توازن الرعب بين الهند وباكستان.. من السباق النووي إلى تسليح المياه

وقفت الهند وباكستان مؤخرًا على حافة توترٍ متصاعد، وعملياتُ إطلاقِ نارٍ متبادلةٍ على الحدود هي الأحدثُ منذ نحو عقدين، عقب هجوم باهالغام المميت، الذي أدَّى إلى مقتل 24 شخصًا، وجرح العشرات، في الشطر الهندي من إقليم كشمير المتنازع عليه بين الدولتين منذ الاستقلال عن بريطانيا عام 1947، والذي تشترك الصين أيضًا في السيطرة على جزءٍ منه، ويمثل بالفعل واحدةً من أكثر المناطق عَسكَرةً في العالم.
أُغلقت الحدود والمعابر البرية والمجال الجوي، وطُرد الدبلوماسيون، وأُوقفت التجارة، وعلَّقت الهند العمل باتفاقية تقاسم مياه روافد نهر السند، وحوَّلتها إلى ورقة ضغط، مستغلةً أفضليتها في التحكم بموارد النهر المتدفق عبر أراضيها، وساد الاستنفار على جانبي الحدود، لكن الأسوأ جاء مع مشاركة أكثر من 100 مقاتلة من الجانبين في اشتباك جوي استمر لمدة ساعةٍ كاملةٍ، في معركةٍ وُصفت بـ”واحدةٍ من أضخم وأطول المعارك الجوية في تاريخ الطيران الحديث”.
وإلى جانب الخطورة التي يمثلها الاشتباك الباكستاني الهندي على دول الإقليم، سُمعت تردداتُ تداعياته غير المباشرة على مستوى العالم من الناحية العسكرية، بعدما بدأت الخطوط الحمراء تتلاشى، وصعَّد وزير الدفاع الباكستاني خواجة محمد آصف من لهجة التهديد بالرد بكل الوسائل المتاحة على أي هجومٍ هنديٍّ واسع، ملمحًا بوضوحٍ إلى احتمالية تحوُّل التوترات المتصاعدة إلى مواجهةٍ نوويةٍ من أجل كشمير ومياه السند.
في ظل هذه التلميحات التي لا تُقرأ إلا بلغة السلاح النووي، وعودة كابوس الحرب النووية ليُخيِّم على هذه البقعة من الأرض التي تغلي على صفيحٍ ساخن، وتحمل في طياتها إمكانيةَ تحوُّلِ الصراع إلى كارثةٍ عالمية، نستمر في عرض سلسلة من المقالات حول تاريخ البرنامج النووي وموازين القوى العسكرية في كلتا الدولتين، وصولًا إلى احتمالات خوضهما حربًا شاملةً فعليةً بسبب المياه، وتأثير ذلك على ميزان القوى الإقليمي والدولي.
الطريق إلى النووي
كانت الهند أولى الساعين لامتلاك نوعٍ من السلاح قادرٍ على مسح مدنٍ بأكملها، فبعد استقلالها بعامٍ، أصدرت دلهي قانون الطاقة الذرية، وشكلت في العام الذي تلاه لجنةً للطاقة النووية، وفي العام 1950 أنشأت وحدةَ أبحاثٍ لذات الأمر.
وفي عام 1954، تم إنشاء هيئة الطاقة الذرية الهندية، وبعدها بعامٍ واحدٍ فقط، أطلقت أولى مفاعلاتها النووية لأغراضٍ سلميةٍ، بمساعدةٍ فرنسيةٍ وبريطانيةٍ، وفي العام نفسه، أنشأت مفاعلًا آخرَ بمساعدةٍ من كندا.
وفي عام 1957، بنت مصنعًا لإنتاج اليورانيوم المخصب من خاماتٍ محليةٍ، ليأتي العام 1964 وتمتلك دلهي تكنولوجيا تصنيعٍ نوويٍّ، لتصمت 10 سنوات، قبل أن تُفاجِئ العالم والجميع بتفجير أولى صواريخها النووية، ولاحقًا، لتُطوِّر قدراتها أكثر.
