المسيّرات تفضح صراع الظلال بين تركيا والإمارات في السودان

ترجمة وتحرير: نون بوست

تكشف الضربات الجوية الأخيرة في السودان باستخدام الطائرات المسيّرة عن تصاعد التنافس الإقليمي بين دولة الإمارات العربية المتحدة وتركيا، اللتين تدعمان طرفين متحاربين في النزاع الدامي المستمر منذ نيسان/أبريل 2023.

وقد دأب مسؤولون في الحكومة السودانية المدعومة من الجيش على مراقبة تحركات قوات الدعم السريع لعدة أشهر، إذ كانت تُسيّر طائرات شحن عسكرية من مطار نيالا في جنوب دارفور.

واستهدفت القوات المسلحة السودانية المطار مرارًا، بعدما راودتها الشكوك بأن الإمارات تستغل شبكة قواعدها الجوية في المنطقة — ومن ضمنها قواعد في أوغندا وبونتلاند، الإقليم شبه المستقل في الصومال — لتزويد قوات الدعم السريع بأسلحة متقدمة، وطائرات مسيّرة قتالية، وذخائر.

وقد أكدت هذه الشبهات تقارير صادرة عن جهات رقابية مستقلة، من بينها مختبر الأبحاث الإنسانية في جامعة ييل، الذي أفاد بوصول طائرات مسيّرة صينية الصنع، من طراز يُطابق “إف إتش-95″، اشترتها الإمارات، إلى مطار نيالا.

وفي الأسبوع الماضي، كشفت منظمة العفو الدولية أن الإمارات تواصل إرسال أسلحة صينية إلى دارفور، تشمل قنابل موجهة من طراز “جي بي 50 إيه”، ومدافع هاوتزر من عيار 155 ملم، رغم سريان حظر أممي مفروض على تصدير السلاح إلى السودان.

ورغم هذه التقارير، ما تزال الإمارات تنفي أي تدخل لها في النزاع، إذ صرّح متحدث باسمها قائلاً: “تجدد دولة الإمارات موقفها الثابت والواضح: لا تقدم أي دعم عسكري أو تسليحي لأي من الأطراف المتقاتلة في السودان”.

وفي وقت سابق من هذا العام، تمكنت القوات المسلحة السودانية من قلب موازين المعركة لصالحها، بعدما استعادت السيطرة على العاصمة الخرطوم، وكسرت الحصار عن مدينة الأبيض الإستراتيجية، وبسطت نفوذها على مناطق في وسط البلاد وجنوبها، وذلك بدعم من طائرات بيرقدار المسيّرة التي سلّمتها تركيا للجيش السوداني العام الماضي.

وفي الثالث من أيار/مايو، نفذت هذه الطائرات المسيّرة، التي يُشغّلها عناصر أتراك يقاتلون إلى جانب الجيش السوداني في بورتسودان، غارة استهدفت طائرة شحن عسكرية في مطار نيالا، يُشتبه بأنها كانت تقل طائرات مسيّرة انتحارية، وذخائر، ومنظومات رادار عسكري.

ورغم احتفاء المسؤولين والضباط السودانيين بهذه الضربة، فلم يكونوا على دراية بأنها ستؤدي إلى تصعيد جديد بين تركيا والإمارات، هو الأول من نوعه منذ سنة 2021.

وأفادت مصادر محلية مطلعة لموقع “ميدل إيست آي” بأن الهجوم أسفر عن مقتل أو إصابة عدد كبير من عناصر الدعم السريع، إضافة إلى أجانب، من بينهم إماراتيون، نُقلوا إلى المستشفى التركي في المدينة.

وأشار تقرير محلي إلى أن الغارة أودت بحياة ما لا يقل عن 70 من مقاتلي الدعم السريع، كانوا في طريقهم لتلقي العلاج خارج السودان، فضلًا عن 18 أجنبيًا من جنسيات أوروبية وأفريقية وعربية. كما أوردت وسائل إعلام محلية مقتل طيارين أحدهما كيني والآخر من جنوب السودان.

ووفقًا لمصادر أمنية إقليمية تحدّثت إلى الموقع، فإن المرتزقة الذين يقاتلون في صفوف الدعم السريع يُنقلون حاليًا من وإلى إفريقيا عبر ميناء بوصاصو في إقليم بونتلاند الصومالي.

