بين التجويع والإدارة الأمنية: خطة أمريكية لهندسة غزة بغطاء إنساني

بينما تتصاعد التحذيرات من كارثة إنسانية غير مسبوقة في قطاع غزة بفعل الحصار والتجويع، سارعت الإدارة الأمريكية لإعلان خطة جديدة لتوزيع المساعدات، قُبيل زيارة الرئيس دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط.

لكن الخطة، التي تُقدَّم بواجهة إنسانية، تثير شكوكًا عميقةً حول أهدافها الحقيقية، خاصةً مع تكليف مؤسسة أمريكية خاصة –يُتوقع أن تُدار من قبل شخصية مقرَّبة من مراكز النفوذ الجمهوري– بإدارة المساعدات بشكل مباشر في القطاع، ضمن آلية تخضع لرقابة أمنية مشددة، وتعمل بمعزل عن المؤسسات الدولية والمجتمع المدني الفلسطيني.

وعلى الرغم من أن التقدير الأولي قد يُوحي بأن واشنطن تسعى إلى امتصاص الضغوط العربية وتخفيف النقمة الدولية قبيل زيارة ترامب، فإن القراءة المتأنية تكشف أن هذه الخطة ليست سوى امتداد لمشاريع سابقة، تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع السياسي والاجتماعي في غزة، ضمن رؤية أمريكية–إسرائيلية مشتركة تسعى إلى فرض “نظام بديل” على أنقاض البنية الوطنية القائمة، واستثمار المساعدات كأداة ضغط وتطويع في سياق مشروع “اليوم التالي”.

واشنطن تُهندس الإغاثة في غزة

أعلنت الولايات المتحدة إطلاق “مؤسسة” جديدة ستتولى قريبًا مهمة إدارة وتوزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة، دون الكشف عن تفاصيل موسَّعة بشأن طبيعة هذه المؤسسة وآليات عملها.

غير أن مصادر صحفية كشفت ملامح المبادرة، مشيرةً إلى أنها ستُنفَّذ على مرحلتين: الأولى تستهدف نحو 1.2 مليون من سكان القطاع؛ والثانية تشمل المليون المتبقي، دون تحديد موعد دقيق لانطلاقها.

وحسبما قُدِّم في الأمم المتحدة من قِبل المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، فإن الخطة ستُدار عبر مؤسسة جديدة تحمل اسم “مؤسسة غزة الإنسانية” (GHF)، ويرجَّح أن يرأسها المدير التنفيذي السابق لبرنامج الأغذية العالمي، ديفيد بيزلي.

وتقضي الخطة بإنشاء أربعة مراكز توزيع، يُخصَّص كلٌّ منها لتقديم المساعدات لنحو 300 ألف شخص، على أن يجري ذلك دون تدخل مباشر من جيش الاحتلال الإسرائيلي. 

لكن، وفق ما أعلنه السفير الأميركي لدى “إسرائيل” مايك هاكابي خلال مؤتمر صحفي في السفارة الأميركية بالقدس، ستُوكل مهمة تأمين هذه المراكز إلى شركات أمنية أمريكية خاصة، في حين سيوفر جيش الاحتلال الحماية العسكرية للمناطق المحيطة بها.

ومن المتوقع أن توزِّع المراكز حصصًا غذائية جاهزة، إلى جانب مستلزمات النظافة وبعض المواد الطبية الأساسية.

وتضمنت وثيقة الخطة، المكونة من 14 صفحة، أن يقود المؤسسة “خبراء يمتلكون خلفية غنية في العمل الإنساني والأنظمة المالية”.

وعلى الرغم من الترويج للخطة كخطوة إنسانية، فقد قوبلت برفض واسع من مؤسسات إغاثية دولية ومحلية، وعلى رأسها وكالات الأمم المتحدة، التي رأت فيها آلية تفتقر إلى الفعالية، وتنتهك المبادئ الإنسانية الأساسية، وقد تُفضي إلى تعزيز التهجير القسري بدلًا من تقديم حلول حقيقية لمعاناة المدنيين في غزة.

