هل تُنهي انتفاضة أهلنا بالجنوب مأساة العراقيين؟

مع انتهاء الانتخابات النيابية وافتضاح أمر تزويرها، دخل العراق متاهة العد والفرز والتحالفات السياسية، وليس في عقول السياسيين سوى التفكير بما سيحصلون عليه من منافع حزبية ومغانم مالية يجنونها من مناصبهم التي سيتقلدونها، وفي خضم كل هذا الحراك الحزبي والميليشياوي ضاع العراق والعراقيين الذين وجدوا أنفسهم كاليتيم يوم العيد لا أحد يلتفت إليه.
ففي الوقت الذي يعاني فيه العراقيون من عدم توافر أبسط وسائل الحياة الكريمة، يجدون من حولهم من شعوب العالم تتنعم بخيرات بلادها وتعيش في وئام مع بعضها، فما الذي ينقص العراق والعراقيون لكي يعيشوا كما تعيش تلك الشعوب؟
خدعوا العراقيين وقالوا لهم إن الحل لمشاكلهم يكمن بالديمقراطية التي جلبتها إليهم أمريكا، وبعد ست عشرة سنة وجد العراقيون أنفسهم مسلوبي الحرية مهدوري الكرامة، سواء من الاحتلال الأمريكي أم من الاحتلال الإيراني، يذوقون الويلات على يد أعوانهم من المليشيات والأحزاب ذات الولاء الإيراني أو ذات الولاء الأمريكي.
شعبنا بالجنوب الذي ارتكبت باسمه كل جرائم السلطة والمليشيات وحمل وزر جرائمهم وحمل كل البؤس الذي لاقوه على أمل أن يتغير الحال، ولكن بعد انقضاء ما يزيد على الشهرين على الانتخابات النيابية التي ظن البعض أنها ستأتي بصالحين ومصلحين، فتحوا أعينهم على أكبر فضيحة انتخابية تشهدها البلاد ويشهدها العالم، تم التلاعب بأصواتهم وتزييف إرادتهم.
خرجت تظاهرات عشائرية للمطالبة بالحقوق الشرعية، من قضاء صغير تابع لمدينة البصرة، لم تلبث وخلال أيام أن عمت كل المحافظات الجنوبية ومحافظات الوسط، بل وصلت التظاهرات إلى أحياء العاصمة بغداد
لم يجد أهلنا في الجنوب ومع ارتفاع درجات الحرارة وانقطاع التيار الكهربائي وندرة المياه الصالحة للشرب وموت محاصيلهم الزراعية بسبب الجفاف وتفشي الأمراض وانتشار البطالة، إلا أن يقولوا كفى لهذا، ولسان حالهم يقول: لقد دعمناكم بدماء شبابنا وصبرنا عليكم كل هذه السنين، وحملتمونا وزر أعمالكم الإجرامية، وفي النهاية وصلنا إلى حال لا نستطيع أن نعيش فيه كما يعيش البشر، وهدرتم كرامتنا حتى أصبحنا مضرب مثل للبؤس من غيرنا من الشعوب.
خرجت تظاهرات عشائرية للمطالبة بالحقوق الشرعية، من قضاء صغير تابع لمدينة البصرة، لم تلبث وخلال أيام أن عمت كل المحافظات الجنوبية ومحافظات الوسط، بل وصلت التظاهرات إلى أحياء العاصمة بغداد.
كان تعامل السلطة معها منذ البداية بالعنف في محاولة منهم لوأد التظاهرات في مهدها كما جرت العادة مع كل المتظاهرين، لكن حينما رأوا إصرار العشائر المنتفضة على المضي بتظاهراتهم واتساع نطاقها، بدأت أحزاب السلطة وميليشياتها بالتملق للمتظاهرين والتعبير عن تفهمهم لمطالبهم، ووعدتهم بحلول فورية لمعاناتهم، لكنهم في حقيقة أمرهم كاذبون، ولو كانت لديهم النية والإرادة الصادقة لحل معاناة المواطنين، لما انتظروا كل تلك السنين، حتى خرجت الجماهير بتلك الجموع الغفيرة للمطالبة بحقوقهم الشرعية.
