“المستوطنون”: بي بي سي تكشف قبح الاستيطان وتغفل جذور الاستعمار الصهيوني

ترجمة وتحرير: نون بوست

ربما يكون لويس ثيرو من أبرز صناع الأفلام الوثائقية في بريطانيا، ويمثل فيلمه الجديد “المستوطنون” تعمقًا في حركة المستوطنين الصهاينة المتدينين المتطرفين في الضفة الغربية، ويتألف بشكل أساسي من مقابلات مع المستوطنين المذكورين.

وتعد صراحة الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات هي نقطة الارتكاز الرئيسية في الفيلم، الأمر الذي أثار ضجة كبيرة. وقد تراوحت ردود الفعل بين الإعجاب بتقنيات المقابلات والاتهامات المعتادة بالتحيز.

ومع ذلك، فإن الجدل بحد ذاته لا يُعد مؤشرًا مناسبًا على جودة الفيلم، إذ أن حتى أكثر الانتقادات هدوءًا للمجتمع الصهيوني تثير قدرًا كبيرًا من الغضب. فهل يمكن الحكم على الفيلم بناءً على مضمونه الفعلي؟ وهل يستحق المشاهدة؟

والإجابة المختصرة هي “نعم” بتحفّظ، ولكن تليها العديد من التحفظات والتوضيحات الجوهرية.

الوجه القبيح للاستعمار الاستيطاني

تكمن أعظم نقاط قوة الفيلم الوثائقي في أنه ببساطة أتاح للمستوطنين أن يتحدثوا بأنفسهم، ولم يكن على لويس ثيرو بحاجة لأن يحثهم أو يستفزهم بأسئلة موجهة أو ينصب لهم فخاخًا بلاغية؛ فقد كانوا على استعداد تام لمشاركة آرائهم البغيضة.

هناك صدق مشوَّه، وإن كان مثيرًا نوعًا ما، في خطاب الصهاينة اليمينيين؛ فهم لا يحاولون تمويه أهدافهم أو أفعالهم بندم زائف أو شفقة مصطنعة، وهي الظاهرة المعروفة بـ”يقتلون ويبكون”، فهم يقولون بصراحة إن الفلسطينيين دون البشر ويجب إخضاعهم أو طردهم أو إخفاؤهم بأي وسيلة. ويقول أحد الحاخامات المستوطنين في الفيلم إن كامل المنطقة الممتدة من سيناء إلى لبنان هي أرض يهودية ويجب انتزاعها بالقوة من “راكبي الجِمال”.

وفي الواقع، لو كنا نحن من نسبنا إلى هؤلاء المستوطنين الآراء التي يعلنونها بفخر في هذا الوثائقي، لاتُّهِمنا بمعاداة السامية وإثارة الفِرية الدموية. ومع ذلك، فإن السهولة والراحة التي عبّروا بها عن آرائهم على هذا النحو الوقح تكشف إلى أي حد أصبحت هذه الأفكار طبيعية بالنسبة لهم، فلم يكن هناك أي تردد أو خوف، ولقد كانوا يعلمون أنه مسموح لهم، بل ويتم تشجيعهم، على بثّ كراهيتهم على التعبير عن كراهيتهم وقوميتهم العرقية الإبادية والتصرف بناءً عليها، وهذا هو نتاج عقودٍ من الإفلات من العقاب والدعم الحكومي والحماية.

إحدى الشخصيات المثيرة للاشمئزاز التي تفاعل معها ثيرو هي دانييلا فايس، التي تُلقب غالبًا بـ”عرّابة الحركة الاستيطانية”، فقد أمضت فايس حياتها كلها في إنشاء مستوطنات جديدة في فلسطين ودعم توسّعها، وتباهت بعلاقاتها في الحكومة، وأوضحت أنها، خلافًا للروايات السائدة، لم تكن في صراع مع السلطات، بل كانت تقوم “بما تعجز الحكومات عن فعله بنفسها”، على حد تعبيرها.

وتتوافق تصريحات فايس تاريخيًا مع الطريقة التي عملت بها الحركة الاستيطانية كأداة لاحتلال فلسطين، فقد وفّرت غطاءً لإنكار المسؤولية عن الاستيلاء الإسرائيلي على الأراضي، من خلال الاستيلاء على أراضٍ بطريقة تبدو في البداية “غير رسمية”، حيث تُنشأ البؤر الاستيطانية تحت حماية الجيش، ثم يُمنح لها لاحقًا الاعتراف القانوني لتصبح أمرًا واقعًا.

أما اليوم، فلم تعد هناك حاجة لهذه المسرحيات، إذ بات بإمكان المستوطنين احتلال ما يشاؤون من أراضٍ بدعم علني من الحكومة. وتُظهر إحدى المشاهد الأولى في الفيلم الوثائقي إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي، وهو يشارك في احتفال للمستوطنين ويدعو إلى إعادة احتلال قطاع غزة.

