بعد ماليزيا.. كيف خسرت السعودية المعركة الآسيوية الثانية؟

153279659838347000

من ماليزيا إلى باكستان، رسمت نتائج الانتخابات التي أُجريت هذا العام خريطة خسائر فادحة للسعودية وحلفائها، فنتائج الانتخابات الباكستانية الأخيرة لم تحظ برضى المملكة وقبولها، بعد خسارة حزب حليفها نواز شريف المعتقل بتهم تتعلق بالفساد، وفوز حزب “حركة الإنصاف” وزعيمه عمران خان المقرب من عدو الرياض اللدود “إيران”.

لم تُخف الرياض نواياها كما جرى الوضع في ماليزيا، فسريعًا، وعقب صدور نتائج الانتخابات التشريعية الباكستانية التي أسفرت نتائجها عن فوز خان وحزبه وخسارة الحليف نواز شريف، عبرت أوساط سعودية قريبة من العائلة الحاكمة عن عدم رضاها عن تلك النتائج، وخشيتها من الحكومة القادمة وعلاقاتها مع المملكة.

وفيما يسود الحذر والترقب الأوساط الرسمية بين البلدين جاءت تغريدة الأمير السعودي خالد بن عبد الله آل سعود تعليقًا على فوز عمران خان وحزبه “الله يستر منه، يقال إنه ذنب من أذناب طهران” معبرة عن استياء داخل الأوساط السعودية، ولكن هذه التغريدة سرعان ما حُذفت من الحساب ولم تعد موجودة. 

وتتوالى الخسائر

بالعودة إلى أجواء الديمقراطية، تصدّر زعيم “حركة إنصاف”، عمران خان، نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في باكستان منذ أيام قليلة، متقدمًا على كل القوى السياسية التقليدية، ويعتبر خان من المناهضين لسياسة السعودية خاصةً في حربها على اليمن، وعبر في أحاديث لوسائل إعلام باكستانية عن معارضته مشاركة قوات باكستانية في حرب الرياض هناك.

وأفرزت الانتخابات التشريعية في باكستان مرحلة سياسية جديدة في البلد النووي الآسيوي، سيكون لها ارتدادات محلية ودولية، لما ستحمله من تغيير في السياسات الباكستانية على الصعد كافة، ففي أوقات عصيبة تعيشها باكستان على الصعيدين الاقتصادي والأمني، وفي مرحلة حساسة دوليًا، تتطلب جهودًا كبيرة لإبقاء باكستان بعيدةً عن تأثيراتها، وصل عمران خان إلى الحكم.     

وصول خان عزّز الخيبات السياسية السعودية المتتالية آسيويًا، فبعد الانتخابات الماليزية التي أوصلت خصم السعودية مهاتير محمد، إلى الحكم، مطيحًا بحليفها نجيب عبد الرزاق الذي اُعتقل بتهم فساد، وجهت الانتخابات الباكستانية صفعة أخرى للرياض، بحصول خصمها عمران خان (65 عامًا) على الأغلبية البرلمانية، مطيحًا بحليفها رئيس الوزراء السابق نواز شريف المسجون بتهم فساد هو الآخر.

نواز شريف قبض عليه مع ابنته بعد وصولهما إلى باكستان تنفيذًا لحكم ضدهما بالسجن بتهم الفساد

ورغم خلاف الرياض مع نواز شريف بشأن الموقف من أزمة حصار قطر وعدم انخراط إسلام آباد بشكل كامل في حرب اليمن – بحكم الرفض البرلماني – فإن السعودية تعتبر شريف وحزبه “الرابطة الإسلامية” حليفًا مأمونًا في ظل التحولات السياسية الباكستانية وصعود شخصيات وأحزاب داعية إلى التغيير ومكافحة “الفساد”، وهي الدعوات التي أسقطت حليفها نجيب عبد الرزاق في ماليزيا.

ويعتقد محللون أن المملكة تراهن أساسًا في هذه الدول وغيرها على النخب القديمة المرتبطة بها ماليًا واقتصاديًا وبالتالي سياسيًا، وأن أي رياح تحول جديدة – بما فيها الانتخابات الديمقراطية – في هذه البلدان ستأتي بنخب جديدة وتوجهات ومواقف مختلفة لديها شكوك عميقة في الأجندات السعودية.

