدروز بصفة (الأقليات المؤيدة) للنظام في سوريا، وفي الوقت ذاته كانت السويداء تؤسس لتوجه جديد يتمثل في رفض الخدمة العسكرية في صفوف جيش النظام، وتشكيل حركات أهلية تحمي أبنائها من الملاحقة المتعلقة بالرأي السياسي أو ملاحقة المطلوبين للخدمة العسكرية والدفاع عن المحافظة من أي هجوم.

في التقرير من ملف “بني معروف” نتناول الحراك الثوري في السويداء منذ اندلاع الثورة في 2011 إلى جانب الفصائل العسكرية المحلية التي تشكلت على مدى السنوات الماضية.

الحراك الثوري

انضمت السويداء إلى الحراك الثوري مبكرًا، ولو بشكل محدود، إذ أصدر المحامون الأحرار أول بيان لهم بعد أسبوع واحد من انطلاق الثورة، طالبوا فيه بفك الحصار والطوق الأمني عن محافظة درعا، وفتح التحقيق في جريمة إطلاق النار على المدنيين العزل، وإلغاء الأحكام العرفية في سوريا ورفع حالة الطوارئ، وإطلاق سراح كل معتقلي الرأي في سوريا، والحد من دور الأجهزة الأمنية وصلاحياتها.

وبعد أيام، وفي 27 مارس/آذار 2011، خرج أول اعتصام لنقابة المحامين في مدينة السويداء، ما دفع محافظ السويداء آنذاك، محمد مالك علي، للحضور والحوار مع المحامين، إلى جانب تقديم وعود بإيصال مطالبهم.

بالتوازي، نظم بعض المؤيدين للحراك الثوري اعتصامًا للشموع استمر عدة أيام، تضامنًا مع محافظة درعا، التي كانت تشهد في ذلك الوقت تظاهرات ضخمة قابلها نظام الأسد بشن حملات اعتقال.

مع ارتفاع صوت المطالبات في السويداء، بدأ نظام الأسد في محاولة قمع الحراك من خلال تفجيرات وإطلاق الرصاص، حيث وقع في سبتمبر/أيلول 2015 تفجيران أحدهما أمام مبنى المشفى الوطني في السويداء، ما أدى إلى مقتل 58 شخصًا على رأسهم زعيم حركة “رجال الكرامة” الشيخ وحيد البلعوس.

وأشارت كل الدلائل آنذاك إلى وقوف فرع الأمن العسكري التابع للنظام برئاسة وفيق ناصر وراء هذه التفجيرات، وأعقب هذه التفجيرات مظاهرات حاشدة غاضبة أسفرت عن إسقاط تمثال حافظ الأسد الرئيسي في ساحة السير التي أصبح اسمها فيما بعد ساحة الكرامة، ما أدى إلى وقوع اشتباكات مع عناصر النظام الأمنية.

في مارس/آذار 2016 وتحت اسم حملة “حطمتونا”، انطلقت عدة اعتصامات ومظاهرات جابت شوارع المدينة، وطالب المتظاهرون بإسقاط نظام الأسد، لكن تم تفريقها عبر إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، ما أدى إلى تراجع الحراك في المحافظة ليتوقف عقب ذلك.

في 2020 شهدت المحافظة احتجاجات شعبية تحت شعار “بدنا نعيش”، وهاجم المتظاهرون رموزًا أمنية واقتصادية كبيرة في النظام، مطلقين شعارات مطلبية، ومع سوء الأوضاع الاقتصادية والأمنية تحول الحراك إلى حراك منظم وعادت روح البدايات وثورة 2011 وشعاراتها إلى الشارع.

لاقى هذا الحراك الكثير من المؤيدين داخل مجتمع السويداء وتحول إلى حراك مستمر في ساحة الكرامة، ما اضطر النظام إلى توجيه البعثيين والشبيحة للخروج بمسيرة مؤيدة في الجهة المقابلة من ساحة الكرامة، وهو ما أدى إلى الاعتداء على المعتصمين واعتقال تسعة أشخاص، وتم توثيق ذلك عبر بث مباشر على منصة فيس بوك.

