تحولات الثقافة المغربية.. من “فن الحلقة” إلى منصة “تيك توك”

منذ قرون، كانت الأسواق والمواسم الدينية والزوايا في المغرب تمثل فضاءات حيوية تحتضن العديد من مظاهر الثقافة المحلية، حيث كانت تنتشر الفنون الشفهية مثل الحكايات الشعبية والأمثال والمسرح الارتجالي والإنشاد، إلى جانب المواسم الدينية التي كانت تشهد السماع الصوفي وفن الملحون والأذكار.
كانت هذه الفضاءات بمثابة ملتقى لتبادل التجارب الجمالية والإبداعية، حيث يتم تجديد الثقافة الشعبية عبر أشكال التعبير الشفوي كالحجّايات والأشعار والسير والحكايات، ليتم تداولها وتوارثها عبر الأجيال.
لكن مع الزحف الرقمي، شهدت الثقافة الشعبية المغربية تحولات جذرية، فقد انتقلت من فضاءاتها التقليدية التي بدأت تفقد بريقها إلى منصات التواصل الاجتماعي، وتحديدًا تطبيق “تيك توك”، الذي أصبح يستخدم الآن لإعادة تشكيل وظائف الثقافة الشعبية لأهداف مختلفة، بعضها مفيد والآخر مثير للجدل.
“فن الحلقة” بحلة جديدة
إلى وقت قريب، كانت الأسواق والمواسم والزوايا في المغرب تمثل فضاءات حيوية للتعبير الثقافي، حيث كانت تُعرض فيها الفنون الشعبية وتُمارس فيها الطقوس الدينية، وكانت تُخصص لحكاية القصص والأساطير، ويُنتج فيها الإبداع الثقافي الذي يتطور عبر الأجيال.
في الأسواق الأسبوعية، التي لم تكن مجرد أماكن للتجارة، كان الناس يعتادون على تحويل جزء منها إلى مسرحٍ للفنون الشفهية، فكان الحكاؤون، ومروّضو الأفاعي، والموسيقيون يتنافسون لجذب أكبر عدد من المتفرجين، من خلال استعراض مواهبهم في إطار ما يُعرف بـ “فن الحلقة” التي تستمد اسمها نظرًا لتشكيل حلقة بشرية حول الفنان الشعبي الذي يقدم عرضه، بهدف إبهار الجمهور وكسب المال.
أما “المواسم” والزوايا التي تحتضنها مناطق متعددة في المغرب، فهي تمثل مناسبة سنوية تستقطب العديد من الناس الذين يحجون إليها للاستمتاع بلحظات الفرجة التي توفرها، من عروض موسيقية وأهازيج وأمداح نبوية، وهي فعاليات تشهد حضورًا كبيرًا وتدعمها الدولة لتبقى جزءًا من الهوية الثقافية المغربية.
في السنوات القليلة الماضية، ومع غزو التكنولوجيا لجميع جوانب الحياة الإنسانية، أصبح تطبيق “تيك توك” بمثابة فضاء بديل للفضاءات التقليدية بالنسبة للشباب المغربي، فقد وفّر لهم هذا التطبيق جمهورًا واسعًا وتفاعلًا مباشرًا.
شهد “تيك توك” تزايدًا ملحوظًا في محتوى يشبه إلى حد كبير “فن الحلقة”، حيث يتنافس صناع المحتوى على جذب أكبر عدد من المتابعين، ويقومون بإنتاج مقاطع فيديو تحاكي بعض العروض التي كانت تُقدم في الأسواق مثل الحكايات والموسيقى والعروض الفردية والجماعية، بينما يعيد البعض تداولها بأسلوب مبتكر، بينما يتجه البعض الآخر نحو التفاهة والترفيه الذي يفتقر لأي قيمة ثقافية أو فنية.
بالإضافة إلى ذلك، أصبح “تيك توك” وجهة رئيسية للفنانين المغاربة، خاصة المهمشين منهم، الذين وجدوا في هذه المنصة مساحة للوصول المباشر إلى الجمهور. فقد أصبحوا قادرين على الترويج لأعمالهم وحصد الدعم المالي من الداعمين على المنصة.
وهذا التحول فتح أمامهم أبوابًا جديدة للتعبير عن أنفسهم بحرية، والتصدي للظروف التي كانت تحدّ من ظهورهم في الإنتاجات التلفزيونية، بسبب المحسوبية التي يشتكي منها كثيرون وتسيطر على المشهد الفني المغربي.
الترويج للسياحة
لا تقتصر دور المنصات الرقمية على توفير متنفس جديد للفنانين أو الترفيه فقط، بل أصبحت أيضًا أداة فعالة في توثيق الثقافة الشعبية، مما يسهم في نقل هذه التقاليد إلى الأجيال الجديدة والحفاظ عليها.
من خلال مقاطع الفيديو، يقوم صناع المحتوى بتوثيق مظاهر الثقافة الشعبية ونقلها إلى العالم، مما يتيح لعدد كبير من الأشخاص خارج المغرب فرصة الاستمتاع بها، وبالتالي تساهم هذه المنصات في جذب السياح الأجانب وتحريك عجلة الاقتصاد المغربي.