كما شهدت النقاشات المغلقة التي أجراها ويتكوف مع مندوبي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، في محاولة لتوسيع الدعم الدولي للمبادرة، انتقاداتٍ حادةً لـ”إسرائيل”، إذ اتهمها عدد من السفراء بتجويع سكان غزة عمداً كأداة من أدوات الحرب.

الخطط الإسرائيلية بثوب أميركي

لا يمكن قراءة الخطة الأميركية الجديدة بشأن توزيع المساعدات في قطاع غزة بمعزل عن النقاش الدائر داخل حكومة الاحتلال الإسرائيلي حول مستقبل القطاع، خاصةً في ظل الإخفاق المتواصل في تحقيق أهداف الحرب، على الرغم من مرور أكثر من 19 شهرًا على استخدام أقصى أدوات القتل والتدمير بحق الشعب الفلسطيني.

وفي هذا السياق، تُعيد ملامح الخطة الأمريكية إلى الواجهة عددًا من التصورات والخطط الإسرائيلية السابقة، التي ناقشتها دوائر الحكومة الإسرائيلية والمؤسسة الأمنية والعسكرية بهدف تفكيك البنية المجتمعية القائمة في غزة، وإحلال تشكيلات محلية بديلة متعاونة.

وتبدو الخطة الحالية بمثابة إعادة إنتاج، بنسخة مُحدَّثة، لسلسلة من المخططات الإسرائيلية التي طُرحت منذ الأشهر الأولى لحرب الإبادة، بدءًا من “المناطق الآمنة” و”الجزر الإنسانية”، مرورًا بما عُرف بـ”الفقاعات الإنسانية”، والتي كانت تهدف إلى حصر السكان ضمن بقع جغرافية محددة، تُدار أمنيًّا من قبل شركات خاصة، ويُتحكم فيها بصرامة من حيث الدخول والخروج.

لكن إخفاق هذه الخطط في تحقيق أهدافها، بفعل تماسك البنية الوطنية الفلسطينية في غزة، وفشل محاولات دفع السكان نحو الانقلاب على هويتهم ومقاومتهم، وتفشيل سيناريوهات الاحتراب الداخلي والتفكيك المجتمعي، جعل من الضروري –من وجهة النظر الإسرائيلية– مراجعة هذه الإخفاقات، والبحث عن مقاربة جديدة تُحقِّق ذات الأهداف لكن بأدوات مغايرة.

في هذا الإطار، جاءت الخطة الأمريكية لتأخذ شكل “قولبة جديدة” للمشاريع الإسرائيلية، من خلال تجاوز المواجهة المباشرة مع الحساسية الوطنية والاجتماعية الفلسطينية، وتقديم مشروع “إنساني” على يد مؤسسة أمريكية تَحمل شعاراتٍ محايدة، على أمل أن تكون أكثر قابلية للتعامل معها من قِبل الأهالي، وأقل استفزازًا من تدخل مباشر لجيش الاحتلال أو أجهزته.

كما تُمثِّل الخطة حلًّا مريحًا للجدل الداخلي الإسرائيلي حول من يتحمل مسؤولية توزيع المساعدات. فبينما يضغط المستوى السياسي لتكليف الجيش بالمهمة، يرفض جيش الاحتلال هذا الدور بشدة، لتفادي المخاطر المباشرة على الجنود، والوقوع في فخ إعادة الاحتلال العسكري الرسمي للقطاع.

أما على الصعيد السياسي الأوسع، فإن إنشاء مؤسسة أمريكية باسم “غزة”، وتجاوز المؤسسات الأممية القائمة، وفي مقدمتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا“، يُظهر بوضوح مدى انسجام الخطة مع التوجه الأمريكي–الإسرائيلي الساعي إلى تصفية الوكالة، بوصفها شاهدًا حيًّا على نكبة الشعب الفلسطيني، ورمزًا للحقوق التاريخية التي ما تزال قائمةً في الوعي الأممي.

