عباس بتحركات إقليمية: من لا يقدر على غزة يحارب طوقها

بين بيروت ودمشق وعمان، يتحرك رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس على خريطة إقليمية حسّاسة، محاولًا بتنسيق معلن تفكيك ما تبقى من سلاح المقاومة الفلسطينية في المخيمات، تحت قاعدة “إن فشلت إسرائيل في نزع سلاح غزة، علّنا نستطيع حمايتها – أي إسرائيل – من أي سلاح موجهٍ ضدها في دول الطوق”.
لا تأتي هذه الجولة بمعزل عن تحولات إقليمية في سوريا الجديدة بعد سقوط بشار الأسد، ولبنان الموقع لاتفاق وقف إطلاق نار مع الاحتلال الإسرائيلي، تلتزم به بيروت من طرفٍ واحد، إلى الأردن التي أشهرت الحرب رسميًا على داعمي المقاومة، لكنّ الزاوية الأخرى للمشهد تقول إن عباس يحاول أيضًا أن يمهد المستقبل “الهادئ” بدون أي وجع رأس محيط لوريثه المنتظر حسين الشيخ، وأن هذا المستقبل لا يحتمل مقاومة ضد الاحتلال.
بيروت.. السلاح أولًا
في بيروت، حيث المخيمات الفلسطينية المهمشة، أعلن الجيش اللبناني توقيف عناصر من حركة “حماس” على خلفية إطلاق صواريخ باتجاه الأراضي المحتلة، جاء ذلك بعدما أصدر المجلس الأعلى للدفاع توصية إلى مجلس الوزراء اللبناني بتحذير حركة (حماس) من استخدام الأراضي اللبنانية للقيام بأي أعمال تمس بالأمن القومي اللبناني، حيث “سيتم اتخاذ أقصى التدابير والإجراءات اللازمة لوضع حد نهائي لأي عمل ينتهك السيادة اللبنانية”.
لاحقًا، أفادت مصادر لبنانية بأنه تم الادّعاء على 9 أفراد من حركة “حماس” في ملف إطلاق الصواريخ على “إسرائيل”، بينما أكدت “حماس” مرارًا احترامها لسيادة لبنان، والتزامها باتّفاق وقف إطلاق النّار الذي أبرمته الدّولة، وحرصها على أمن واستقرار البلد، والتزامها بالقوانين المعتمدة فيه.
في خضم هذا المشهد، كشفت مصادر دبلوماسية لموقع “ميدل إيست أي” عن زيارة مرتقبة لعباس إلى بيروت في 19 مايو/أيار الجاري، بهدف تقديم خطة متكاملة لنزع سلاح الفصائل، بما فيها حركة “فتح” نفسها، بالتنسيق مع الدولة اللبنانية.
تتحدث الخطة عن “نزع ناعم”، لكن مصادر أخرى لم تستبعد “الحزم الأمني إن تطلب الأمر”، في إشارة إلى استعداد السلطة لدفع الأمور حتى النهاية مقابل إنهاء سلاح المخيمات، وهي ليست المرة الأولى التي يطرح فيها عباس هذه الفكرة، ففي عام 2013، وفي زيارة مشابهة، عرض على الدولة اللبنانية فتح باب المخيمات أمام الجيش، مقابل تحسين أوضاعها المعيشية، لكن الطرح جُمّد تحت ضغط الفصائل الفلسطينية وحسابات داخلية لبنانية.
بحسب الموقع البريطاني، فإن عباس وافق بالفعل على بدء إزالة سلاح فتح داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان، على أن يدعو أيضًا بقية الفصائل المقاومة هناك إلى أن تُسلم أسلحتها صراحةً، ومن المتوقع أن تتم هذه الخطوة بتنسيق وثيق مع الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية.
ومن الجدير بالذكر أن الوجود المسلح الفلسطيني في المخيمات يحظى بخصوصية تاريخية، إذ أنه واقع معترَف به ضمنيًا من الدولة اللبنانية منذ انتهاء الحرب الأهلية بموجب اتفاق الطائف عام 1990، فضلاً عن الذاكرة المؤلمة لمجازر استهدفت الفلسطينيين عندما كانوا بلا حماية كافية، وربما لهذا السبب لم يلقَ طرح عباس السابق حول الموضوع عام 2013 ترحيبًا واسعًا آنذاك.