في فبراير/شباط 2022، ومع تدهور الأوضاع الأمنية والخدمية وصدور قرارات رفع الدعم الحكومي عن شرائح واسعة من الناس، ظهرت أشكالًا جديدةً للحراك في السويداء، حيث تم قطع بعض الطرق الرئيسية، وفتحها فقط أمام الطلاب والحالات الإسعافية، كما سلمت بعض القرى البطاقات الذكية للبلديات تعبيرًا عن رفض الناس لقرارات حكومة الأسد.

مع نهاية 2022 قامت بعض المجموعات بإحراق مبنى المحافظة واقتحامه وتمزيق وإتلاف بعض الصور والملفات، في حركة تبرأ منها معظم المشرفين على الحراكات والمظاهرات السابقة.

واستمرت الاعتصامات الأسبوعية تحت شعار “هنا السويداء هنا سوريا”، وظهرت الكتابات على جدران المدارس متضمنة إشارة صريحة بأن بشار الأسد هو خلف ملف المخدرات الذي استفحل في السويداء خلال عدة سنوات.

أما التحول الكبير في شكل الحراك وفعاليته في السويداء فكان في 2023، حيث شهد شهر أغسطس/آب انطلاقة أطول اعتصامات وتظاهرات في سوريا منذ انطلاق الثورة السورية 2011. وسنفصل ذلك في مادة قادمة.

التشكيلات العسكرية

منذ اندلاع الثورة، وجه نظام الأسد أجهزته العسكرية والأمنية نحو المدن السورية الثائرة، ما أدى إلى ضعف قبضته الأمنية في مناطق أخرى مثل السويداء، ومع امتداد الثورة وتوسعها في معظم الأراضي السورية، والخسائر الكبيرة التي تكبدها النظام في الأرواح والمعدات، تخلخل نسيجه الأمني.

هذا الوضع أدى إلى ظهور جماعات وفصائل محلية تولت الأدوار التي خلفها غياب الأجهزة الأمنية، حيث تنبه مجموعة من الأفراد، بمن فيهم الشيخ أبو فهد وحيد البلعوس، إلى الحاجة لتشكيل مجموعات تحمي السويداء من أي تهديد محتمل في ظل تراجع سلطة النظام، فقاموا في البداية بتأسيس مجموعات عفوية، مثل: مجموعة بيرق بقيادة البلعوس، وأغلب أعضائها من المنطقة الغربية في السويداء، ومجموعة خيال بقيادة عامر فرج، ومجموعة لونا التي تحولت تبعيتها لاحقًا إلى جهات أمنية.

لعبت هذه المجموعات دورًا بارزًا في مجموعة من الأحداث التي شهدتها المحافظة، حيث أسهمت في تحرير الشيخين: فادي نعيم وحسام غزالة من قبضة الأجهزة الأمنية. كما لعب الشيخ البلعوس دورًا مهمًا في تهدئة التوترات بين أهالي السويداء ودرعا، إثر حادثة قتل أحد أبناء السويداء في درعا وإرساله مقطعًا إلى عائلته، كل هذه الأحداث أظهرت أن مثل هذه المجموعات يمكن أن تلعب دورًا فعّالًا في حماية المحافظة وتجنبها أي تهديدات محتملة.

لكن بعد ذلك تغيرت تسميات هذه المجموعات كما شكلت أجسامًا جديدةً منذ 2014 وانقسمت المجموعات والفصائل المحلية في السويداء إلى ثلاث فئات:

فصائل حيادية إيجابية (رجال الكرامة)

في 9 أبريل/نيسان 2014، تم اختيار الشيخ وحيد البلعوس قائدًا للمجموعات المحلية التي عرفت في البداية تحت اسم “حركة مشايخ الكرامة”، وبعد أقل من أسبوع، أصدر البلعوس بيانًا تم اعتباره رؤية تأسيسية حدد فيه مواقف الحركة تجاه مختلف الأطراف والأحداث.

