“خطة غزة الصغيرة”: الاحتلال يوسّع الحرب ويُبقي على هامش ضيق للتفاوض

صادق المجلس الوزاري المُصغّر في حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بالإجماع على توسيع العدوان على قطاع غزة. ووفقًا لمصادر عبرية، فقد شملت الموافقة مجموعة من الخطط العملياتية التي اقترحتها هيئة الأركان في جيش الاحتلال، وتضمّنت سيناريوهات هجومية متعددة.

سبق اجتماع “الكابينت” سلسلة تفاعلات بين رئيس وزراء الاحتلال والقادة العسكريين والأمنيين، هدفت إلى بلورة صيغ توافقية لعرضها خلال الاجتماع، تفاديًا لانفجاره في ظل التباينات المتجددة بين المستويين السياسي والعسكري، خصوصًا حول أولويات الحرب والتكتيكات المُتّبعة في قطاع غزة.

وتأتي هذه القرارات التصعيدية في وقت تتجه فيه الأنظار إلى الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، على أمل أن تُحدث انفراجة أو تُفضي إلى ضغط أمريكي مضاعف يُمهّد للوصول إلى صفقة تهدئة. 

إلا أن هذه التقديرات تبيّن أنها كانت في غير محلها، إذ يبدو أن الضغط الميداني الإسرائيلي يحظى فعليًا بضوء أخضر أمريكي، ما يعكس تحوّلًا في المشهد نحو التصعيد بدلًا من الانفراج.

تصدّع الأولويات: خلافات داخلية تشوش قرارات الحرب

كشفت النقاشات الداخلية بين المستويين السياسي والعسكري في كيان الاحتلال عن تباينات حادة أدت إلى أكثر من مرة إلى تأجيل اتخاذ القرار بشأن توسيع العمليات العسكرية في قطاع غزة، وسط تقييم متواصل لفرص نجاح الضغط العسكري الذي طبع المرحلة الحالية من العدوان.

ونقلت مصادر سياسية في تل أبيب أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عقد سلسلة مشاورات مقلصة مع كل من وزير الحرب يسرائيل كاتس، ورئيس الأركان إيال زامير، ورئيس الموساد ديفيد بارنياع، ورئيس الشاباك رونين بار، إلى جانب مسؤولين أمنيين آخرين، في محاولة لصياغة موقف موحد قبل اجتماع موسّع للكابينت، خاصة في ظل تعثر المفاوضات.

وبحسب التقارير العبرية، وضع جيش الاحتلال خططًا لتوسيع السيطرة الميدانية، تشمل الاستيلاء على مزيد من الأراضي في شمال وجنوب القطاع، وتوسيع ما يُعرف بالحزام الأمني على طول الحدود. كما استؤنفت سياسة الاغتيالات بحق قيادات “حماس”، في إطار سعي المؤسسة العسكرية إلى تعزيز الضغط الميداني لدفع نحو صفقة تبادل.

إلا أن هذا التوجه واجه غضبًا متزايدًا من عائلات الأسرى الإسرائيليين، الذين يواصلون تنظيم مظاهرات يومية ضد الحكومة، مطالبين بوقف الحرب وإنجاز الصفقة. ورغم تصاعد هذه الضغوط، واصل التيار اليميني داخل الحكومة، بقيادة نتنياهو وسموتريتش، الدفع باتجاه تجاهل المفاوضات والتركيز على الحسم العسكري، في وقت صرّح فيه أوفير كاتس، رئيس كتل الائتلاف، بوضوح: “نحن لا نتأثر بالمظاهرات”.

في هذا السياق، وصف المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هرئيل علاقة الوزراء برئيس الأركان الجديد بأنها أشبه بـ”حب من النظرة الأولى”، بعد سنوات من التوتر مع سلفه هرتسي هليفي. وأوضح أن زامير، بخطابه الهجومي، قدّم نفسه كالقائد الذي يمكنه “هزيمة حماس”، وأرسل لواء “غولاني” إلى الجنوب، وعيّن الضابط الميداني ينيف عاشور قائدًا للجبهة الجنوبية.

لكن “شهر العسل” هذا لم يدم طويلًا، فقد بدأ زامير بالتعبير عن مخاوفه من جدوى العملية البرية الموسّعة، محذرًا من تحديين رئيسيين: أولهما، النقص الكبير في الموارد البشرية نتيجة الإنهاك المتراكم على قوات الاحتياط، ما يتطلب – بحسب قوله – تفعيلًا “مسؤولًا ومهنيًا” لقوات الاحتياط، بالإضافة إلى دعم سياسي وتشريعات صارمة ضد التهرب من الخدمة العسكرية.