وعن الدول التي دعمت الهند في رحلتها للنووي، فهي كثيرة، بدءًا من بريطانيا وفرنسا، ثم كندا والولايات المتحدة، وحتى الاتحاد السوفيتي وخليفته روسيا، فقد وقف الجميع وراء تدعيم برنامج دلهي النووي رغم مطالبتهم بتفكيكه، ولا يمكن إغفال دور “إسرائيل”، التي أصبحت حجر الزاوية في السياسة الخارجية للهند، التي تتقارب معاملتها لكشمير مع مشروع “إسرائيل” الاستعماري الاستيطاني في فلسطين.
في المقابل، تبدو رحلةُ باكستان نحو امتلاكِ سلاحٍ غيرِ تقليديٍّ يحميها من جارتها الكبرى أكثرَ صعوبةً، لكن لم يكن لديها خيارٌ آخر، فمنذ الاستقلال عن بريطانيا، خسرت ثلاثَ حروبٍ تقليديةٍ شاملةٍ مع الهند؛ انتهت الأولى بتقسيم كشمير عام 1949، ولم تُفلح الثانية عام 1965 في تغيير الوضع، أما الثالثة، في العام 1971، فستُوصَف بـ”الهزيمةِ المهينة”، لأنها أسفرت عن تقسيم باكستان وتأسيسِ جمهوريةِ بنغلادش.
وعلى عكس الهند، كانت إمكانياتُ إسلام آباد أقلَّ بكثيرٍ مما تمتلكه جارتُها، التي كان عرَّابُ برنامجها النووي مؤسساتٍ وليس أفرادًا، في حين كانت هناك ثلاثُ شخصياتٍ بارزةٍ في مسارِ باكستان نحو أن تصبح دولةً نوويةً: العالم عبد القدير خان، الرجل الملقب بأبي القنبلة النووية الباكستانية، والرائد في العلوم والفيزياء النووية الدكتور رافي محمد شودري، الذي يُوصَف بالمبدع الحقيقي للبرنامج النووي الباكستاني، ورئيس وزراء باكستان الأسبق الراحل ذو الفقار علي بوتو، الذي تُنسب له مقولة: “إذا صنعت الهند القنبلة، فسنأكل العشب وأوراق الشجر، وسنجوع، لكننا سنصنع القنبلة الخاصة بنا، ليس لدينا بديل”.
وكما دولٌ أخرى، طرحت إسلام آباد منذ الستينيات فكرةَ امتلاكِ نوويٍّ سلميٍّ، ففي عام 1954، أعلنت مشاركتها في مشروع “الذرة من أجل السلام” الأمريكي، وأنشأت حينها لجنةً للبحث والتطوير في مجال الطاقة الذرية، وكانت هذه نقطةَ بدايةِ البرنامج النووي الباكستاني. ولكن، من جهةٍ أخرى، كان هذا تعهدًا من جانب باكستان بأنها لن تستخدم الطاقة النووية لإنتاج الأسلحة، ولكن مع ستينيات القرن العشرين، ظهرت تقارير تشير إلى أن الهند تتجه بسرعةٍ لإجراءِ التجارب النووية.
ساد بعضُ الترددِ داخل أروقةِ المسؤولين الباكستانيين حول ما إذا كانت البلاد ستتحول إلى إنتاجِ الأسلحةِ النووية، لكن تفكيرَ المسؤولين تغيَّر في الحربين الهنديتين مع باكستان عامي 1965 و1971، وبشكلٍ أكثرَ إلحاحًا بعد تفجيرِ دلهي أولى قنابلها النووية عام 1974، فاتجه تفكيرُ المسؤولين نحو العلماءِ والمهندسين النوويين الشبابِ المتحمسين في البلاد، خاصةً بعد انتقالِ معظمِ معلمي الفيزياء والعلماءِ الهندوس إلى الهند.
