سلاح المقاومة تحت الحصار: احتلال يخطط ووسط عربي ينفذ

منذ انتهاء الحرب الأخيرة بين “حزب الله” والاحتلال الإسرائيلي، دخل لبنان مرحلة إعادة تموضع أمني وعسكري داخلي، أبرز ملامحها السعي إلى إعادة ضبط المعادلات المرتبطة بالسلاح الفلسطيني، سواء داخل المخيمات أو خارجها.

في هذا السياق، تصاعد التركيز على تفكيك مواقع الفصائل الفلسطينية المسلحة المنتشرة خارج الإطار التقليدي للمخيمات، وملاحقة المجموعات المرتبطة بالمقاومة الفلسطينية، خصوصًا بعد الإعلان عن توقيف خلايا متهمة بتنفيذ عمليات إطلاق صواريخ باتجاه مستوطنات شمالي فلسطين المحتلة.

تأتي هذه التحركات ضمن موجة ضغوط إقليمية ودولية متزايدة، تهدف إلى تقويض قدرات المقاومة الفلسطينية، ومحاصرة مساحات حركتها، ضمن ترتيبات أمنية تُهندس وفق المصالح الإسرائيلية، وتُفرض بضغوط أمريكية مباشرة.

في المقابل، تواجه السلطة الفلسطينية تحديًا متصاعدًا بفعل فقدانها السيطرة على المخيمات الفلسطينية، التي باتت تدريجيًا تتحول إلى فضاءات نفوذ لفصائل المقاومة، والتي لم تعد تقتصر على التموضع الدفاعي، بل أصبحت لاعبًا فاعلًا في معادلات الاشتباك انطلاقًا من الساحة اللبنانية، وكذلك في ديناميات تسليح الضفة الغربية.

وفي الوقت الذي تعزز فيه فصائل المقاومة حضورها، تسعى السلطة الفلسطينية إلى استثمار اللحظة الراهنة لإعادة ترتيب هيمنتها، ليس فقط داخل الضفة وغزة، بل على امتداد ساحات التواجد الفلسطيني، في الداخل والخارج، سعيًا لاستعادة موقعها المتآكل في المعادلة الوطنية.

بات هذا المشهد، في مجمله، يُشكّل معادلةً معقّدة تتقاطع فيها مصالح أطراف متعددة، في مواجهة المساعي الجادّة لقوى المقاومة الفلسطينية الرامية إلى توسيع رقعة الاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي، وبفعل هذا التداخل، أصبحت المقاومة وسلاحها في صلب دائرة الاستهداف، ليس فقط من قبل الاحتلال، بل أيضًا من قوى إقليمية ومحلية، تسعى إلى كبح هذا المسار، سواء عبر أدوات الضغط السياسي، أو من خلال إجراءات أمنية وعسكرية تتّسم بتصعيد تدريجي وممنهج.

تحذيرات إسرائيلية مبكرة

قبل سنوات من اندلاع “طوفان الأقصى”، كانت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ومراكز أبحاثها قد بدأت التعبير عن قلق متزايد من مسار تصاعدي خطير – في تقديرها – يتمثّل في تحوّل البنية العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية في لبنان، من مجرد وجود تقليدي داخل المخيمات، إلى مسار بناء قوة نوعية هجومية تتكامل مع مفهوم ترابط الساحات، وتشكل رافدًا فاعلًا في معادلة الاشتباك الشامل.

لم يكن هذا القلق نظريًّا، بل استند إلى معطيات ميدانية، أبرزها الانفجار الذي وقع في ديسمبر/كانون الأول 2021 داخل ما عُدَّ مستودع أسلحة تابع لـ”حماس” في مخيم برج الشمالي جنوبي لبنان، والذي كشف – وفق الإعلام العبري – عن وجود مخازن ومنشآت تسليحية تتجاوز المعروف، وتُدار بسرية عالية في محيط المخيمات الفلسطينية.

أعضاء من “حزب الله” يستعرضون خلال مسيرة لإحياء يوم القدس (يوم القدس العالمي) في الضاحية الجنوبية لبيروت، لبنان، 5 أبريل/نيسان 2024.