وتُبرز جولات ثيرو عبر الضفة الغربية كيف أن شبح الضم الذي يُفترض أنه مثير للقلق، قد أصبح واقعًا قائمًا بالفعل، فالمستوطنون القادمون من بروكلين وتكساس، والمتحدثون بلكنة أمريكية واضحة، يؤكدون جميعًا أن ثيرو يقف على أرض يهودية وإسرائيلية.

ويأتي ذلك ضمن تقليد إسرائيلي طويل في تغيير الوضع القائم فعليًا قبل إضفاء الطابع القانوني الرسمي على الترتيبات الجديدة. ويُعد ضم القدس والاستيلاء على الأراضي المصاحبيْن لبناء جدار الفصل مثالين بارزين على ذلك. ويُظهر الفيلم، بما لا يدع مجالًا للشك، أن هناك سلطة واحدة فعلية تمتد من النهر إلى البحر.

إغفال الصورة الأكبر

وعلى الرغم من أن الفيلم الوثائقي يبرع في إظهار الوجه القبيح للحركة الاستيطانية، إلا أنه كان بإمكانه أن يفعل ما هو أفضل من ذلك لوضعها في سياقها التاريخي الصحيح؛ حيث يترك لدى المشاهدين انطباعًا بأن هذه حركة هامشية مع بعض المؤيدين المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية الحالية، وليس موقفًا سائدًا بين الإسرائيليين.

إن أكثر من 10 بالمائة من السكان اليهود في إسرائيل هم من المستوطنين في الضفة الغربية، كما أن 62 بالمائة من اليهود الإسرائيليين لا يعتبرون الضفة الغربية أرضًا محتلة أصلًا. ولا يعني عدم مشاركة الكثيرين منهم في نصب الكرافانات للاستيلاء على التلال أنهم لا يدعمون الآخرين الذين يقومون بذلك بدلاً منهم. حتى الساسة الذين يُصنفون كـ”وسطيين”، والذين طرحوا أنفسهم كبديل لنتنياهو، بنوا حملاتهم الانتخابية على وعود بضم المزيد من الأراضي في الضفة الغربية أكثر مما وعد به نتنياهو نفسه.

ويكمن الخطر في ربط المشروع الاستيطاني بالتيارات الدينية القومية المتطرفة، فهو مشروع استيطاني بحت بغض النظر عن التيار أو الأيديولوجيا. وكان المهندس الأصلي للمستوطنات في الضفة الغربية، ييغال ألون، صهيونيًا علمانيًا ينتمي إلى حزب العمل. كما يذكر ثيرو بشكل عابر وجود “المستوطنين الاقتصاديين” الذين يشكلون جزءًا من سكان المستوطنات في الضفة الغربية، ويجذبهم الدعم الحكومي السخي والمزايا الأخرى.

وعندما تُقام نقاط تمركز أو مستوطنات جديدة، فإن ذلك يعني بناء قواعد عسكرية وطرقًا وبُنى تحتية. ويعني أيضًا تطويق الفلسطينيين وعزلهم عن أراضيهم ومزارعهم، وفرض حصار على مجتمعاتهم. ويستفيد جميع المستوطنين من هذه الإجراءات، بغض النظر عن دوافعهم للعيش في هذه المستعمرات أو ميولهم السياسية.

ومثل معظم الأفلام الوثائقية عن فلسطين، خصوصًا تلك التي يُنتجها غير الفلسطينيين، يعاني الفيلم من “الغموض الذي يحيط حرب 1967” – أي التركيز المفرط على الاحتلال الذي أعقب حرب 1967، دون النظر إليه كامتداد منطقي للاستعمار الاستيطاني الصهيوني الذي بدأ في مطلع القرن، ولم تُذكر النكبة إطلاقًا.

وبالتالي، فشل الفيلم في ربط احتلال أراضي سنة 1967 باحتلال أراضي سنة 1948. وما يزيد الإحباط هو أن فايس أشارت إلى هذا الأمر بشكل عابر، مؤكدة أن المشروع الاستيطاني هو في جوهره وجه الصهيونية والآلية التي تأسست من خلالها الدولة الصهيونية. ومن المؤسف أن هذا الأمر لم يُفصل أو يُناقش بأي شكل من الأشكال في الفيلم.

وبالفعل، يعود الفضل في سرعة وفعالية الاحتلال سنة 1967 بشكل رئيسي إلى نفس أنظمة الهيمنة التي كانت موجودة داخل الخط الأخضروالتي استُخدمت ضد السكان الفلسطينيين الباقين هناك. ولا يوجد أي سبب يجعل سديروت داخل الخط الأخضر تُعامل أخلاقيًا أو ماديًا بشكل مختلف عن بركان في الضفة الغربية. فكلاهما نشأ من خلال الغزو العسكري والاستيلاء على الأراضي وتهجير السكان، وتستمر نفس بنية العنف والهيمنة في دعمهم حتى يومنا هذا.