في كتاب “أكل العشب: صناعة القنبلة الباكستانية”، ترد جملة: “تاريخ البرنامج النووي الباكستاني هو تاريخ باكستان”، ويقول مؤلفه اللواء فيروز حسن خان: “إن إصرار مجموعةٍ من الشبابِ المفتونين بالعلمِ النوويِّ الجديد، والمسكونين بالهويةِ الوطنيةِ الباكستانية، ساعد البلاد على الصمودِ في وجه الأزماتِ السياسيةِ المستمرةِ طوال 20 عامًا من تطوير القنبلة”.
في عام 1972، كان اللقاء بين شودري وبوتو لتحديدِ المسارِ في العملِ النووي، وكان خان في تلك الأثناء يعمل على تكوينِ شبكةٍ دوليةٍ مع علماءَ ومؤسساتٍ، وحتى دولٍ، لتسهيل إطلاق برنامج بلاده الذري. كما أسس أولَ مختبرٍ لأبحاثه، الذي أصبح لاحقًا الواقع في كاهوتا القريبة من مدينة روالبندي، منشأةً رئيسيةً للأسلحة النووية في باكستان، حيث يتم تخصيب اليورانيوم، وسيتسبب بإثارةِ الشكوكِ الأمريكيةِ وفرضِ عقوباتٍ على البلاد، بزعم نقلِ تجاربِ الصواريخ إلى دولٍ تُعادي الغرب، كانت كوريا الشمالية إحداها.
وفي هذا، وقفت دولٌ عدةٌ مع باكستان، حيث كانت الصين، التي تُعادي الهند، دولةً متهمةً بنقل تكنولوجيا التصنيع لإسلام آباد، وكذلك السعودية، التي قيل إنها قدمت مساعداتٍ ماليةً سخيةً لمشروع إسلام آباد النووي عقب فرضِ الغربِ عقوباتٍ على البلدِ المسلمِ الطامحِ لأن يُصبح نوويًا. كما استخدم خان كلًّا من جنوب أفريقيا وماليزيا لتصنيعِ مكوناتِ قنبلته، وساعده في نقلها إلى بلاده إماراتُ دبي، التي كانت مركزَ الشحن.
أثمرت الجهودُ الشاقةُ عن تحقيقِ نتائجَ في تطويرِ القنبلةِ النووية، وبحلول عام 1982، كان فريقٌ من العلماءِ الباكستانيين قد تمكنوا من تحقيقِ تخصيبٍ بنسبة 90%، وبدأت تتسرب أنباءٌ عن قربِ امتلاكِ الباكستانيين لأولى قنابلهم النووية، ما دفع الهند عام 1986 لحشدِ قواتِها على الحدود، للانقضاض على جارتها قبل أن تُصبح ندًّا لها، بإجراءِ أولِ تفجيرٍ نوويٍّ باكستانيٍّ تحت سطح الأرض في خريفِ ذلك العام.
لاحقًا، لم تكن الولايات المتحدة راضيةً عن السرعةِ التي كان يتقدَّم بها بوتو في البرنامج النووي، وهدَّد وزيرُ الخارجيةِ الأمريكي في السبعينيات، هنري كيسنجر، بأنه إذا أصرَّ بوتو على خطةِ إعادةِ معالجةِ الموادِ النووية، فإنه لن يبقى في منصبه. وكذلك تعرَّض خان للعديد من التبعاتِ القانونية، واتُّهِم بنقلِ المعلوماتِ والخبراتِ والمصادرِ التي امتلكها من أوروبا، ومن هولندا تحديدًا، إلى باكستان، ولكلٍّ من إيران وليبيا.
لكن، وعلى الرغم من ذلك، لم تُبالِ باكستان باتهاماتِ الغرب، بل ظلَّت تمضي في برنامجها، وكان الردُّ الأقوى في عام 1998، حين أجرت الهند خمسةَ تفجيراتٍ نوويةٍ في صحراءِ راجستان، على مقربةٍ من الحدودِ المشتركة، فردَّت باكستان بعد أسبوعين بإجراءِ ستِّ تجاربَ نوويةٍ في صحراءِ تشاغاي، ما جعلها أولَ وآخرَ دولةٍ في العالمِ الإسلامي تملك قنبلةً نوويةً.