وفي هذا السياق كان المكتب الوطني المغربي للسياحة، قد عمل خلال سنة 2024 على استغلال الشعبية المتزايدة لمنصة “تيك توك” لتسليط الضوء على مميزات الثقافة المغربية، وتوثيق مظاهرها في ثلاث مدن هي مراكش والصويرة وورزازات.
وذلك من خلال مبادرة أُطلق عليها “تراند هاوس”، والتي جمعت مبدعي محتوى أجانب وُجهت لهم الدعوة للترويج لمختلف أوجه السياحة المغربية، بما في ذلك مظاهر الثقافة الشعبية التي لا تزال تشهدها بعض الفضاءات العمومية كما هو الشأن في ساحة “جامع الفنا” الشهيرة في مراكش مثلا.
تريندات “التفاهة”
صحيح أن “تيك توك” وباقي منصات التواصل الاجتماعي تقدم خدمة إيجابية من خلال فتح آفاق جديدة أمام أشكال متنوعة من التعبير الشعبي، كما تلعب دورًا مهمًا في نقل القيم والهوية الثقافية للعالم من خلال محاولات إعادة إنتاج هذه الأشكال بأسلوب مختلف.
لكن شهدت هذه المنصات ظهور بعض الظواهر السلبية نتيجة تشجيعها على محتوى سطحي يهدف إلى جذب الانتباه وتحقيق الربح السريع من خلال زيادة عدد المتابعين، دون أن يقدم هذا المحتوى قيمة ثقافية أو فنية حقيقية.
من بين الظواهر التي أثارت جدلاً واسعًا في المغرب خلال السنوات الأخيرة، تبرز ظاهرتا “التكبيس” و”روتيني اليومي”، حيث تعتمد الظاهرة الأولى على جمع التفاعل والهدايا الرقمية التي يقدمها الداعمون على المنصة بهدف تحقيق الأرباح، فيما يتسمر المتابعون بالنقر المستمر على الشاشة خلال البث المباشر لزيادة التفاعل والرفع من عدد المتابعين.
وعندما يصل عدد المتابعين إلى ألف، يصبح المستخدم قادرًا على تلقي الهدايا والمكافآت من الداعمين، وهي عملات افتراضية يمكن تحويلها إلى نقود حقيقية، وهذا النظام شجع العديد من المستخدمين على تقديم محتوى يهدف فقط إلى جذب الانتباه وتحقيق الأرباح.
بينما يركّز أصحاب “روتيني اليومي” على عرض تفاصيل حياتهم الشخصية بشكل قد يكون فاضحًا أو مثيرًا للجدل، في سعي متواصل عن الربح المادي السريع، ما أدى إلى تراجع القيم الثقافية الأصيلة، وإفساح المجال لمحتوى سطحي سريع الاستهلاك، يفتقر إلى الإبداع، ويؤثر على الذوق العام، ويؤدي إلى نمط حياة يتسم بالسطحية والمادية، حيث يصبح المال والشهرة هما الهدفين الأساسيين لكثير من صناع المحتوى.
هذه الظواهر تهدد بطمس الهوية الثقافية المغربية، وتؤدي إلى اندثار العديد من أشكال الفنون الشعبية التي كانت تمثل جزءًا من التراث الثقافي للمجتمع. في المقابل، تنتشر محتويات دخيلة لا تراعي خصوصيات المجتمع المغربي ولا تحترم فرادته الثقافية.
خطوات في مواجهة “التسطيح”
أمام هذا الوضع، بدأت الحكومة المغربية اتخاذ خطوات لمواجهة الظواهر السلبية المرتبطة بمنصات التواصل الاجتماعي، وخاصة منصة “تيك توك” التي وصفها أعضاء في البرلمان المغربي بأنها “منصة لنشر التفاهة والانحراف”، فسعت الحكومة إلى فتح حوار مع إدارة التطبيق بهدف تحفيزها على مراعاة الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمملكة، ودعوتها لفتح مكتب لها في المغرب.
كما تعمل الحكومة على تعزيز دور الأسرة في مراقبة استخدام الأطفال والشباب لوسائل التواصل الاجتماعي، مع بروز دعوات لإدماج التربية الرقمية كمادة دراسية في المناهج التعليمية لتوعية الطلاب بمخاطر الاستخدام غير المسؤول لمواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى ذلك تُشجع الحكومة الأسر على مراقبة أبنائهم ومساعدتهم في التمييز بين المحتويات المفيدة والمضرة.
ومع تحول الثقافة الشعبية من الفضاءات التقليدية إلى المنصات الرقمية، تم فتح آفاق واسعة أمام هذه الثقافة، فأصبحت المنصات الرقمية أداة قوية لنقل مظاهر الثقافة الشعبية، مثل الحكايات الشعبية والأغاني التقليدية والأمثال والحكم والنوادر بأسلوب عصري.
ومع ذلك، فقد أدى هذا التحول إلى تغيير وظيفة هذه الثقافة من كونها وسيلة محورية لحفظ الهوية الجماعية ونقل القيم والمعارف بشكل شفهي، إلى أداة للكسب السريع، ما فتح النقاش حول إمكانية وضع سياسات تشجع على المحتوى الثقافي الهادف، وتعزز الوعي بأهمية الحفاظ على الموروث الشعبي في مواجهة المغريات الرقمية التي تعتمد على الربح السريع بدلاً من القيمة الثقافية والفنية للمحتويات.