وقد ربطت مراكز بحثية إسرائيلية هذا الحادث بجولات سابقة من القتال، مثل مواجهة “سيف القدس” في مايو/أيار 2021، حين أطلقت “حماس” صواريخ من لبنان نحو مستوطنات شمالي فلسطين المحتلة كرسالة متعددة الأهداف، عسكرية وسياسية وإعلامية.

حسب تقديرات مركز “القدس للشؤون العامة” الصهيوني، فإن البنية التحتية العسكرية لـ”حماس” في لبنان تطورت في خلال العقد الأخير، وبدأت تتجاوز مجرد التخزين والتواجد الدفاعي نحو وحدات متخصصة تتضمن تصنيعًا محليًّا للصواريخ والطائرات المسيَّرة، وورش تدريب للنشطاء، وفرق تجنيد، وغرف عمليات تنسِّق مع الضاحية الجنوبية وقطاع غزة. ويُرجَّح أن هذه القدرات شكَّلت جزءًا من تصوُّر الحركة للمواجهة متعددة الجبهات.

هذا ما أكَّده لاحقًا تناغم عمليات الإطلاق المتفرقة من لبنان قبل “طوفان الأقصى” مع وتيرة التصعيد داخل الضفة وغزة، في محاولة لإرباك الجبهة الداخلية الإسرائيلية وتحقيق توازن ناري – حتى لو جزئي – من الشمال.

ووفق ما نقله المركز العبري، فقد قاد الشهيد صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” هذا المشروع العسكري، ما أدى إلى تصاعد الدعوات من قيادات أمنية إسرائيلية إلى استهداف العاروري بصفته “العقل المدبِّر للجبهة الشمالية لحماس”، والمسؤول عن الربط بين الضفة ولبنان، ولأنه يُجسِّد – في نظرهم – نموذج المقاومة العابر للجبهات والمؤسسات.

من معادلات البقاء إلى وحدة الساحات

شهدت مرحلة “طوفان الأقصى” تحوُّلًا نوعيًّا في تموضع فصائل المقاومة الفلسطينية العاملة من الأراضي اللبنانية، تجسَّد في قدرتها على تنفيذ عمليات هجومية مباشرة ضد الاحتلال الإسرائيلي، سواءٌ عبر إطلاق رشقات صاروخية كثيفة أو تنفيذ عمليات تسلل فدائية محدودة. 

كانت “كتائب القسام” و”سرايا القدس” في طليعة الفصائل التي بادرت إلى تفعيل جبهة الجنوب اللبناني، حيث أعلنت “القسام” تنفيذ عدة عمليات قصف صاروخي باتجاه مستوطنات شمالي فلسطين المحتلة.

سبقها إعلان “السرايا” نجاح مقاوميها في تنفيذ عملية تسلل من الحدود اللبنانية جنوبًا، وتنفيذ اشتباك مع جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، في إشارة إلى انخراط فعلي في عمليات تسلل أو اشتباك مباشر عبر الحدود.

تصاعد الدخان فوق قرية بنت جبيل اللبنانية نتيجة غارات جوية إسرائيلية في 28 فبراير/شباط 2024.

توالت العمليات لاحقًا، لتنفَّذ مجموعة من الأنشطة الهجومية التي استهدفت مستوطنات شمالي فلسطين المحتلة، قُدِّمت من خلالها مجموعة كبيرة من الشهداء، إذ نعى كل من “كتائب القسام” و”سرايا القدس” و”كتائب الشهيد أبو علي مصطفى” مقاتلين استشهدوا في أثناء أداء مهمات قتالية جنوبي لبنان. 

بهذا، أثبتت هذه الفصائل قدرتها، لا على إطلاق الصواريخ فحسب، بل على الانخراط الميداني النوعي، ما أرسى قواعد اشتباك جديدة لم تعرفها الساحة اللبنانية منذ عقود، منذ زمن الكفاح المسلح في منظمة التحرير ووجود قوات الفصائل الفلسطينية في الجنوب.

أعادت هذه التطورات إلى الواجهة مخاوف لبنانية قديمة متجددة، تتمثل بِعَدِّ بعض القوى السياسية أنَّ الوجود الفلسطيني المسلَّح قد يشكِّل تهديدًا محتملًا للسيادة اللبنانية، وفق منظور بعض القوى اللبنانية التي تتخذ موقفًا تاريخيًّا معاديًا لهذا الوجود. 