لا يجب أن تنحصر التظاهرات في مدن الجنوب
وربما يكون اندلاع التظاهرات الحاليّة في مدن الجنوب القشة التي ستقسم ظهر السلطة، ولكن إذا بقيت في نطاقها الضيق في مدن الجنوب، لا محالة أن تتكالب عليها المليشيات وأزلام السلطة لوأدها، فالواجب على جميع الشعب العراقي في وسطه وشماله، الخروج لمساندة لتلك التظاهرات، والمطالبة بنفس المطالب التي طالب بها أهلنا بالجنوب، ذلك لأن المعاناة واحدة والهم واحد.
من الملاحظات التي سجلت على هذه التظاهرات، الخوف الشديد الذي بدا واضحًا على تصريحات أكثر من مسؤول حكومي أو ميليشياوي
يحب أن لا تنطلي على المتظاهرين الخدعة التي طالما استعملتها الحكومة وميليشياتها بالاستفراد بالثائرين وتصفيتهم، فحينما ثار أهلنا في الوسط والشمال من أبناء السنة، استفردت بهم السلطة حينما لم يساندهم أهلنا بالجنوب والكرد في الشمال، وحينما ضيقت السلطة بحصارها على الشعب الكردي إثر تجربة الاستفتاء على الانفصال، لم يساندهم باقي الشعب العراقي، ولم يلزم الحكومة بعدم معاقبة الشعب الكردي بجريرة سياسية ومغامراتهم الانفصالية.
واليوم يثور شعبنا في جنوب العراق من أبناء الشيعة، ونخشى تكرار نفس السيناريو ويقمعون تلك التظاهرات إذا لم يساندهم أخوتهم من كل المدن العراقية، على اختلافهم قومياتهم ومذاهبهم، لأن المعاناة واحدة والمصيبة التي يعاني منها الشعب العراقي واحدة.
لماذا رموز السلطة يشعرون بالخطر من تلك التظاهرات؟
ومن الملاحظات التي سجلت على هذه التظاهرات، الخوف الشديد الذي بدا واضحًا على تصريحات أكثر من مسؤول حكومي أو ميليشياوي، وتجدهم يبذلون جهدهم للتملق للعشائر المنتفضة، ويعود سبب ذلك إلى أن التظاهرات الحاليّة في غالبيتها من أبناء الشيعة، وهذا يشكل خطرًا كبيرًا على السلطة الحاكمة والمليشيات الموجودة حاليًّا، ذلك لأنها تعتبر هذه الطائفية الحاضنة الشعبية لها، وتعتبر شبابها الرصيد البشري لمغامراتهم العسكرية في العراق وخارج العراق، من خلال استغلال فقرهم لتجنيد أبنائهم وزجهم في الحروب، وبالتالي فإن المكون الذي يستطيع أن يؤثر بشدة على أركان النظام وسلطة المليشيات، أبناء المكون الشيعي.
المرجعيات هي الأخرى تحس بالخطر
لم يشمل الإحساس بالخطر فقط رموز السلطة والمليشيات ومن يمشي بركبهما، بل شمل المرجعيات الدينية التي كانت تستغفل عامة الشيعة وحبهم للدين، لتوجيههم لخدمة السلطة ومآربها المشبوهة.
على المتظاهرين أن لا يصغوا إلى تلك الفتاوى التي تصدر عن المرجعيات المرتبطة بالسلطة، فلطالما أوردتهم تلك المرجعيات إلى المهالك
فهذا المتحدث باسم مرجعية علي السيستاني يعلن يوم الجمعة أن المرجع السيستاني يساند مطالب الجماهير المنتفضة، لكنه يحذر من المندسين، وهذه الفرية كثيرًا ما كررها السياسيون ورموز السلطة، للتمهيد لقمع المتظاهرين، بحجة أن إرهابيين متغلغلين بين صفوفهم ، وهي نفس الفرية التي أطلقها المالكي على الاعتصامات التي قام بها أهلنا في المحافظات السنية، وكانت الذريعة التي من أجلها اقتحم تلك الاعتصامات وقتل الناس فيها.
على المتظاهرين أن لا يصغوا إلى تلك الفتاوى التي تصدر عن تلك المرجعيات المرتبطة بالسلطة، فلطالما أوردتهم تلك المرجعيات إلى المهالك، حتى وصل بهم الحال إلى ما هم عليه الآن.