ضربات على بورتسودان

وجاء الرد على ضربة نيالا بعد يوم واحد فقط؛ فقد شهدت مدينة بورتسودان، التي تتخذها الحكومة مقرًا لها منذ اندلاع القتال في الخرطوم عام 2023، سلسلة من الضربات الدقيقة استمرت على مدار ثلاثة أيام. ولم تتوقف الهجمات عند هذا الحد، بل تواصلت بعد الموجة الأولى، ولم تبدأ بالانحسار إلا صباح يوم الأربعاء، بعد عشرة أيام من بدايتها.

واستهدفت الضربات مطار السودان الدولي الوحيد، وقاعدة جوية عسكرية، ومحطة الحاويات الجنوبية في الميناء – التي تُعد الشريان الرئيسي للمساعدات الإنسانية – بالإضافة إلى فندق كان يؤوي دبلوماسيين سعوديين ومصريين.

وتسبّبت الغارات في حرائق ضخمة عقب قصف مستودعات الوقود، فغرقَت سماء المدينة بالدخان الأسود. كما انقطعت الكهرباء بالكامل إثر تدمير محطة توليد رئيسية، ما أدى إلى توقف المدارس والمخابز وتعطّل الخدمات الأساسية.

وقالت السيدة عايدة السيد عبد الله، الأمينة العامة لجمعية الهلال الأحمر السوداني، لموقع “ميدل إيست آي”: “إن استهداف البنية التحتية المدنية، كمحطات الكهرباء والمطارات غير العسكرية، يعيق جهود متطوعينا في إغاثة المجتمعات المتضررة، ويزيد من التحديات في إيصال الغذاء والماء النظيف والرعاية الصحية”.

وأكدت مصادر دبلوماسية سودانية وأوروبية أن الغارات نُفّذت بتخطيط مباشر من دولة الإمارات العربية المتحدة، وليس من قيادة قوات الدعم السريع، رغم أن أبو ظبي سارعت إلى إدانتها بشدة.

ونقل مصدران مطلعان للموقع أن الهجمات أدت إلى إصابة عدد من أفراد الطاقم الفني التركي، الذين كانوا يقدّمون الدعم للجيش السوداني في تشغيل الطائرات المسيّرة.

وفي أعقاب الضربات الأولى على بورتسودان، أرسلت تركيا طائرة إسعاف جوية يوم الأحد لإجلاء المصابين من فريقها.

ورغم عدم إعلان قوات الدعم السريع مسؤوليتها عن الهجوم، فإن الإمارات سارعت إلى التنديد به، بينما ردّت الحكومة السودانية بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع أبو ظبي في خطوة حاسمة تعكس تصاعد التوتر بين الطرفين.

حرب إقليمية

وخلال جلسة عقدها البرلمان البريطاني يوم الإثنين، صرّح بابكر الأمين، سفير السودان لدى المملكة المتحدة، بأن “قوات الدعم السريع، وراعيها الخارجي الإمارات، تواصلان تنفيذ أجندة أنانية وغير مشروعة، بعنادٍ بالغ وصل حدّ التوحش والإرهاب”.

وأضاف الأمين: “كان من الممكن، حتى وقت قريب، اعتبار هذا الصراع حربًا بالوكالة، لكنه انزلق الآن إلى منعطف خطير يهدد بتحوله إلى حرب إقليمية، في ظل التدخل المباشر للإمارات، الذي لم يعد خافيًا على أحد”.

وأشار السفير إلى أن الإمارات زودت قوات الدعم السريع “بمركبات مدرعة فرنسية، ومدفعية ثقيلة، وطائرات مسيّرة حصلت عليها من صربيا وبلغاريا والصين”، مؤكدًا في المقابل أن الجيش السوداني يتلقى دعمًا من جهات خارجية، من بينها تركيا.

من جانبه، قال جلال حرشاوي، الباحث المشارك في المعهد الملكي للخدمات المتحدة للدراسات الدفاعية والأمنية: “من المرجح أن الإمارات أشرفت على جميع جوانب الهجمات على بورتسودان. أعتقد أنها تخوض الآن حملة انتقامية ذات طابع شخصي”.

وبحسب مصادر دبلوماسية سودانية وغربية تحدثت لموقع ميدل إيست آي، فقد جاء الرد العنيف على هجمات بورتسودان نتيجة قناعة راسخة بأن الضربة نُسّقت من أبو ظبي. وأضافت المصادر أن الإمارات، الغاضبة من الهجوم على مطار نيالا والاشتباه في تورط تركي فيه، أعطت الضوء الأخضر ونفذت الهجوم على بورتسودان.