أما التخوف الثاني، فيتعلق بسلامة الأسرى الإسرائيليين في غزة، إذ يرى زامير أن تنفيذ عملية عسكرية واسعة سيعرّض حياتهم لخطر جدي، ما يعيد الجدل إلى مسألة ترتيب أولويات الحرب.

“خطة غزة الصغيرة” وتشمل إجلاء السكان الفلسطينيين من شمال ووسط القطاع، في محاكاة لما جرى خلال اقتحام مدينة رفح

وقد انفجرت هذه المعضلة مجددًا بعد تصريحات لنتنياهو خلال “مسابقة التوراة الدولية”، قال فيها: “لدينا العديد من الأهداف. أعدنا 147 مستوطنًا أحياء، ولا يزال هناك نحو 24 أسيرًا على قيد الحياة، لكن الهدف الأسمى هو الانتصار على أعدائنا”. وهو تصريح اعتبرته عائلات الأسرى تهميشًا لقضيتهم، وردّت بالقول: “إعادة الأسرى ليست أقل أهمية، بل هي الهدف الأسمى الذي يجب أن يوجّه عمل الحكومة”.

في المقابل، حاول نتنياهو لاحقًا احتواء الغضب، فأصدر بيانًا مصوّرًا قبيل اجتماع الكابينت، أكد فيه أن قضية الأسرى تظل محورًا أساسيًا في خطط الحكومة، مؤكدًا أن “الضغط العسكري” هو الأداة لتحقيق هذا الهدف.

على صعيد متصل، تستمر قضية توزيع المساعدات في غزة بإثارة الانقسام داخل الحكومة. إذ يرفض رئيس الأركان بشدة تولي الجيش هذه المهمة، وهو ما أثار غضب وزير المالية وزعيم الصهيونية الدينية، بتسلئيل سموتريتش، الذي هدّد بإقصاء زامير كما حدث مع سلفه، إن لم يلتزم بتوجيهات الحكومة.

“خطة غزة الصغيرة”.. خيارات الاحتلال الميدانية

بعد جولات من النقاش والشد والجذب، صادق المجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينت) بالإجماع على توسيع نطاق العدوان على قطاع غزة، وفق ما نقلته صحيفة “معاريف”. القرار جاء بعد إعلان الجيش الإسرائيلي، السبت الماضي، عن استدعاء عشرات الآلاف من جنود الاحتياط، في خطوة تشير إلى التحول نحو مرحلة أكثر كثافة من القتال، بموافقة مباشرة من المستوى السياسي.

الخطة التي عرضها رئيس الأركان إيال زامير خلال جلسة الكابينت تضمنت الدفع بألوية قتالية إضافية إلى داخل غزة، حيث يُشارك حاليًا لواءا “غولاني” و”جفعاتي”، إلى جانب اللواءين المدرعين 188 و401، كما تعمل للمرة الأولى جميع كتائب الهندسة القتالية النظامية بالتوازي في الميدان، في إشارة واضحة إلى تصعيد نوعي في حجم وتوزيع القوات.

واستمر الاجتماع الأمني سبع ساعات، غاب عنها رئيس جهاز الشاباك، وحل نائبه محله، وجرى خلاله إقرار الخطة العملياتية رغم التحذيرات الواضحة التي وجهها زامير بشأن تأثير التصعيد على حياة الأسرى.

ومع انتهاء الاجتماع، جرى إعطاء الضوء الأخضر لتكثيف القتال وتوسيع نطاق تعبئة الاحتياط، حيث أُبلغ العديد من قادة الاحتياط بالاستعداد لتعبئة مفاجئة، ستوزَّع بين مهام هجومية مباشرة في قلب القطاع، ومهام دعم تحلّ محل الألوية النظامية المُرسلة إلى جبهات الاقتحام.

وبحسب “قناة كان 11″، تتضمن خطة زامير ما بات يُعرف بـ”خطة غزة الصغيرة“، وتشمل إجلاء السكان الفلسطينيين من شمال ووسط القطاع، في محاكاة لما جرى خلال اقتحام مدينة رفح. كما تنص الخطة على السيطرة على مناطق داخل القطاع، وتمشيطها بشكل منهجي، والبقاء فيها لفترات طويلة، ما يُمثّل تحوّلًا من نمط “اضرب واهرب” إلى نمط الاحتلال الثابت.