وقامت الحركة بعدة خطوات بارزة ساهمت في زيادة شعبيتها، من بينها المعارك التي خاضتها الحركة أبرزها كانت ضد “جبهة النصرة” في قريتي داما ودير داما 2014، وضد تنظيم “داعش” في معركتي الحقف وشقا في 2015، إضافة إلى منع سحب شباب السويداء إلى الجيش لمن لم يرغب في ذلك، ومنع تفريغ صوامع الحبوب في المحافظة، ومنع الجيش من نقل أسلحته الثقيلة خارج السويداء، ومنع حصول فتنة داخلية بين البدو والدروز، والدعوة إلى مؤتمر إنقاذ وطني سوري في القريّا معقل القائد العام للثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش.

في 4 سبتمبر/أيلول 2015، تعرض موكب الشيخ وحيد البلعوس وقيادات الحركة لتفجير أدى إلى مقتله، وبعد وفاته تولى شقيقه رأفت البلعوس لفترة قصيرة، قبل أن تشهد الحركة انشقاقات بعد تولي الشيخ يحيى الحجار قيادتها.

تراجع دور الحركة على الساحة المحلية بعد مقتل البلعوس، واقتصر دورها على مفاوضة السلطات الأمنية على إطلاق سراح المعتقلين على خلفية سياسية أو من المطلوبين للخدمة العسكرية، وكان لها دور بارز في المعارك الكبيرة التي خاضها أهالي السويداء ضد تنظيم داعش في يوليو/تموز 2018 والمعارك ضد العصابات المحلية ذات التبعية الأمنية في 2022.

فصائل مؤيدة:

هي الفصائل ذات الارتباطات الأمنية التي شكلت في البداية لمواجهة القوى المحلية وضرب الأصوات المعارضة في السويداء، قبل أن تتغير أدوارها وتختلف تسمياتها، ليظهر مصطلح العصابات المحلية، حيث اعتمدت في تمويلها على الأجهزة الأمنية من خلال تسهيل عملها في تهريب المحروقات إلى مناطق داعش في البادية وتصنيع وتجارة المخدرات.

بدأ الظهور الأول للعصابات في 2011، حين تسلم جهاز الاستخبارات العسكرية الملف الأمني في السويداء، فأطلق أصحاب السوابق الجنائية من السجون إضافة إلى التعاقد مع بعض الزعران في المحافظة وتسليمهم أسلحة خفيفة، وتكليفهم بقمع أي تظاهرة سلمية.

في 2013 ظهر فصيل “حماة الديار” الذي أسسه نزيه جربوع بغطاء من فرع أمن الدولة، قبل تراجع دوره في 2016 فقامت عناصره من بلدة عريقة بالبحث عن التمويل الذاتي من خلال عمليات الخطف وطلب الفدية وتصفية بعض المخطوفين وسلب عشرات السيارات والشاحنات لتصبح أول عصابة منظمة على ساحة المحافظة.

بعد ذلك ظهرت العديد من العصابات التي كان لفرع الأمن العسكري دور كبير في إدارتها، أبرزها: عصابة عريقة، عصابة شهبا، عصابة السويداء، عصابة صلخد، وعصابة قنوات، وغيرها من العصابات الصغيرة التي امتلكت بطاقات أمنية وتتحرك بأوامر مباشرة من الأفرع الأمنية في المحافظة.

وبعد تفاقم عمليات الخطف والقتل والسرقة ونشر المخدرات في المدارس تحركت بعض القوى المحلية والمجتمع الأهلي ضد العصابات، فتم القضاء على عصابة شهبا عام 2021، حيث تبين أن أفراد العصابة يحملون بطاقات وسيارات أمنية مسجلة وكميات كبيرة من المخدرات ومواد متفجرة.

وبعد القضاء على عصابة شهبا، ظهرت عصابة جديدة أكد قائدها راجي فلحوط عدة مرات تبعيته للأمن العسكري ويعمل بتفويض منه، بعد أن كان سابقًا من أكثر المعارضين للنظام.