ما زاد من منسوب القلق لدى أطراف لبنانية وإسرائيلية وأخرى داخل السلطة الفلسطينية ظهورُ شبكة ارتباط ميدانية وتنظيمية بين “كتائب القسام”، و”قوات الفجر” التابعة للجماعة الإسلامية في لبنان، والتي تنشط خارج حدود المخيمات وتملك حرية تحرك أوسع ضمن الفضاء السياسي والتنظيمي الإسلامي في الجنوب اللبناني.

خلق هذا التداخل مساحةً عملياتيةً جديدة لـ”حماس” تتجاوز الجغرافيا المحصورة للمخيمات، وتُتيح لها هامش مناورة عسكري ولوجستي أكثر أمانًا ومرونة. وقد رُصدت في خلال الأسابيع الأولى من الحرب تحركات مشتركة وتنسيق ميداني واضح بين “قوات الفجر” و”القسام”، ما عُدَّ مؤشرًا على تطور العلاقة بين الطرفين، ليس على مستوى الخطاب فحسب، بل على مستوى الفعل والتنفيذ والتكامل في خطوط الاشتباك.

وحسب تقارير أمنية إسرائيلية، يتجاوز النشاط المقاوم للفصائل الفلسطينية في لبنان الحدودَ التقليديةَ، ليس في الاشتباك الميداني فقط، بل باتت تشكِّل نقطة وصل نشطة في عمليات التجنيد والتسليح المرتبطة بساحات الضفة الغربية، بما يهدِّد بشكل مباشر المشروع الأمني والسياسي الذي تسعى السلطة لترسيخه هناك، ويشكِّل في الوقت نفسه تحديًا للمنظومة الأمنية الإسرائيلية التي باتت ترى في هذا الوجود المقاوم في لبنان مخزونًا بشريًّا وعسكريًّا متجددًا للمقاومة.

في المقابل، لم تكن بيروت، ولا المخيمات الفلسطينية في لبنان، بمنأى عن الاستهداف الإسرائيلي، فقد جاء اغتيال العاروري رفقة قياديين من “كتائب القسام” في أول أيام العام 2024، بمثابة تنفيذ مباشر للتهديدات السابقة التي طالما ربطت بين وجوده في بيروت وبين اتساع نطاق “الجبهة الفلسطينية” إلى ما وراء غزة والضفة.

هذا الاغتيال مثّل بداية موجة جديدة من التصعيد، استُهدِف فيها عدد من كوادر الفصائل الفلسطينية، شملت قياديين في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، من بينهم عضو مكتبها السياسي محمد عبد العال، إلى جانب عناصر من جناحها العسكري، في قصف استهدف شقة سكنية في قلب العاصمة اللبنانية. وكانت “إسرائيل” قد اتهمت عبد العال بالمسؤولية عن عمليات فدائية نُفذت في الضفة الغربية.

تنسيق أمني يخدم أجندة الاحتلال

منذ سنوات، تنخرط السلطة الفلسطينية عبر أجهزتها الأمنية، وعلى رأسها جهاز المخابرات العامة بقيادة اللواء ماجد فرج، في جهود متواصلة لتجريد المخيمات الفلسطينية في لبنان من سلاحها، لكن ما بدا في بداياته بوصفه تنسيقًا أمنيًّا تقليديًّا، أخذ بعدًا استراتيجيًّا جديدًا بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ تحوَّلت العملية إلى مسار متسارع ومتعدد الأبعاد يسعى إلى نزع آخر أشكال القوة الرمزية والتنظيمية للمخيمات الفلسطينية في المنفى.

ومنذ العام 2011، كانت تحرّكات اللواء فرج باتجاه لبنان تتخذ طابعًا أمنيًّا منظمًا، هدفها إدماج القوى المسلحة التابعة لحركة “فتح” في تشكيل أمني موحَّد تحت مظلة “الأمن الوطني الفلسطيني” بالشراكة مع الدولة اللبنانية. هذه الخطة تضمَّنت أيضًا تجميع السلاح الفلسطيني داخل المخيمات وتسليمه للدولة اللبنانية، تحت ذريعة “ضبط الأمن ومنع الانفلات”.

الرئيس اللبناني جوزيف عون والرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال لقائهما على هامش القمة العربية الطارئة في القاهرة، مصر، 4 مارس/آذار.

