ضحايا بالمئات وأغلبهم أطفال: دير الزور في قبضة مخلفات الحرب

خلّفت الحرب الأهلية التي استمرت حوالي أربعة عشر سنة في مقاطعة دير الزور السورية ذات الطابع الصحراوي، إرثًا من الألغام والذخائر غير المنفجرة. ونظرًا لضعف الإمكانات المتوفرة في مجال نزع الألغام، لا تزال هذه المخلفات الحربية تشكّل خطرًا دائمًا، متسببةً في سقوط ضحايا من السكان المحليين.
بعينين مغرورقتين بالدموع، يحرّك أحمد، البالغ من العمر عشر سنوات، رأسه كما لو كان يحاول الهروب من الألم. مستلقياً على نقالة داخل قسم الطوارئ في المستشفى الوطني بمدينة دير الزور، شرقي سوريا، يوم الثلاثاء 29 نيسان/أبريل. ينتظر أحمد متسلحًا بالصبر والصمت إنهاء الأطباء لفّ ذراعه اليمنى بالضمادات، بينما لا يزال الجرح ينزف. ملابسه الملطخة تكشف عن جلده المثخن بالجراح. في محاولة لالتماس بعض العزاء، يبحث بعينيه عن وجوه مألوفة بين أفراد عائلته. ورغم أن المورفين الذي قدم له يخفف من ألمه، غير أنه لا يستطيع تخفيف هول الصدمة التي تعرض لها للتو.
انتهت الحرب في سوريا، غير أن تداعياتها الوخيمة لا تزال تحصد أرواح الضحايا يومًا بعد يوم. فقد خلّف الصراع، الذي استمر أربعة عشر عامًا، كمًا هائلًا من الذخائر غير المنفجرة، إلى جانب الألغام والمتفجرات التي زرعتها أطراف النزاع المختلفة. ومنذ سقوط نظام بشار الأسد في الثامن كانون الأول/ديسمبر 2024، سُجّلت إصابة أو مقتل 635 شخصًا بسبب مخلفات الحرب، بحسب ما أفادت به المنظمة الدولية لأمن المنظمات الدولية غير الحكومية.
إنهم في كثير من الأحيان أطفال
تسجل محافظة دير الزور وحدها أعلى عدد من الضحايا. فخلال الفترة الممتدة بين الأول من كانون الثاني/يناير و14 نيسان/أبريل، سجلت حوالي 89 إصابة بين قتيل وجريح متجاوزة بذلك الحصيلة السنوية لسنة 2024 التي قدرت ب 74 ضحية. ويقول داميان أوبراين، مسؤول ملف سوريا في منظمة “هالو تراست” البريطانية المتخصصة في إزالة الألغام: “إنها مشكلة خطيرة للغاية، وتفاقمت بشكل كبير منذ سقوط النظام بسبب عودة المدنيين إلى منازلهم”. ويضيف: “من المؤكد أن عدد الحوادث يفوق ما يتم الإبلاغ عنه، لكن الأرقام المعلن عنها وحدها تثير القلق”.
في هذا الصدد، تقول ياسمينة جماع سعيد، ممرضة في المستشفى: “كثيرًا ما يكون الضحايا أطفالاً لا يدركون أنهم يلعبون بقنابل أو ألغام غير منفجرة. ومعظم الضحايا يأتون من مناطق ريفية”. في إحدى الغرف، لا يزال أحمد، البالغ من العمر 12 عاماً، في حالة من الذهول بعد أن بُترت ساقه اليمنى إثر انفجار لغم داس عليه قبل خمسة أيام.
بخصوص هذا تقول والدته حمرة المحمد وهي مزارعة تبلغ من العمر 40 سنة: “خرج فقط ليرعى قطيع الأغنام. هذا الأمر أصبح شديد الحدوث في منطقتنا. ولقد أكدتُ عليه في العديد من المناسبات ضرورة توخي الحذر، لكن ذلك لم يكن كافياً”. يستلقي أحمد بساقه المبتورة فوق كيس بلاستيكي أسود يغطي فراش سريره في المستشفى. ومن المقرر خضوعه لعملية جراحية أخرى في محاولة لإنقاذ مفصل ساقه.
في الغرفة المجاورة، كانت عائلة محمد الرضية، البالغ من العمر 11 سنة، هي الأخرى ضحية انفجار لغم أثناء توقفها في طريق العودة بين دير الزور ودمشق. هناك لقى والده حتفه على الفور. بينما بُترت ساق شقيقه وتعرّضت عمته لإصابة خطيرة. يلازم محمد الآن السرير في المستشفى، بيد وساق مكسورتان وملطختان من أثر الانفجار. يهمس محمد بصوت خافت: “تعبت من العمليات أريد فقط العودة إلى المنزل”.
- انفجار ألغام أزالها اللواء 66 التابع لجيش سوريا الجديد، في محافظة دير الزور، في 29 نيسان /أبريل 2025.
ينحدر العديد من الجرحى من المناطق المحاذية لنهر الفرات، وهي جبهة سابقة خلال سنوات الحرب. وقد تعاقب على السيطرة على محافظة دير الزور كل من الفصائل المقاتلة، وتنظيم الدولة، ثم جيش بشار الأسد في الغرب، وقوات سوريا الديمقراطية في الشرق. وباعتبارها ساحةً لمعارك ضارية، وتعرضها لقصف جوي من قبل قوات الأسد وإيران وروسيا والتحالف الدولي تُعد المحافظة من أكثر المناطق الملوثة بالألغام في سوريا. أما عاصمتها الإدارية التي تحمل الاسم نفسه، فقد تُركت شبه مدمّرة، إذ لم يتبقَ من أصل ثلاثين حياً سكنياً سوى ثلاثة أحياء مأهولة فقط.