المساعدات وهندسة “اليوم التالي”

تُعَدُّ مسألة السيطرة على المساعدات الإنسانية في قطاع غزة مفتاحًا أساسيًّا لفهم الفشل الإسرائيلي في الإطاحة بالبنية الحكومية القائمة، وفشل محاولاته في فرض بدائل سياسية واجتماعية على السكان.

ففي أروقة الحكومة والجيش الإسرائيليين، يسود ادعاء رئيسي بأن استمرار حركة “حماس” في إدارة توزيع المساعدات يمكِّنها من تعزيز حضورها المجتمعي وترسيخ شرعيتها السياسية، سواءٌ من خلال تولِّيها مهام التوزيع أو عبر الاستفادة المفترضة من جزء من تلك المساعدات كمورد يعزز صمودها المالي والتنظيمي.

وعلى الرغم من افتقار هذا الادعاء إلى أساس واقعي أو دليل ملموس، فإن جوهره يتعلَّق بفكرة تجاوُز البنية الوطنية القائمة، وتفكيك شبكة الفعل الأهلي والمجتمعي الفلسطيني، لإحلال منظومة بديلة خاضعة للأجندة الإسرائيلية. وتقع هذه الرؤية في صلب مشروع “هندسة اليوم التالي” الذي تسعى واشنطن و”تل أبيب” إلى إنفاذه في غزة.

وعلى مدار أشهر الحرب، اصطدمت المحاولات الرامية إلى بناء نموذج حكم بديل في القطاع كافةً بصلابة البنية المجتمعية، وتماسك القوى الوطنية والإسلامية، ورفض الشارع الغزي لأية مقاربة تتقاطع مع أهداف الاحتلال. ومع هذا الفشل، اتجهت السياسات الإسرائيلية نحو أدوات أكثر عدوانية، أبرزها استخدام سلاح التجويع كأداة هندسة مجتمعية، لتوجيه سلوك السكان وفرض مسارات سياسية إجبارية.

يتقاطع هذا التوجه مع ما تُعرف به نظريات ما بعد الاستعمار، خصوصًا “نظرية التحديث القسري”، التي تفترض أن القوى الاستعمارية، حين تعجز عن إخضاع الشعوب بالسلاح، تلجأ إلى الهيمنة الناعمة، عبر إعادة تشكيل القيم والأولويات، وتحويل البقاء إلى امتياز مشروط، يُمنَح وفق معايير تتوافق مع أجندتها السياسية والأمنية.

وفي هذا السياق، كشفت وكالة “رويترز” عن ملامح خطة أميركية–إسرائيلية تُحضَّر داخل البيت الأبيض، تتعلق بـ”اليوم التالي” للحرب في غزة. وتشير التسريبات إلى إمكانية تشكيل سلطة انتقالية مؤقتة تتولى إدارة القطاع، على أن تتبع مباشرة للإدارة الأمريكية، ويُحتمل أن يرأسها مسؤول أمريكي، وتكون مهمتها المركزية إدارة شؤون غزة إلى حين نزع سلاحها بالكامل، وتهيئة الظروف لظهور إدارة فلسطينية “جديدة”، تتماشى مع “المعطيات الميدانية الجديدة”.

وحسب المصادر ذاتها، لا تتضمن الخطة أي سقف زمني واضح لهذه الحكومة الانتقالية، ما يفتح الباب أمام استمرارها لفترة طويلة، في حال لم تتحقق الشروط السياسية والأمنية التي تراها واشنطن ضرورية.

وانطلاقًا من هذا التصور، فإن إنشاء مؤسسة أمريكية تتولى إدارة المساعدات بشكل مباشر، ويرأسها جمهوري مقرَّب من مراكز القرار، ويعمل على التواصل الميداني مع السكان وفرزهم وفق معايير خاصة، يمكن عدُّه خطوةً تنفيذيةً متدرجةً قد تمهِّد لتحويل هذه المؤسسة إلى النواة الإدارية الأولى في نموذج “الحكم البديل”، كما تتصوره الإدارة الأمريكية ضمن مشروع إعادة هندسة “اليوم التالي” في قطاع غزة.