العشائر المنتفضة فهمت الدرس
على ما يبدو أن عشائر أهلنا في الجنوب فهمت الدرس وعرفت أن ركوب موجة التظاهرات من الأحزاب أو المليشيات يعني انتهاء تلك التظاهرات على لا شيء، لذلك فإن شيوخ العشائر ردوا برسائل واضحة على كل من ادعى مساندة مطالبهم والوقوف بصفهم، بالقول: تظاهراتنا بريئة من أي تيار حزبي أو ميليشياوي، وهي تظاهرات شعبية مئة بالمئة، فلا تزايدوا علينا.
والحقيقة أن العشائر المنتفضة إذا أصرت على البقاء بعيدة عن تأثير الأحزاب والمليشيات، فإنها ستصل بالنهاية إلى تحقيق مطالبها، كما عليها أن لا تقع بفخ ركوب موجة التظاهرات كما فعل التيار الصدري قبل سنوات حينما ركب موجة التظاهرات الغفيرة التي اندلعت ببغداد من عامة الشعب، فحرفها عن مسارها، وفضت تلك التظاهرات على لا شيء، وعشائرنا بالجنوب عرفت الصدر وما غايته حينما عرض عليهم المشاركة معهم بالتظاهرات لجعلها تظاهرات مليونية حسب تعبيره.
من عوامل قوة هذه التظاهرات أنها بقيادة عشائرية، والتقاليد المتعارف عليها في العشائر العراقية أنها فوق مفاهيم الطائفية التي حاولت السلطة وميليشياتها زرعها بين صفوف العراقيين
القيادة العشائرية للتظاهرات عامل توحيد للشعب العراقي
ومن عوامل قوة هذه التظاهرات أنها بقيادة عشائرية، والتقاليد المتعارف عليها في العشائر العراقية أنها فوق مفاهيم الطائفية التي حاولت السلطة وميليشياتها زرعها بين صفوف العراقيين، وبالتالي فإن القيادة العشائرية حاليًّا من أقوى عوامل توحيد العراقيين، فلا تكاد تجد عشيرة عراقية خالصة من مذهب واحد، فالسني يأتمر بأمر شيخ عشيرته الشيعي، والشيعي يأتمر بأمر شيخ عشيرته السني، وهذا ما يجعل الانتفاضة تكتسب قوتها بعد أن حاولت الأحزاب الطائفية شق صفوف العشائر العراقية بفتنتها الطائفية طيلة الست عشرة سنة الماضية.
وفي الوقت الذي جعل البطش الحكومي والميليشياوي بالمجتمع العراقي خاليًا من الأحزاب الوطنية والمنظمات المدنية المعبرة عن نبض الشعب، والاضطهاد والمضايقات للمثقفين العراقيين، كل هذا جعل البلاد تخلوا من أي مؤسسة جامعة للشعب العراقي، وهنا يأتي دور المنظومة العشائرية لتشغل حيز الفراغ هذا وتكون عامل توحيد وعنصر قيادة للشعب العراقي، ليتسنى له أن يمر من هذه الأزمة الخطيرة.
على كل الأحرار في العراق والأصدقاء في الخارج دعم المنتفضين
وفي ظل هذه الأيام المصيرية التي يمر بها الشعب العراقي، كان لزامًا على العراقيين توحيد صفوفهم من عرب وكرد وسنة وشيعة وباقي المكونات، والوقوف بوجه من تسبب بهذا الدمار الذي يعاني منه الشعب العراقي.
هو نداء لكل تلك الشرائح لقول كلمة الحق والعمل على نصرة المنتفضين، وإلا فمتى سيحين الوقت للمتقولين لكي يعبروا عن وطنيتهم وحبهم للوطن؟ الوقت الحاليّ مناسب لذلك، والسلطة وميليشياتها تترنح تحت هذا الضغط الشعبي، وعلى أصدقاء العراقيين في الخارج أن يقولوا قولتهم لمناصرة الشعب العراقي، وأن لا يلوذوا بالصمت في هذا الوقت العصيب، ذلك لأن ذاكرة الشعب العراقي قوية، وسيذكر من وقف إلى جانبه ومن لاذ بالصمت، والمثل الشعبي العراقي يقول: “كل شي دين بدين حتى دموع العين”.