أما اليوم، فيبدو أن الظروف تغيّرت بضغط دولي وعربي؛ حيث تمهّد واشنطن وتل أبيب الطريق أمام قرار لبناني حاسم في هذا الملف، بالتوازي مع ضغوط سعودية كما تفيد التسريبات، الأمر الذي يتيح لعباس فرصة غير مسبوقة لطرح رؤيته بتصفية سلاح المخيمات من الداخل، مستندًا إلى رغبة لبنانية في إنهاء حالة السلاح المنفلت تحت وطأة الاعتبارات السيادية والأمنية.
الأردن وسوريا
على الجبهة السورية، لم تكن تحركات عباس أقل أهمية، فبعد تغيرات دراماتيكية في سوريا أواخر العام 2024 – تمثلت في سقوط بشار الأسد ووصول قيادة انتقالية جديدة في دمشق، سارع محمود عباس إلى إنهاء قطيعة دامت 16 عامًا مع سوريا، وفي 18 نيسان/أبريل 2025، وصل عباس إلى دمشق في أول زيارة له منذ عام 2009 والتقى بالرئيس السوري أحمد الشرع في قصر الشعب.
ومع عودة الدفء للعلاقات بين دمشق ورام الله في ظل الواقع السوري الجديد، يُرجّح أن عباس يسعى للحصول على غطاء من القيادة السورية لكبح أي نشاط عسكري للفصائل الفلسطينية، خاصة وأن دولة الاحتلال سارعت، عقب التغييرات في دمشق، إلى توسيع نفوذها في جنوب سوريا والجولان المحتل مطالبةً بأن يكون الجنوب السوري “منزوع السلاح بشكل كامل”.
وإن اختلفت النوايا والأسباب، فإن عباس يدرك جيدًا أن سلاح الفصائل هناك تتقاطع مع مصلحة الحكومة السورية في بسط سيطرتها الأمنية وتوحيد السلاح في يد الدولة من جهة، كما تتقاطع زيارته مع مطلب إسرائيلي بعدم السماح بتهديدات من الأراضي السورية.
ليس بعيدًا من دمشق، إلى عمان، يظهر المشهد مختلفًا لكنه يصب في نفس الاتجاه، فعمان تُعتبر تقليديًا ساحة محظورة على أي نشاط عسكري فلسطيني منذ أحداث أيلول 1970، إلا أن التطورات الإقليمية الأخيرة دفعت الأردن لاتخاذ إجراءات استباقية صارمة.
في 23 أبريل/نيسان 2025 أعلنت عمان حظر جماعة “الإخوان المسلمين” رسميًا، واعتبرتها جمعية غير مشروعة، كما باشرت إجراءات قضائية لمصادرة ممتلكاتها. وسبق القرار حملة أمنية انتهت اعتقال خلية من 16 شخصًا اتُهموا في تصنيع صواريخ ومسيّرات دعمًا للمقاومة وموجهة نحو فلسطين.
ورغم نفي الجماعة أي صلة بالمعتقلين، وأنه حراك فردي لدعم المقاومة، إلا أن هذا الحراك الأمني يتقاطع بوضوح مع رغبة السلطة في تحجيم نفوذ “حماس” والتي ترى فيها امتدادًا لحركة الإخوان، لا سيما على الساحة الأردنية، الجبهة الأخطر من وجهة نظر السلطة والاحتلال، فهي الامتداد الجغرافي والبشري للضفة الغربية، وأي مقاومة من الأردن تهدد حلم الصهيونية الدينية في القدس والضفة.
حسين الشيخ.. بلا مقاومة على الطاولة
في إبريل\نيسان 2025، صادقت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية على تعيين حسين الشيخ نائبًا لرئيس دولة فلسطين، ونائبًا لرئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة، بعد ترشيحه من قبل الرئيس محمود عباس، في خطوة وُصفت بأنها سابقة في تاريخ المنظمة.