أما الشكوك السعودية المحيطة بصعود خان فتأتي بعد أسابيع فقط من سقوط حليفها في ماليزيا وملاحقته بتهم فساد، إذ لم تستطع الهبات السعودية “الخاصة والعامة” إنعاشه وإبقائه في السلطة، إذ عاد مهاتير محمد رئيسًا للوزراء بعد الانتخابات العامة في مايو/أيار الماضي، وهو الذي لطالما اعتبر أن السعودية ليست شريكًا مناسبًا.    

ويرى مراقبون أن اتهام اثنين من حلفاء السعودية في أكبر البلدان الإسلامية في آسيا بالفساد يشير إلى أن صناديق الاقتراع المقرونة بتوجهات لمكافحة الفساد في بلدان كثيرة تقوض عمليًا النفوذ السعودي الذي “عشش” لعقود في تلك الدول الإسلامية بجنوب شرق وآسيا وغربها.

يمكن فوز خان  أن يتردّد في المنطقة كخسارة جديدة للسعودية ومحورها، في العالمين الآسيوي والإسلامي

وإضافة إلى دور قضايا الفساد التي تورطت فيها النخبة المالية للمملكة في تآكل نفوذ المملكة، فإن المتغيرات السياسية في السعودية نفسها وارتدادات حرب اليمن الخاسرة ومواقف الرياض الرسمية من القدس والتطبيع والقضية الفلسطينية أضعفت المملكة في مناطق ودول تعد هذه القضايا -شعبيًا – جوهرية في تحالفاتها وعلاقاتها.

ويمكن أن يتردد فوز خان، السياسي المتهم بـ”التقلّب” في المواقف والطامح إلى بناء “باكستان جديدة”، والرافض بشدة لانخراط بلاده في حرب اليمن والمدعوم من مؤسسة الجيش، في المنطقة كخسارة جديدة للسعودية ومحورها، في العالمين الآسيوي والإسلامي، بعد أيام فقط من صعود مهاتير محمد في ماليزيا.

ومن المتوقع أن يبدأ خان – الذي من المرجح أن يكون رئيس وزراء باكستان المقبل – في إجراء محادثات لتشكيل ائتلاف حاكم مع أحزاب أصغر، فبحسب نتائج الانتخابات، تقدم حزب “حركة إنصاف” الذي يقوده خان، بحصوله على 16.86 مليون صوت، بينما حلَّ حزب “الرابطة الإسلامية” (جناح نواز شريف) في المرتبة الثانية، بحصوله على 12.89 مليون صوت، وفقًا لوكالة “رويترز“.

من ماليزيا إلى باكستان.. طبول التغيير الآسيوي صداع في رأس المملكة

بعد هذا الأداء الذي جاء أفضل من المتوقع، يبرز نجم الكريكيت العالمي – الذي ولج الحياة السياسية رسميًا عام 1995 من بوابة اللعبة الأكثر شعبية في باكستان – إلى واجهة الحكم في إسلام آباد، متفوقًا على الأحزاب العريقة والتقليدية، ومستندًا إلى مواقف عديدة، عارض فيها سياسات الولايات المتحدة والسعودية، وهو ما جعله خصمًا للرياض التي وجهت إمكاناتها المالية والإعلامية ضده، في خلال السنوات الأخيرة.  

ويستحضر الإعلام السعودي الرسمي عمران خان على أنه المناهض للسياسات السعودية و”خصم لها”، وقد بدأ حملته الدعائية ضد خان باكرًا، ففي يناير/كانون الثاني من عام 2016 وصفته صحيفة “عكاظ” السعودية المقربة من دوائر الحكم، بأنه “مندوب قم في إسلام آباد”، وأنه لعب دورًا كبيرًا في تأليب الرأي العام ضد المملكة في أروقة البرلمان الباكستاني، وذلك بعد معارضته لأي مشاركة باكستانية في التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن.

عارض خان إرسال قوات باكستانية إلى السعودية تحت ذريعة تدريب جيش الأخيرة

فمع بدء العدوان السعودي على اليمن، وفيما كانت الرياض تحشد “إسلاميًا” لتشريع عدوانها، كان خان يدعو إلى أن تلعب باكستان دورًا قياديًا في المفاوضات والمساعدة في محادثات السلام، بدلاً من أن تصبح أحد المشاركين في الحرب، في رد على تصريحات رئيس الوزراء حينها نواز شريف الذي تعهد بالدفاع عن السعودية، معتبرًا أن الدفاع عن سيادتها الإقليمية هو جزء أساسي من سياسة باكستان الخارجية، حسب تعبيره.