بالنسبة للفلسطينيين، لا يوجد فرق عملي كبير بين قرية تم هدمها بأوامر عسكرية تمت الموافقة عليها إداريًا وقرية تم طرد سكانها على يد مستوطنين مسلحين. وقد يغيب هذا السياق عن فهم المشاهدين الذين يأملون في التعرف على حركة الاستيطان لأول مرة من خلال هذا الفيلم الوثائقي.

وتزداد خطورة هذا الأمر عندما ندرك أن هذا الإغفال لم يكن مجرد سهو، بل كان خيارًا متعمدًا من فريق الفيلم الوثائقي. ويوضح محمد حريني، أحد الفلسطينيين القلائل الذين مُنحوا وقتًا للحديث في الفيلم، كيف شرح هذا التاريخ والسياق النقدي لثيرو وطاقمه. وكون حريني ابنًا للاجئين الذين تم تعرضوا للتطهير العرقي في النكبة، ويواجه اليوم تهديدات بالطرد مجددًا، فإن التغطية على الأحداث الأخيرة مع تجاهل الأولى تجعل قصته ناقصة ومنفصلة عن سياقها الحقيقي. وهذا يقلصها إلى نزاع حقوقي عصري حول الملكية بدلًا من كونها إرثًا مستمرًا لتأسيس الدولة الصهيونية ومحو فلسطين. ولا يمكن إلا التكهن بسبب عدم اعتبار هذه المعلومات ضرورية لإيصالها للمشاهدين.

وربما أكثر ما لفت انتباهي بعد مشاهدة الفيلم هو الشعور المؤلم بتأخره الشديد، فقد كان بالإمكان إنتاجه في أي وقت خلال الخمسين سنة الماضية، ولم يكن شيء قد تغيّر جوهريًا، حتى دانييلا فايس كانت قادرة على إعادة تمثيل دورها الشهير. ولا شيء مما يتفاخر به المستوطنون، حتى أبشع أو أكثر التصريحات التي تنكر إنسانية الفلسطينيين، يختلف عما وثقه الفلسطينيون على مدار قرن كامل.

والحجة المعارضة، بالطبع، هي أن هناك فائدة في عرض هذا الخطاب الإبادي الصريح أمام جمهور واسع وغير مهيأ مسبقًا. ويُعرف ثيرو جيدًا ويحظى بدرجة معينة من المصداقية، مما يمكن أن يساعد في رفع مستوى الوعي.

ويبرز رد الفعل الغاضب من أنصار إسرائيل هذه النقطة، إذ لا يمكنهم تبرير الخطاب الاستعماري العنيف والمرفوض الذي يصورّه الفيلم. وبدلاً من ذلك، يحاولون تقليل حجم المشكلة، وهو حجة كان من الممكن للفيلم تفنيدها مسبقًا عبر وضع سياق أوسع. لقد قُتل الكثير من الفلسطينيين وسُلبت منهم أراضيهم، مؤخرًا وبشكل علني للغاية، بحيث لا يمكن الاستمرار في التظاهر بأن المشكلة تكمن فقط في أقلية متطرفة من المستوطنين الذين يجب مواجهتهم.

غير أن رفض الفيلم التام التعمق في جوهر الموضوع يكشف عن مشاكل أعمق في الطريقة التي لا يزال العالم يناقش بها قضية فلسطين، فهناك حدود واضحة لتطلعات الفلسطينيين وحقوقهم لا يمكن أن تتجاوز مستوى فتات المائدة الإسرائيلية. وتحت هذا السقف، يُسمح لنا بمناقشة الانتهاكات بشكل مجرد واللجوء إلى القانون الدولي. حتى إن العالم يسعده أحيانًا أن يشير إلى بعض المشاكل، بل إنه أحيانًا يستجمع الشجاعة لإدانتها. ومع ذلك، فإنه يرفض تسمية أصول هذه المشاكل أو اتخاذ إجراءات ملموسة حيالها.

لا شك أن هذا الفيلم سيعرّف جمهورًا جديدًا بالمشروع الاستيطاني في الضفة الغربية وفلسطين بشكل عام، ويمكن القول إن ذلك يعد مكسبًا خالصًا. ومع ذلك، يبقى من المحبط أنه بعد قرابة قرن من الاستعمار والاحتلال، وأكثر من 580 يومًا على وقوع إبادة جماعية، ما زلنا نخوض هذه النقاشات ذاتها، محاولين تصحيح الصورة في نقاش أحادي الجانب عقيم.

المصدر: موندويس