غير أن السياقات الإقليمية اللاحقة، خاصةً اندلاع الثورة السورية، والحرب على مخيم اليرموك، وزيادة نشاط الفصائل المقاومة، مثل “حماس” والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية في الضفة الغربية، دفعت السلطة إلى تعميق انخراطها في هذا المشروع، مدفوعة بضغط إسرائيلي-أميركي واضح.

في زيارته الأخيرة لبيروت قبل اندلاع “طوفان الأقصى”، حمَل فرج رسائل سياسية وأمنية صريحة تطالب بتجريد المخيمات من السلاح، ومنع انتقال أي خبرات أو تسليح إلى الضفة الغربية، التي شهدت تصاعدًا نوعيًّا في العمل المقاوم.

تكشف هذه التحركات عن دور جديد آخذ في التشكل للسلطة الفلسطينية، يتجاوز الوظيفة السياسية أو الأمنية التقليدية، ليقترب من أداء أشبه بذراع مكمّلة لمحاولات الاحتلال ضبط الحراك الفلسطيني، ليس فقط في الضفة الغربية، بل تمدّد ليطال الفلسطينيين في الشتات أيضًا، في مسعى لاحتواء أي بيئة حاضنة للمقاومة، أو خطوط دعم لوجستي محتملة خارج الأراضي المحتلة.

وعلى الرغم من حرص السلطة على تغليف خطتها بوعود تحسين الواقع المعيشي والتنظيمي للمخيمات، تشير الوقائع على الأرض – من الاغتيالات حتى اندلاع اشتباكات عين الحلوة – إلى أن هذا المسار الأمني لم يحقِّق استقرارًا، بل ساهم في تأزيم الوضع وفتح الباب لتدخلات خارجية، في ظل بيئة محلية هشَّة ومعقدة.

اللافت في المشروع أنه لا يقتصر على لبنان، بل يأتي ضمن شبكة تحرُّكات أوسع للسلطة تستهدف الحد من أي تموضع مقاوم خارج سيطرتها، سواءٌ في الضفة الغربية أو في سوريا ولبنان. 

وقد بدا ذلك واضحًا بعد استهداف قيادات من “حماس” والجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي في بيروت ودمشق، ومحاولة تحميل هذه الفصائل مسؤولية “جر المنطقة إلى دمار شبيه بغزة”، وهي رواية روَّجتها السلطة عقب المجازر في القطاع، في سعي واضح إلى تجريم المقاومة أمام الرأي العام الفلسطيني والعربي.

الخطير في المشهد أن خطة نزع سلاح المخيمات قد تكون مدخلًا لإعادة تعريف المخيمات نفسها، ككيانات ينبغي دمجها في محيطها الجغرافي والاجتماعي، بما يعني عمليًّا إنهاء وضعها الخاص، تمهيدًا لتذويب حق العودة، ما يطرح أسئلة جوهرية حول الغاية الحقيقية من المشروع، ومدى ارتباطه بالرؤية الأميركية-الإسرائيلية لتصفية “القضية الفلسطينية”.

تشديد لبناني على المقاومة الفلسطينية

في أعقاب وقف إطلاق النار بين “حزب الله” والاحتلال الإسرائيلي، ومع تصاعد الضغوط الأميركية والإسرائيلية على الدولة اللبنانية لإعادة ضبط الوضع الأمني في الجنوب، دخل لبنان مع “العهد الجديد” في مرحلة جديدة تشمل تصفية الوجود الفلسطيني المسلح خارج المخيمات، وملاحقة البنية النشطة للمقاومة الفلسطينية في غير أماكنها “المعروفة”.

بدأت قيادة الجيش اللبناني تنفيذ سلسلة من الإجراءات شملت تفكيك مواقع عسكرية تاريخية تابعة لفصائل فلسطينية، أبرزها “الجبهة الشعبية – القيادة العامة” و”فتح الانتفاضة”.

سُلِّمَت ثلاثة مواقع عسكرية للجيش في مناطق البقاع الغربي والبقاع الأوسط وراشيا، مع مصادرة كميات من الذخائر والعتاد، في خطوة وُصفت بأنها تضع نهايةً فعليةً للوجود الرمزي القديم لهذه الفصائل التي تراجعت قوتها منذ سقوط النظام السوري في سوريا.