وتدور نظريتان رئيسيتان حول مصدر الطائرات المسيّرة التي استهدفت بورتسودان؛ فقد أفادت ثلاثة مصادر سودانية لميدل إيست آي بأن الطائرات المسيّرة “الانتحارية” شغّلتها الإمارات، وقد تكون انطلقت من مدينة بوصاصو الصومالية. فيما أفاد شهود عيان في بورتسودان بأن الطائرات دخلت من جهة البحر الأحمر.

غير أن مصدرًا سودانيًا آخر ومحللاً عسكريًا غربيًا رجّحا أن تكون الطائرات قد انطلقت من منطقة المالحة بشمال دارفور، الواقعة تحت سيطرة قوات الدعم السريع، والقريبة من الحدود الليبية.

وتجدر الإشارة إلى أن طائرات “صن فلاور-200” الصينية الصنع — المعروفة باسم “الانتحارية” أو “الكاميكازي” — يبلغ مداها 2000 كيلومتر، ما يعني أن المسافة من بوصاصو، التي تبلغ نحو 1800 كيلومتر، تقع ضمن نطاق عملياتها.

تصاعد التوتر بين تركيا والإمارات

وأدى الهجوم على مدينة بورتسودان، التي تُعد العاصمة الفعلية للسودان في الوقت الراهن وكانت من أكثر مناطقه أمنًا، إلى تصاعد حدة التوتر بين تركيا والإمارات، لا سيما بعد تدمير حظائر عسكرية يُعتقد أنها كانت تضم طائرات مسيّرة تركية الصنع.

وكانت أبو ظبي قد أبدت انزعاجها منذ البداية من التدخل التركي في الحرب. وترجّح مصادر عديدة في أنقرة أن عملية الاختراق التي أدت إلى تسريب ضخم نُشر في صحيفة واشنطن بوست خلال آذار/ مارس الماضي، وكشف تفاصيل صفقة تسليح تركية كبيرة مع السودان، كانت من تنفيذ جهات إماراتية.

وقد تضمن التقرير معلومات دقيقة، من بينها مراسلات بين مسؤولي شركة تركية في السودان ونظرائهم في أنقرة، بالإضافة إلى بيانات حساسة مثل تفاصيل العقود.

وليست هذه المرة الأولى التي يشهد فيها الطرفان حالة من التوتر.

ففي ليبيا عام 2020، اصطدمت مصالح البلدين عندما دعمت أنقرة حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا في الغرب، بينما دعمت أبو ظبي قوات القائد خليفة حفتر في الشرق.

وقد اعتمدت الإمارات على خطوط إمداد تابعة لحفتر لتقديم الدعم لقوات الدعم السريع في السودان، بينما تمكنت تركيا من التصدي لهجوم حفتر بفضل الطائرات المسيّرة من طراز “بيرقدار TB2″، وهي نفسها الطائرات المستخدمة حاليًا في السودان.

فيدان يلتقي محمد بن زايد

في 5 أيار/ مايو، وبينما كانت الطائرات المسيّرة تُهاجم مدينة بورتسودان، كان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان يلتقي في أبو ظبي بمحمد بن زايد، حاكم دولة الإمارات.

ووفقًا لمصادر مطلعة على تفاصيل اللقاء، فقد جاءت المحادثات في إطار جهود لخفض التوتر بين الطرفين.

وقال مصدر تركي لموقع ميدل إيست آي إن أنقرة حاولت في البداية الحفاظ على حيادها في الصراع الدائر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، الصراع الذي أودى بحياة الآلاف وأدى، حسب الأمم المتحدة، إلى أكبر كارثة إنسانية في العالم.

وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد اقترح العام الماضي على قائد الجيش السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، أن يتوسط في إجراء محادثات بين السودان ومحمد بن زايد.

غير أن المصدر أضاف أن أنقرة، مع تصاعد الدعم الإماراتي لقوات الدعم السريع، قررت بدورها موازنة الوضع عبر تزويد الجيش السوداني بالسلاح.

وقد ارتكب طرفا النزاع في السودان انتهاكات جسيمة، غير أن الولايات المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان أكدت أن قوات الدعم السريع ارتكبت جرائم إبادة جماعية في دارفور، حيث تعرضت قبيلة المساليت لسلسلة من المجازر على يد تلك القوات.

وقال المصدر التركي: “في الوقت الراهن، توفر الإمارات كميات أكبر من الأسلحة”.

من جهته، نفى سالم الجابري، المتحدث باسم وزارة الخارجية الإماراتية، في بيان نشر على منصة إكس، بشكل قاطع تزويد بلاده لأي طرف في الصراع السوداني بالسلاح.

المصدر: ميدل إيست آي