القنابل العنقودية المحظورة
طالت أماكن تواجد الذخائر المستشفى أيضًا. ففي أواخر آذار/ مارس، وعندما كانت منظمة أطباء بلا حدود بصدد إقامة منطقة لإدارة النفايات الطبية، اكتشفت فرقها قنبلة عنقودية صغيرة، وعلبة تحتوي على صواعق، بالإضافة إلى قنبلة يدوية مدفونة في الأرض بالقرب من الجدار المحيط بالمستشفى. وقد تدخلت فرقة من الدفاع المدني السوري لإزالتها. ويقول حسن جماع، البالغ من العمر 34 عامًا، والذي يقود وحدة “الخوذ البيضاء” التي تم إرسالها إلى دير الزور من حلب: “أعتقد أن هناك ذخائر في كل حي”. ويضيف جماع: “لقد عثرنا على قنابل عنقودية – المحظورة بموجب اتفاقيات دولية – في ساحة مدرسة وحتى في المقابر. إذا أرسلنا فريقًا كاملاً لمدة عامين، فلن يكون لديهم الوقت الكافي لتأمين جميع الأماكن”.
- عناصر الخوذ البيضاء يرتدون معدات الحماية الخاصة بهم قبل البحث عن ذخائر غير منفجرة في حي الصناعة بدير الزور في 29 أبريل 2025.
في صباح اليوم التالي، لم يستغرق فريق الخوذ البيضاء سوى بضع دقائق للعثور، بناءً على إرشادات السكان المحليين، على قذيفة هاون عيار 82 ملم، موضوعة على بعد 15 مترًا فقط من شارع مزدحم في حي السنواح. وبين الركام، وضع أعضاء الدفاع المدني أكياس الرمل حول الذخيرة، ثم مدّوا كابلًا طويلًا لإشعال الجسم عن بُعد وتفجير القذيفة بطريقة آمنة. استغرقت هذه العملية الدقيقة حوالي ساعة ونصف قبل أن تتسبب القذيفة في انفجار يقطع الصمت في تلك الأنقاض.
يقلص نقص الأفراد العاملين في هذا المجال والمعدات الكافية من وتيرة هذا العمل المضني. ويقول حسن جماع: “في البداية، كنا نعمل في المناطق المحررة في شمال غرب سوريا. ومع مرور الوقت، وجدنا أنفسنا مضطرين إلى التواجد في جميع أنحاء سوريا. هذه ضغوط هائلة”.
من جانبها، تواجه المنظمات الإنسانية صعوبة في تقييم مدى تواجد الألغام بسبب غياب البيانات الواضحة.
في الأثناء، يقول داميان أوبراين: “ينبغي أن نساعد في بناء القدرات المحلية للتقييم ثم المعالجة، فنحن نبدأ من الصفر”، مضيفا: “لا توجد حالياً أي مؤسسة حكومية مركزية لجمع البيانات حول الضحايا وجهود إزالة الألغام “.
ليس لدينا شيء
في صحراء البادية، التي تعادل مساحتها ربع مساحة فرنسا، والمليئة بحقول الألغام التي زرعها النظام السابق ومليشياته المدعومة من إيران وروسيا، أُوكلت مهمة إزالة الألغام إلى اللواء 66. وعلى بُعد 30 كيلومترًا جنوب دير الزور، يتحرك جنود وسط الرمال وبين تجمعات الشجيرات، حاملين أجهزة كشف المعادن بأيديهم. ويقول أبو حافظ البالغ من العمر 35 سنة، المسؤول عن عمليات إزالة الألغام:” هنا كان يوجد ميدان عسكري قديم تابع لنظام بشار الأسد”.
- جندي من اللواء 66 التابع لجيش سوريا الجديد يزيل لغمًا مضادًا للدبابات في البادية، بالقرب من قاعدة سابقة لجيش الأسد، في محافظة دير الزور، في 29 أبريل/نيسان 2025.
تبدو العملية وكأنها رحلة ميدانية في قلب الصحراء، بحيث يتحرك الجنود في جميع الاتجاهات حاملين ألغامًا بين أيديهم. تعليقا على ذلك، يقول أحد الجنود الملثمين :”لقد تم تعطيلها”. وبعد وضع حوالي عشرة ألغام جانبًا تمهيدًا لتفجيرها والانتقال إلى منطقة آمنة، بدأوا في اكتشاف المزيد من الألغام، بحيث صرخ أحدهم: “هناك واحدة هنا أيضًا” تبعه صوت آخر: ” وهنا أيضًا”. في المجمل، كانت هناك سبع ألغام لم تستطع أجهزة الكشف رصدها. يقول أبو حافظ بأسى: “كنت أتمنى لو توفرت لنا المعدات اللازمة، لكننا لا نملك شيئًا”. وبسبب تتالي الحوادث فقد اللواء 66 جنديين منذ بداية السنة الجارية.
عن طريق الاسترشاد بخريطة يوضح أبو حافظ أن من بين 300 ألف لغم موزعة في جميع أنحاء سوريا، يتواجد حوالي 70 بالمئة منها في محافظة دير الزور، وهي معلومة لم تتمكن صحيفة “لوموند” من التحقق من مدى صحتها. وخلال عمليتي تمشيط متتاليتين، تمكن الجنود من تدمير نحو مئة لغم.
ووفقًا لبياناتهم، فإن تطهير هذا الإقليم الشاسع سيستغرق أكثر من تسع سنوات مما يدفع للتساؤل عن عدد الأرواح المدنية التي ستُزهق بسبب أشباح الحرب قبل إزالتها تماما.
المصدر: لوموند