أنشأ فلحوط مقرًا لقواته على طريق السويداء، حيث رفع صورة بشار الأسد، وأقام مقرًا آخر في منزله حيث كانت صوره مُعلقة في كل مكان، وتصرف كما لو كان ضابطًا عدليًا، حيث كان بإمكان أي شخص أن يتوجه إليه ويقدم له مبلغًا من المال ليحصل على مساعدته، بما في ذلك اختطاف أو معاقبة أي شخص وفقًا لرغباته، فامتلك سلطة مطلقة كانت كافية لإيقاف قائد شرطة المحافظة ونزع رتبه واحتجازه.

في 2022 تحركت معظم الفصائل المحلية والمجتمع الأهلي وخاضت معارك دامية مع تنظيم قوات الفجر وانتهت بهروب زعيم القوات ومقتل وجرح واعتقال العشرات من عناصره، وفي حين قتل خمسة عناصر من الفصائل المحلية.

فصائل معارضة

تشكلت العديد من الفصائل المعارضة بعد انشقاقات عن حركة رجال الكرامة، حيث غلب طابع العشوائية والاندفاع والتورط على بعض تلك الفصائل أبرزها “قوات شيخ الكرامة” التي تركزت قيادتها في صلخد وتزعمها وسام العيد الذي قتل في 2019 من خلال مقربين له في الحركة.

كانت “قوات شيخ الكرامة” تشكل خطرًا على فرع الأمن العسكري، حيث منعت عناصره من التجوال في مدينة صلخد، ولاحقت المتورطين في تفجير الشيخ وحيد البلعوس، لكن الفرع عمل على تكوين عصابة في صلخد للإشراف على ملف تهريب المخدرات ولتكون سلاحًا في وجه قوات شيخ الكرامة، وهو ما حصل فعلًا بعد أن تم استدراج شابين من عائلة أبو منصور القياديين في الفصيل وتصفيتهما وحرق جثة أحدهما في المدينة.

ومن الفصائل المعارضة كان فصيل “الشريان الواحد” الذي تشكل في 2019 وضم العديد من المنشقين عن حركة رجال الكرامة إلى جانب متورطين في عمليات خطف وتهريب، وتبنى معارضة النظام منذ تأسيسه.

فصيل “لواء الجبل” وهو فصيل نشط خلال السنوات الماضية وكان له دور بارز في محاربة العصابات والدفاع عن السويداء ضد هجمات “داعش”، وتحرير العديد من المعتقلين من الدروز، وكان لقائده، مرهج الجرماني، الدور الأبرز في التأسيس لحراك ساحة الكرامة، قبل أن يتم اغتياله برصاصة في رأسه خلال نومه في 17 يوليو/تموز الماضي.

تجمع أحرار جبل العرب الذي نشط منذ 2022 وهو تجمع معارض يتزعمه الشيخ سليمان عبد الباقي، ويتبنى شعار “تجمع أحرار جبل العرب تجمع وطني لا طائفي ينادي بالحقوق المشروعة لكل طوائف الشعب السوري”، وله دور بارز في تحرير المعتقلين لدى الأجهزة الأمنية والتأسيس لحراك ساحة الكرامة، إضافة إلى فصيل القوى المحلية في السويداء: الذي ظهر على الساحة في يوليو/تموز الماضي.

ختامًا شهد مجتمع الدروز السوري منذ انطلاق الثورة العديد من الأحداث المفصلية، ولعبت القوى الأمنية على إدارة الفوضى داخل هذا المجتمع، فسعت تلك الأجهزة منذ بدايات الحراك إلى ضرب البنية القيمية لمجتمع الدروز من خلال تشويه العادات والتقاليد وزرع الشقاق بين أبناء المحافظة، وتمكين الزعران والعصابات والتشكيلات المؤيدة على حساب بقية شرائح المجتمع الذي يعاني أوضاعًا معيشيةً خانقة منذ سنوات عديدة، وكان هذا الخيار أفضل من الاقتحام العسكري لمناطق الدروز، وهو ما يناقض دعاية النظام بأنه حامي الأقليات في سوريا، ولكن ذلك لم يمنع الأجهزة الأمنية من اللجوء أحيانًا إلى التفجيرات والاغتيالات لخلط الأوراق.