وتسعى الخطة كذلك إلى إقامة مناطق “إنسانية” جنوب القطاع، على غرار المساحة التي جرى إنشاؤها بين محور موراج ومحور فيلادلفيا، لتوزيع المساعدات الغذائية للسكان عبر شركات خاصة أو منظمات دولية، بما يمنع حركة “حماس” من الاستفادة منها أو تنظيم توزيعها، كجزء من استراتيجية لتجريدها من أدوات الحُكم والإدارة.

من جهة أخرى، وبلهجة تصعيدية، أكدت مصادر سياسية – نُسبت تصريحاتها إلى مكتب نتنياهو من دون ذكر اسمه صراحة – أن خطة التي تم الموافقة تتضمن احتلال قطاع غزة، وأنها تمثل الصيغة المثلى لحسم المعركة واستعادة الأسرى، وهي تتماشى مع ما عبّر عنه نتنياهو مرارًا خلال الأشهر الماضية. وقد أشار رئيس الوزراء خلال الاجتماع إلى أن ما يميز هذه الخطة عن سابقاتها هو الانتقال من مرحلة الغارات إلى أسلوب الاحتلال الميداني والبقاء في الأرض.

كما أشار نتنياهو إلى استمرار دفعه باتجاه تنفيذ “خطة ترامب” التي تُمهّد لخروج “طوعي” للفلسطينيين من غزة، موضحًا أن هناك مشاورات متقدمة مع عدد من الدول بهذا الشأن، في ما يبدو أنه ربط مباشر بين التصعيد العسكري وأجندة التهجير غير المعلنة.

في سياق موازٍ، وافق الكابينت – بأغلبية – على إمكانية توزيع مساعدات إنسانية، في حال دعت الحاجة، لكن بشرط عدم وقوعها في يد “حماس”، وهو ما اعتبر جزءًا من خطة موازية لتقويض سلطتها الإدارية. وأكد المشاركون في الاجتماع أن غزة تمتلك حاليًا ما يكفي من الطعام، ما يعني عدم وجود ضغوط إنسانية طارئة قد تُفرِض استجابة فورية.

وبحسب الإعلام العبري، قال زامير في الاجتماع: “نحن في طريقنا لحسم حماس، وهذا سيساعد في استعادة الأسرى”، في محاولة لبث رسائل طمأنة بأن تحقيق الانتصار العسكري سيتكامل مع تحقيق هدف استعادة الأسرى، رغم التحذيرات السابقة من مخاطر هذا المسار على حياتهم.

بين التصعيد المتدرج وصفقة اللحظة الأخيرة: سيناريوهات الاحتلال في غزة

في سياق متابعة حيثيات القرار الإسرائيلي الأخير، أشار باراك رافيد في موقع “والا” إلى أن المجلس الوزاري المصغر صادق على استمرار الجهود الرامية إلى الوصول لاتفاق لإطلاق سراح الأسرى ووقف إطلاق النار في قطاع غزة، استنادًا إلى المبادرة المصرية واقتراح المبعوث الأميركي ويتكوف، وذلك حتى موعد زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المرتقبة إلى الشرق الأوسط.

ووفق ما نقلته المصادر، فقد أقر المجلس أيضًا خطة إسرائيلية-أميركية مشتركة لاستئناف إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة عبر مؤسسة دولية وشركات خاصة، مع تسجيل اعتراض وحيد من وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير الذي صوّت ضد القرار. 

وبحسب هذا الإجراء، ستُفعّل آلية المساعدات الجديدة في المجمعات الإنسانية التي تقيمها “إسرائيل” جنوب القطاع، على أن يبدأ تنفيذ الخطة بعد انتهاء زيارة ترامب، وهي المدة التي ستكون كافية أيضًا لتعبئة قوات الاحتياط وتدريبها تمهيدًا للمرحلة القادمة من التصعيد.

السيناريو الأقرب للتنفيذ يتمثل في توسع جزئي مدروس للعمليات العسكرية، قد يبدأ في النصف الثاني من مايو/أيار الجاري، يشمل التوغل في مناطق جديدة لم تطأها القوات سابقًا

تشير هذه المعطيات إلى أن أي خطوات عسكرية دراماتيكية لن تنطلق بزخم كبير قبل انتهاء زيارة ترامب، وذلك لتحقيق هدفين أساسيين: الأول، تفادي إحراج الحليف الأميركي وتفجير المشهد أمامه خلال زيارته؛ والثاني، استكمال إجراءات الحشد والاستعداد، وتوفير الغطاء السياسي والعسكري اللازم لتنفيذ الخطط الميدانية الإسرائيلية العدوانية.