توسيع العدوان بدلًا من إنهائه 

لا يمكن فصل التسارع الأمريكي في إعلان الخطة الجديدة للمساعدات عن مسار التصعيد الإسرائيلي المتسارع، كما أقرَّه المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية (الكابينت)، الذي صادق مؤخرًا على خطة عدوانية واسعة تُعرف باسم “عربات جدعون“، وتهدف إلى إعادة احتلال قطاع غزة بالكامل عبر اجتياح عسكري شامل يُدمِّر ما تبقَّى من مقومات الحياة فيه.

في هذا السياق، يأتي الحديث الأمريكي عن خطة لتوزيع المساعدات بعد أشهر من الحصار الخانق والتجويع الممنهج، ليُشكِّل امتدادًا لسياسات التصعيد لا تراجعًا عنها. 

فالخطة تعني، بوضوح، أن الولايات المتحدة لا تتوقع نهاية قريبة للحرب، وأن ما يُطرَح من مبادرات تفاوضية ليس سوى محاولات لشراء الوقت، وذر للرماد في العيون، في ظل سعي أمريكي–إسرائيلي مشترك إلى تعظيم المكاسب، لا سيما فيما يتعلق بملف الأسرى، دون تقديم مسار جدي لإنهاء العدوان.

يعيد هذا السلوك إلى الأذهان ما فعلته إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن قبيل اجتياح رفح، حين ادعت دور “الوسيط الحريص”، وقدمت ما عُرف لاحقًا بـ”مقترح بايدن” لإنهاء الحرب، بينما كانت تدشِّن على الأرض مشروع “الميناء البحري المؤقت” على شواطئ غزة، بهدف امتصاص النقد الأخلاقي الموجَّه ضد سيطرة الاحتلال على معبر رفح. 

لكن في الواقع، شكَّل الميناء تغطيةً أمريكيةً ضمنيةً للاجتياح، الذي ما يزال مستمرًا منذ عام كامل، دون أي انسحاب لقوات الاحتلال حتى في خلال فترات التهدئة.

وبالمنطق ذاته، تمثِّل الخطة الأمريكية الجديدة تماهيًا صريحًا مع النوايا الإسرائيلية لتوسيع العدوان، وتؤكد انخراط واشنطن في توفير الغطاء السياسي والعملياتي له، إلى جانب سعيها إلى تجنيب نفسها المأزق الأخلاقي الناجم عن دعم حرب إبادة.

كما أن تولِّي واشنطن المباشر لإدارة المساعدات، بعيدًا عن المؤسسات الدولية والمجتمع المدني الفلسطيني، يفتح المجال أمام تطبيق الخطط الإسرائيلية الرامية إلى تفكيك النسيج الجغرافي والسكاني لقطاع غزة، عبر دفع السكان قسرًا نحو مراكز توزيع محددة تُحوَّل تدريجيًّا إلى مخيمات مغلقة، أو “سجون إنسانية” كبرى، كما وصفها الإعلام العبري. وتأتي النية المعلَنة لتحويل مدينة رفح إلى أكبر هذه المخيمات لتكون مؤشرًا صارخًا على هذه المقاربة الخطيرة.

وعليه، فإن الخطة الأمريكية، على الرغم من تغليفها بالشعارات الإنسانية، تُعد امتدادًا بنيويًّا لمشروع الحرب المستمرة ضد الشعب الفلسطيني في غزة. وهي، عمليًّا، أداة استراتيجية لتكريس واقع التهجير والتدمير، واستكمال المشروع الذي تبنَّاه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي ما يزال يُشار إليه في الأروقة الإسرائيلية بوصفه مرجعيةً لشكل إنهاء الحرب عبر إفراغ قطاع غزة من سكانه.