امرأة تحمل لافتة خلال احتجاج للتعبير عن التضامن مع الفلسطينيين في غزة، في مدينة صيدا، لبنان، بتاريخ 7 أبريل/نيسان 2025. (عزيز طاهر / رويترز)

في هذا الإطار، أُعلِن إغلاق مركز “نفق الناعمة” الشهير جنوب بيروت، ما عُدَّ دلالة على حسم ملف أمني قديم كان يحظى بحماية سياسية وأمنية إقليمية، لكنه بات الآن خارج المعادلة بفعل تحولات الجغرافيا والدعم الخارجي.

لكن ما يتجاوز الرمزيات هو التوسع النوعي في ملاحقة المجموعات المرتبطة بالمقاومة الفلسطينية النشطة حاليًّا، والتي تجاوزت في وجودها الفصائل التقليدية القديمة، إذ أعلن الجيش اللبناني في الأسابيع الأخيرة اعتقال خلايا وصفت بأنها مسؤولة عن عمليات إطلاق صواريخ بعد إعلان التهدئة مع الاحتلال، مؤكدًا أن هذه الخلايا تضم عناصر لبنانيين وفلسطينيين، مع إشارات إلى كونها مرتبطة مباشرة بحركة “حماس”.

ويشير هذا الإعلان إلى تحوُّل نوعي في تعامل الدولة اللبنانية مع المقاومة الفلسطينية، إذ تُعامل بعض الخلايا الفلسطينية النشطة بوصفها تهديدًا أمنيًّا يتطلب المتابعة والضبط، لا مجرد احتواء سياسي أو أمني داخل المخيمات. 

وهذا يعني أن مساحة تحرُّك الفصائل الفلسطينية – خصوصًا “حماس” و”الجهاد الإسلامي” – لم تعُد موضعَ تساهل، بل باتت تحت مجهر أمني وسياسي داخلي معزَّز بغطاء إقليمي ضاغط.

يرتبط هذا التحول بإعادة إحياء القرار 1559 والقرار 1701، واللذَين يدعوان إلى تفكيك “الميليشيات المسلحة ونزع السلاح غير الشرعي في لبنان”، وخاصةً في الجنوب، كما يرتبط بالتغيرات في المشهد الإقليمي الذي كان يُشكِّل ظهيرًا داعمًا لفصائل المقاومة الفلسطينية، ما جعلها مكشوفة أمنيًّا.

لكن الجديد في الأمر هو تشميل هذا المسار ملاحقة كوادر الفصائل الفلسطينية التي تنشط خارج المخيمات، وفي بعض الحالات، من مناطق خاضعة لنفوذ الجماعة الإسلامية في لبنان – التي يتعرض كوادرها إلى عمليات استهداف إسرائيلي متواصلة – أو في نطاقات مشتركة مع “حزب الله”. وبالتالي، فإن التركيز لم يَعُد على المواقع العسكرية والوجود العلني التقليدي فحسب، بل بات يشمل أذرعًا فاعلةً لفصائل وقوى مقاومة تمثِّل تهديدًا جديًّا لـ”إسرائيل”.

في هذا السياق، يتضح أن ما بدأ كجزء من ترتيبات “ما بعد الحرب” بين لبنان و”إسرائيل”، يتّجه نحو مشروع أوسع لإعادة رسم خرائط النفوذ الأمني داخل الأراضي اللبنانية، ومع انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتكليف حكومة جديدة، تبدو الفرصة سانحة لترسيخ هذا المسار، من خلال ضبط أي سلاح فلسطيني لا يندرج ضمن المنظومة السياسية أو الأمنية الرسمية، في محاولة لإنهاء أي وجود مستقل للفصائل الفلسطينية خارج الأطر المعترف بها لبنانيًا وإقليميًا.

وليس من المبالغة القول إن ما يُسوَّق تحت عنوان “فرض سيادة الدولة” يندرج عمليًّا ضمن مسعى أوسع لضرب قدرة فصائل المقاومة الفلسطينية على التحرك خارج نطاق المخيمات، ومصادرة أي بنية ميدانية قد تُربك معادلات الردع الهشة التي تسعى “إسرائيل” وحلفاؤها إلى ترميمها. وفي الوقت نفسه، تتولى السلطة الفلسطينية استكمال المهمة من داخل المخيمات، تحت عناوين “تنظيم السلاح الفلسطيني”، في تقاطع واضح مع هذا المسار.