وراء هذين الهدفين العلنيين، يختبئ دافع ثالث يتعلق برغبة الحكومة الإسرائيلية في تحقيق “صفقة أسرى شبه مجانية”، لا تقدم فيها تنازلات حقيقية، مقابل تهدئة مؤقتة تُخفّف الضغط الداخلي، وتمنح نتنياهو شرعية ميدانية تعيد تجسير الهوّة بين المستويين العسكري والسياسي، وتوفر له الغطاء المطلوب للانتقال إلى سيناريو أكبر بحجم إعادة احتلال القطاع.

ورغم التصريحات النارية التي نُسبت إلى مصدر سياسي – يُرجّح أنه من مكتب رئيس الوزراء – والتي تحدثت عن “موافقة الكابينت على عملية كبرى تشمل توغّل الجيش في جميع أنحاء قطاع غزة، وتهجير سكان الشمال جنوبًا”، فإن التقديرات تشير إلى أن هذه التصريحات تخدم أهدافًا دعائية بالدرجة الأولى، وتستهدف طمأنة جمهور اليمين الصهيوني، إلى جانب الضغط على مفاوضي المقاومة لدفعهم نحو تقديم تنازلات تحت التهديد بتوسيع العمليات.

يعيش أهالي قطاع غزة تحت ضغط متراكم من التجويع والقصف والإبادة التدريجية، في وقت يواجه فيه المفاوض الفلسطيني خيارات قاتلة، بين خضوع للشروط الإسرائيلية أو تصعيد دموي

لكن ذلك لا يعني أن الخطة العدوانية الموسعة قد جرى استبعادها بالكامل؛ غير أن حجم القوات التي جرى حشدها حتى اللحظة لا يرتقي إلى مستوى التحضيرات المطلوبة لمثل هذه الخطوة الضخمة ضمن الهامش الزمني المتاح حتى زيارة ترامب. وتشير المعطيات المتقاطعة من الإعلام العبري إلى أن الجيش عرض حزمة خطط عملياتية، تتمحور حول تصعيد تدريجي، عبر تكتيك “القضم المتدرج” لمناطق جديدة داخل القطاع، بدلًا من الانقضاض السريع.

وبناء على هذا الاتجاه، فإن السيناريو الأقرب للتنفيذ يتمثل في توسع جزئي مدروس للعمليات العسكرية، قد يبدأ في النصف الثاني من مايو/أيار الجاري، يشمل التوغل في مناطق جديدة لم تطأها القوات سابقًا، خصوصًا في الجنوب والوسط، بما في ذلك منطقة “المواصي” التي كانت تُعتبر سابقًا “منطقة إنسانية”، بحسب تقارير صحيفة “هآرتس“.

أما السيناريو الآخر فيتمثل في تعميق السيطرة ضمن المناطق التي سبق احتلالها، وتوسيع نطاق “المنطقة العازلة” بالتدرج، عبر ضغط ميداني من الشمال والجنوب نحو وسط القطاع، وهو السيناريو الأقرب لنهج رئيس الأركان إيال زامير، الذي يسعى إلى تجنّب المغامرات العسكرية واسعة النطاق التي قد تُسفر عن خسائر كبيرة في صفوف الجنود، ويفضّل عوضًا عن ذلك تنفيذ عمليات مركبة تُراكم النتائج وتُبقي الباب مفتوحًا أمام صفقة تبادل محتملة.

وسط هذا المشهد، يعيش أهالي قطاع غزة تحت ضغط متراكم من التجويع والقصف والإبادة التدريجية، في وقت يواجه فيه المفاوض الفلسطيني خيارات قاتلة، بين خضوع للشروط الإسرائيلية أو تصعيد دموي. أما البيئة الإقليمية، فهي تتواطأ بصمت أو تسهم بشكل مباشر في تجريد المقاومة من مقومات الصمود، فيما تتراجع أشكال الإسناد تدريجيًا، لتُفسح المجال لاندفاعة إسرائيلية تزداد اتساعًا، مدفوعة بإصرار نتنياهو على إطالة أمد الحرب لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية، تتجاوز بكثير حدود ملف الأسرى أو الردع التكتيكي.