خان، وعلى إثر سعي شريف إلى مشاركة السعودية في عدوانها، عمد في أبريل/نيسان عام 2015 إلى إنهاء مقاطعته للبرلمان التي استمرت سبعة أشهر، وطالب مع أحزاب معارِضة في باكستان بعقد مؤتمر يجمع جميع الأحزاب لمناقشة التطورات في اليمن، كي لا يتفرّد الحزب الذي يتزعمه شريف بالقرار.

وتحت الضغوط الداخلية التي قادها خان، رفض البرلمان الباكستاني المشاركة في “عاصفة الحزم” التي تقودها الرياض ضد الحوثيين في اليمن، وأصدر البرلمان قرارًا يدعم فيه الجهود الرامية إلى إنهاء الأزمة اليمنية بالطرق السلمية فقط، مانعًا الحكومة من نشر وحدات عسكرية في الحرب اليمنية.

لم يكتفِ خان بمعارضة أي مشاركة باكستانية في العدوان السعودي على اليمن، بل إنه عارض أيضًا، في فبراير/شباط الماضي، إرسال قوات باكستانية إلى السعودية تحت ذريعة تدريب جيش الأخيرة، كما صرحت وزارة الدفاع الباكستانية سابقًا، على اعتبار أن تلك الخطوة قد تكون التفافًا على قرار البرلمان الباكستاني.

ودعا خان إلى عدم السكوت عن إرسال الجنود إلى السعودية، لحماية أفراد العائلة المالكة وليس لمهام تدريبية أو عسكرية، كما كشف موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، وهو ما نتج عنه قيام رئيس مجلس الشيوخ الباكستاني السيناتور رضا رباني، باستدعاء وزير الدفاع خرم دستغير، لتقديم إيضاحات بشأن خلفية القرار.

يهدد فوز خان استمرار بقاء باكستان في التحالف العسكري الإسلامي الذي شكله ولي العهد السعودي محمد بن سلمان

كما قاد خان محاولات التحرر من فكرة كون بلاده دمية بيد السعودية طوال السنوات الماضية، فبحسب الموقع البريطاني، فإن هذه السابقة ليست الأولى، ففي أوائل السبعينيات وُجدت قوات باكستانية في المملكة، بحكم العلاقة القوية التي جمعت الملك فيصل برئيس الوزراء الباكستاني آنذاك ذو الفقار علي بوتو، وجاءت قوات باكستانية إلى المملكة في الثمانينيات وتحديدًا في العام 1982 بناء على طلب من الملك فهد، عندما أرسلت فرقة مدرعة.

علاوة على ذلك، يهدد فوز خان استمرار بقاء باكستان في التحالف العسكري الإسلامي الذي شكله ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وضم 41 دولة في العام 2015، وسيكون أبرز المؤشرات عن تراجع أو استقرار العلاقة مع السعودية في الفترة القادمة من حكم خان.

كما تخشى المملكة أن تؤدي سياسات رئيس الوزراء المنتظر “غير المنضبطة” إلى إبعاد باكستان أكثر عن دائرة التأثير السعودي المباشر عبر تنويع الشراكات والعلاقات، ورفض الإملاءات السياسية المبنية على العلاقات التاريخية التي تروج لها الرياض.

ورغم أولوية الملف الاقتصادي يرى عمران خان أن إسلام آباد ستكون أكثر راحة بإقامة علاقات مع كل من السعودية وإيران، وهو الموقف الذي عبر عنه أيضًا الجيش الباكستاني، لكن الرياض تعتقد أن هذا الموقف يضع باكستان في دائرة “خسائرها”.  

رسائل باكستانية.. من الرياض إلى واشنطن 

لعل أكثر ما يقلق السعودية من خان العلاقة المتينة التي تربطه بإيران

يحمل نجاح حزب “حركة الإنصاف” الباكستاني وزعيمه خان رسائل إلى الداخل والخارج، ويتردد صدى هذا النجاح خبرًا سيئًا على أسماع المملكة العربية السعودية التي يقبع نواز شريف حليفها في إسلام آباد بالسجن بتهم فساد أفقدتها أيضًا حليفها نجيب عبد الرزاق في ماليزيا قبل أسابيع عبر صناديق الاقتراع.    

ولعل أكثر ما يقلق السعودية من خان العلاقة المتينة التي تربطه بإيران، إذ أكد في أول خطاب له عقب فرز النتائج أن الحكومة المستقبلية لحزبه ترغب في تعزيز وتطوير العلاقات مع الدول المجاورة، بما في ذلك الجمهورية الإيرانية، مشددًا على أهمية علاقات باكستان مع إيران.  