ويُعد الشيخ من أبرز قيادات حركة “فتح”، ويمسك بعدة ملفات سياسية ودبلوماسية حساسة، وتشمل مهمته الجديدة تمثيل القيادة في اللقاءات الخارجية، وتحضير الأرضية السياسية واللوجستية لأي ترتيبات انتقالية محتملة داخل السلطة الفلسطينية.
خلال اجتماع عُقد على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي، في إبريل\ نيسان 2024، شارك الشيخ في اجتماع لبحث مستقبل قطاع غزة بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي، حضره أنتوني بلينكن، ووزراء خارجية السعودية ومصر والأردن وقطر والكويت والإمارات، حينها، أكد الشيخ أن السلطة الفلسطينية تجري إصلاحات.
وفي هذا السياق، كشفت مصادر صحفية أن الشيخ سيتوجه إلى المملكة العربية السعودية خلال مايو\ أيار الحالي، في زيارة رسمية تأتي ضمن التحركات السياسية المتسارعة التي تقودها السلطة، وسيناقش خلالها ثلاثة ملفات رئيسية: حرب الإبادة المتواصلة على قطاع غزة، وما نتج عنها من كوارث على كافة الأصعدة، إلى جانب الجهود الدولية لوقف العدوان.
تدرك السلطة وعلى رأسها عباس أن وجود مقاومة خارج الضفة أو حتى داخلها يُعقد أي مستقبل سياسي للوريث الشيخ، لهذا تعمل رام الله جاهدة على إنهاء هذا الوجود ليس في غزة فقط، بل على تخومها أيضًا، ولعل الترحيب السريع بتعيين الشيخ من عواصم عربية نافذة يشير إلى اصطفاف إقليمي داعم له، وهو ما يثير حفيظة فصائل فلسطينية معارضة مثل حماس التي اعتبرته “استجابة لإملاءات خارجية”.
حصار المقاومة
في ذات الوقت، ورغم أن المشهد يبدو كأنه انفلات عفوي ناجم عن الكارثة الإنسانية وحرب الإبادة المتواصلة لسنتها الثانية، تشير تقارير صحفية إلى أن أصابع خفية تعبث باستقرار غزة، من خلال الفوضى وسرقة مخازن المواد التموينية الشحيحة أصلًا، بعد أسابيع قليلة من محاولة تحشيد الشارع ضد المقاومة الفلسطينية وخروج مسيرات لم يكتب لها النجاح، لكنها لبت نشوة تل أبيب والإعلام الموالي لها في السعودية والإمارات ومصر.
وبحسب مصادر صحفية، ما يجري هناك جزء من محاولة استخباراتية إسرائيلية وعربية مدروسة لإغراق غزة في فوضى داخلية مُدارة تُستخدم كسلاح موازٍ للحرب المباشرة، عبر أدوات محلية مخترَقة أو متواطئة، الهدف تفكيك حاضنة المقاومة الاجتماعية وإغراقها في دوامة فلتان أمني، بعد عجز نزع سلاحها أو استلامها.
هذا المشهد في غزة، يُستغل إقليميًا ودوليًا لتبرير مزيد من الخطوات الاستثنائية لضبط الأمن الفلسطيني خارج القطاع، بدعوى عدم السماح بتكرار سيناريو الفوضى، وبذلك تكتمل صورة “حصار المقاومة”: فصائل محاصرة في غزة تحت النار، ومطاردة في المنافي والمخيمات، لتُنزع أوراق قوتها واحدة تلو الأخرى خارج نطاق سيطرة السلطة.
مجمل هذه التطورات ترسم صورة لواقع يُحاصر فيه تيار المقاومة الفلسطينية خارج فلسطين من كل الجهات. فبين إجراءات لبنان الحازمة، وقبضة الأردن الأمنية، وتحولات سوريا الجديدة، يبدو أن الفضاء الإقليمي يضيق شيئًا فشيئًا على فصائل المقاومة التي لطالما اتخذت من دول الجوار ساحات دعم أو ملاذ خلال العقود الماضية.