اشتباكات في طرابلس.. شبح الفوضى يخيم مجددًا على المشهد الليبي

دخلت العاصمة الليبية طرابلس، خلال الأيام القليلة الماضية، نفقًا مظلمًا على وقع التوترات الأمنية التي شهدتها جراء الاشتباكات بين عدد من التنظيمات المسلحة ووزاتي الدفاع والداخلية، في مناطق عين زارة، ورأس حسن، وبن عاشور، وأسفرت عن مقتل قائد “جهاز دعم الاستقرار” التابع للمجلس الرئاسي الليبي، عبد الغني الككلي المعروف بـ”غنيوة”.
ونتيجة لتلك الاشتباكات المتصاعدة والتي أسفرت عن مقتل نحو 56 شخصًا، قررت السلطات تحويل جميع الرحلات القادمة إلى مطار معيتيقة الدولي (شرقي العاصمة طرابلس) إلى مطار مصراتة الدولي، فيما أعلن الهلال الأحمر الليبي عن رفع حالة التأهب في طرابلس إلى الدرجة القصوى، وعلقت جامعة طرابلس ووزارة التعليم العالي الدراسة حتى عودة الاستقرار، وقررت 4 بلديات في العاصمة تعليق العمل والدراسة.
وكانت وزارتا الدفاع والداخلية قد أعلنتا الثلاثاء 13 مايو/أيار الجاري استعادة السيطرة على الأوضاع وعودة الهدوء إلى طرابلس، فيما كشف رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة، تمكّن الوزارتين من بسط الأمن في العاصمة، موجها التحية لهما ولجميع منتسبي الجيش والشرطة على ما حققوه من إنجاز كبير في بسط الأمن وفرض سلطة الدولة في العاصمة، كما غرد على حسابه على منصات التواصل الاجتماعي.
أُحيي وزارتي الداخلية والدفاع، وجميع منتسبي الجيش والشرطة، على ما حققوه من إنجاز كبير في بسط الأمن وفرض سلطة الدولة في العاصمة.
إن ما تحقق اليوم يؤكد أن المؤسسات النظامية قادرة على حماية الوطن وحفظ كرامة المواطنين، ويُشكل خطوة حاسمة نحو إنهاء المجموعات غير النظامية، وترسيخ مبدأ…
— عبدالحميد الدبيبة Abdulhamid AlDabaiba (@Dabaibahamid) May 13, 2025
غير أنه وبعد صبيحة اليوم التالي، الأربعاء، تجددت الاشتباكات مرة أخرى بين قوات تابعة لحكومة الوحدة الوطنية من جانب، وقوات جهاز الردع وقوات من المنطقة الغربية داعمة لها من جانب آخر، مما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى وخسائر في الممتلكات العامة والخاصة، وسط تحذيرات أممية من مغبة التصعيد المسلح المستمر في طرابلس، والدعوة لاحتوائه قبل أن يتطور إلى أبعاد ومساحات أخرى في الغرب الليبي.
ويعد جهاز “دعم الاستقرار” التابع اسميًا للمجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي، والذي قُتل قائده في تلك الاشتباكات، من أبرز الكيانات المسلحة في الغرب الليبي والتي تفرض سلطتها بالقوة على العديد من المقار الحكومية والحيوية التي يفترض خضوعها لإشراف وإدارة وزارتي الداخلية والدفاع، ووفق مراقبين فإن هذا التشكيل بات يمثل تهديدًا مباشرًا لسلطة الدولة ويقوض قدراتها على فرض النفوذ على المقرات الهامة.
الفوضى تتصاعد مجددًا
الاشتباكات أثارت حالة من الذعر بين سكان طرابلس والمناطق المحيطة خاصة بعد فرار عدد من السجناء من سجن الحديدة بالعاصمة، وفق البيان الصادر عن جهاز الشرطة القضائية في ليبيا، أمس الأربعاء، لافتة أن “تجدُّد الاشتباكات العنيفة أمام، وفي محيط، سجن الحديدة في العاصمة طرابلس، تسبب في حالة من الرعب والفزع لدى النزلاء، ما أدى إلى هروب عدد كبير منهم من داخل السجن”.