لذلك فإن تغيير وجه الحكم في ثاني أكبر الدول الإسلامية، لا يمكن تجاهله من السعودية والولايات المتحدة، ومن المتوقع أن تجد السعودية نفسها أمام خطاب سياسي جديد في البلد النووي الذي حاولت جاهدة استمالته إلى جانبها بوجه إيران، في الآونة الأخيرة، من دون أن تحقق نتائج ملموسة على هذا الصعيد، لا سيما بعد ما تردّد عن رفض الحكومة الانتقالية الباكستانية أخيرًا طلبًا تقدمت به ​الولايات المتحدة​ و​السعودية​ لإنشاء غرفة عمليات في ​بلوشستان​ الباكستانية، لزعزعة النظام في إيران.

كما أن وصول عمران خان المدعوم من قادة الجيش إلى الحكم، واستنادًا إلى مواقفه السابقة، التي وصف فيها حكام العالم الإسلامي بـ”الدمى التي تديرها واشنطن”، سيكون له تأثير مباشر على سياسات باكستان الخارجية بشكلٍ عام، وعلى علاقة إسلام آباد مع الرياض بشكلٍ خاص، فالسعودية التي سعت إلى محاصرة إيران “إسلاميًا وجغرافيًا”، تبدو محاصرَة الآن، بعد تفرّق معظم حلفائها عنها، أو سقوطهم بقرار شعبي داخلي، الواحد تلو الآخر.

تنظر المملكة إلى تصريحات عمران خان المتشددة تجاه واشنطن بكونها مؤشرات على إمكانية وضع الرياض في سلة واحدة مع الولايات المتحدة

ويرى الرجل أن مشكلة الغرب هي في النظر إلى باكستان على أنها قضية ليبرالية وأصولية، مسخّفًا تلك الرؤى، مقارنةً بما تعانيه بلاده، التي يوجد فيها 25 مليون طفل خارج المدرسة، ومعدلات وفيات أطفال هي الأعلى في العالم، كما ينظر إليها من زاوية المآسي التي خلفتها بعد اجتياحها لأفغانستان، وينفي مزاعمها عن أن بلاده توفر “ملاذات آمنة” لحركة طالبان الأفغانية وحلفائها.

وتنظر المملكة إلى تصريحات عمران خان المتشددة تجاه واشنطن “التي تعتقد أنها تمنح باكستان من أجل القتال لمصلحتها” – كما يقول – بكونها مؤشرات على إمكانية وضع الرياض في سلة واحدة مع الولايات المتحدة، وعدم ممانعته التقرب من إيران التي تسعى الرياض وواشنطن لحصارها.

يُضاف إلى ذلك، أن باكستان لا ترى في السعودية أو أمريكا حلفاءً دائمين، فقد ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، منذ أشهر، أن الولايات المتحدة نجحت بإدراج باكستان بقائمة الدول التي لا تبذل ما يكفي من جهد لمحاربة تمويل الإرهاب وتبييض الأموال، وذلك بعد تخلي السعودية عن دعمها لإسلام آباد عقب ضغوط من واشنطن، تخلت على إثرها الرياض مباشرة عن دعم باكستان بعد أن كانت تقف ضد قرار إدراج إسلام آباد في قائمة تمويل الإرهاب.

ومنذ ستينيات القرن الماضي تحتفظ الرياض وإسلام آباد بعلاقات سياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية وطيدة عندما وقعتا اتفاقية عسكرية أرسلت باكستان بموجبها جنودًا لحماية المملكة عام 1969، كما دعمت السعودية باكستان في نزاع كشمير، وهي أحد أهم داعميها الاقتصاديين، لكن هذه العلاقات بدأت تعتريها شكوك داخلية في البلدين وأخرى خارجية.

وفي كل الأحوال، كرست نتائج الانتخابات التشريعية في باكستان مشهدًا سياسيًا جديدًا أزاح من المقدمة مبدئيًا الأحزاب القديمة، وأقام توازنات مختلفة داخليًا رغم وجود احتجاجات ورفض للنتائج، ستنعكس بلا شك على العلاقات الخارجية، إذ ستجد السعودية التي احتفظت دائمًا بعلاقات “تاريخية” مع باكستان من بوابة الجيش والأحزاب التقليدية (حزب الرابطة الإسلامية وحزب الشعب الباكستاني) نفسها مع شريك جديد في باكستان أقرب إلى الاختلاف معها.