البيان أفاد بأن “معظم الفارين من ذوي الأحكام الثقيلة والقضايا الجنائية الخطيرة”، وحذّر من أن “استمرار الاشتباكات سيؤدي إلى عواقب وخيمة وكارثية تهدّد أمن واستقرار مدينة طرابلس”، حيث شهدت العاصمة خلال الساعات الماضية ما يشبه حرب شوارع دفعت الكثير من السكان للنزوح نحو مدن أخرى مثل مصراته وغيرها.
وكانت تشكيلات مسلحة، قادمة من مدينة الزاوية لدعم جهاز الردع، قد هاجمت خلال الساعات الماضية، قوات الدبيبة غرب طرابلس، وحاصرت مقر “اللواء 444” بـمعسكر التكبالي، فيما اندلعت معارك كر وفر بين اللواء والقوات المساندة له، وعناصر جهاز الردع، التي استعادت أغلب مقراتها، وأعادت انتشارها في عدة مواقع بعد هجوم على سوق الجمعة، قوبل بدعم من مواطنين أغلقوا الطرقات لدعم قوة الردع، هذا في الوقت الذي سيطرت فيه قوات الجهاز على مقر المخابرات الليبية، بينما انسحب “اللواء 444” من حي الأندلس، بعد اشتباكات بالأسلحة الثقيلة في جزيرة سوق الثلاثاء، وشارع عمر المختار.
من جانبه حذر رئيس المجلس الرئاسي الليبي، محمد المنفي، من عودة شبح الفوضى مرة أخرى، مطالبًا في حديث لـ “الجزيرة” بوجوب توحيد الجبهة الداخلية والالتفاف حول مشروع وطني يقطع الطريق أمام أي انفلات، مشددا على أن الوقت الراهن يتطلب أعلى درجات الحكمة والانضباط الوطني، مشددًا على أن الحفاظ على السلم الاجتماعي بالعاصمة مسؤولية جماعية لا يمكن التفريط فيها.
وكان وفد من منطقة سوق الجمعة بالعاصمة طرابلس، ضم أعضاء من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة وأعيانا، قد تم تشكيله مؤخرًا كان قد توجه إلى رئيس المجلس الرئاسي معبرًا عن استيائه مما وصفها بالقرارات الانتقائية الصادرة عن رئيس الحكومة، لافتًا أنها تمس بشكل مباشر أجهزة أمنية منضبطة وفاعلة في سوق الجمعة، مطالبًا بوقف ما اعتبروه انحرافًا عن المسار الوطني واستغلالا للنفوذ التنفيذي لأغراض تصفية حسابات سياسية.
ما السبب وراء هذا التصعيد؟
انطلقت شرارة التصعيد بعد اقتحام “جهاز دعم الاستقرار” مقر “مؤسسة الاتصال الليبية” والاعتداء على رئيسها، بزعم أن المؤسسة تتجسس على اتصالات ومكالمات قائد الجهاز عبدالغني الككلي، لصالح جهات عسكرية تابعة لحكومة الوحدة الوطنية، وذلك بعدما أثير حول علاقات مشبوهة بين الككلي والمشير متقاعد خليفة حفتر، والترتيب للقيام بانقلاب ضد حكومة الدبيبة في طرابلس.
ورغم عدم وجود أدلة كافية لإثبات تلك العلاقات إلا أن صورًا قد نٌشرت الشهر الماضي على منصات التواصل الاجتماعي تكشف لقاء الككلي ببعض العناصر التابعة لقوات حفتر، وهو ما أثار جدلا واسع النطاق حينها حول دوافع هذا اللقاء والهدف من فتح قنوات اتصال مع حفتر وقواته، ما عزز من الشكوك، في وقت تعاني فيه الساحة الليبية من تآكل الثقة بين حكومتي الشرق والغرب وحالة التربص على تهيمن على الأجواء.
ومنذ عام 2016 وتعاني الساحة الطرابلسية من تعدد التنظيمات المسلحة، حيث يسيطر كل تشكيل على منطقة معينة، فيما كان “جهاز دعم الاستقرار” صاحب الكلمة العليا في هذا التنافس، حيث هيمن على منطقة أبو سليم بالعاصمة، هذا بخلاف “قوات الردع الخاصة” التي تعرف بـ”الردع” التي يتزعمها عبدالرؤوف كاره، والتي تسيطر على منطقة سوق الجمعة بطرابلس.
هناك أيضًا قوات “اللواء 444” التي يقودها محمود حمزة، والتي كانت تعاني علاقاتها مع “قوة الردع” من توترات شديدة خلال الآونة الأخيرة، خاصة وأنها تتمركز كذلك في منطقة سوق الجمعة، ليصبح الثلاثي، الككلي وكاره وحمزة الشخصيات الأمنية الأكثر تأثيرًا في طرابلس بجانب وزير الداخلية عماد طرابلسي.
وفي ظل صراع النفوذ بين تلك التشكيلات ذات الحواضن الداعمة المختلفة، تفاقمت الخلافات التي خيمت على مكونات المشهدين، السياسي والأمني، خاصة في مدينة طرابلس، وسط تبادل الاتهامات بمساعي كل فصيل الاستئثار بالسلطة والهيمنة على أكبر قدر ممكن من مؤسسات الدولة.
مخاوف الانزلاق
مما يعزز من مخاوف الانزلاق نحو آتون الصدام وتراجع احتمالات التهدئة حجم القوة العسكرية التي يتمتع به “جهاز دعم الاستقرار” مقارنة بالتنظيمات الأخرى، إذ يُعد من أقوى التشكيلات المسلحة في غرب ليبيا بصفة عامة، ومن ثم فإن التعامل معه بمنطق القوة العسكرية قد يأتي بنتائج عكسية تُزيد حدة التوتير وتنذر باشتباكات أكثر عنفًا ودموية.
وهناك أصوات في الداخل الليبي ترى أن مقتل قائد الجهاز لا يكفي لتحييده وإبعاده عن الساحة بشكل كامل، فيما يذهب أخرون إلى أن ما حدث ربما يغذي روح الانتقام مما ينذر بكوارث صدامية مع بقية التنظيمات الأخرى، خاصة المنضوية تحت لواء وزارتي الدفاع والداخلية، مما يحول المشهد إلى حرب مفتوحة بين الحكومة والكيانات المسلحة.
ومثل تلك الحرب لا يمكن التنبؤ بمآلاتها إذ تتداخل في تكييفها وحسمها وسيناريوهاتها المستقبلية العديد من العوامل الداخلية والخارجية، خاصة إذا ما دخلت قوات حفتر على خط الأزمة، كون أن الككلي قُتل في الأساس بسبب علاقاته بالمشير وتشكيلاته، فيما تتناثر بعض الأنباء عن دعوات للاستعانة بقوات المشير في تلك الأزمة، ما يعيد الأمور إلى نقطة الصفر مرة أخرى ويقوض سلطة الحكومة المعترف بها دوليًا.
وفي الأخير فإن ما حدث يتطلب قرارًا سياسيًا حاسمًا، يٌجبر الجميع على الجلوس والانصياع لمصالح الدولة بعيدًا عن أي توازنات أو تقاسم لكعكة السلطة التي يجب أن تكون بقبضة الحكومة المعترف بها أمميًا، فالاندماج في بوتقة القوات الحكومية كما كان عليه الوضع قبل 2016 هو الحل الوحيد للخروج من هذا المأزق قبل انفلات الوضع والوصول إلى طريق مسدود يصعب معه العودة مجددًا.