وبذلك، عرَف العالمُ مفهومَ “المثلث النووي” في قارةِ آسيا (الهند، والصين، وباكستان)، وهو ما كاد يتسبب بحربٍ شاملةٍ في العام 1999، حين جرت مناوشاتٌ بين البلدين على ذاتِ القضية، كشمير.
ولم تقفْ رحلةُ باكستان النووية عند حدِّ امتلاكِها ما سمَّاها الباكستانيون “القنبلة النووية الإسلامية”، فقد ذكرت مجلة ذا ناشيونال إنترست مؤخرًا أن إسلام آباد قد تُصبح ثالثَ أقوى قوةٍ نوويةٍ في العالم، بعد تحمُّلِها العقوباتِ السياسيةَ والاقتصاديةَ والانقلابات، بما في ذلك سعيُ بعضِ الدول، مثل “إسرائيل” البعيدةِ عنهم، لعرقلةِ جهودِ تطويرِ السلاحِ النوويِّ الباكستاني، خشيةَ تسريبِه لدولٍ عربيةٍ أو إسلاميةٍ أخرى.
سباق تطوير الأسلحة الاستراتيجية
لم تكتفِ باكستان والهند بدخولهما النادي النووي، الذي يضم رسميًا سبعَ دولٍ أخرى في العالم، بل تُواصلان سباقَ تطويرِ الأسلحة الاستراتيجية، كالصواريخ البالستية التي بإمكانها حملُ الرؤوس النووية، مثل صاروخ “آجني-5” الهندي العابر للقارات، الذي يصل مداه إلى 5000 كيلومتر. وفي المقابل، تمتلك جارتها باكستان صاروخَ “شاهين”، الذي يتراوح مداه ما بين 2500 إلى 3000 كيلومتر.
اللافت أن القوة النووية للبلدين متقاربة، على خلاف القوة التقليدية؛ إذ تشير تقديراتٌ إلى أن باكستان عززت ترسانتها النووية بسرعة، لتصل إلى 170 رأسًا نوويًا، إضافةً إلى قدرتها على إنتاج نحو 30 رأسًا نوويًا في كل عام، بينما تمتلك الهند نفس عدد الرؤوس النووية تقريبًا، ويُتوقّع أن يرتفع عددها في كلا البلدين إلى أكثر من 300 رأسٍ بحلول نهاية العام الجاري.
وتمتلك أيضًا إسلام أباد صواريخ حاملة لرؤوس نووية من نوع “هافت” يبلغ مداها 300 كيلومتر، و”هافت 4″ الذي يبلغ مداه 750 كيلومتر. هذا في وقت تمتلك كل من الهند وباكستان صورًا مختلفة من مكونات “الثالوث النووي”، وهو اصطلاح يشير إلى طرق إطلاق الأسلحة النووية من الخزينة النووية الاستراتيجية، وتتألف من 3 أسلحة رئيسية تشمل قاذفات القنابل الاستراتيجية الطائرة، والصواريخ البالستية البرية، والصواريخ البالستية التي تُطلق من الغواصات.
ورغم أن الهند تحاول تعديل طائرات مثل “ميراج 2000″ (Mirage 2000) و”سو 30″ (Su-30)، و”جاغوار آي إس” (Jaguar IS) لحمل السلاح النووي، إلا أن تركيز الهند – كما باكستان – يظل مرتكزًا على الصواريخ البالستية المنطلقة بريًا.
ولهذا، لا بد من إجراء مقارنة عسكرية سريعة بين الهند وباكستان اللتين ترتبطان بحدود مشتركة يتجاوز طولها 3300، فطبقًا للتصنيف العالمي للقوى العسكرية الصادر عام 2025، تحتل الأولى المرتبة الرابعة عالميًا، بينما تأتي الثانية في المرتبة الثانية عشرة.
موازين القوى العسكرية
بحسب إحصائيات عام 2025 لموقع “جلوبال فاير باور” المتخصص في شؤون الدفاع وقوة النيران، فإن الكتلة الحيوية الحرجة المتمثلة بالأرض والسكان تُعد واحدةً من أهم مقاييس القوة بين الدول.
وعلى الرغم من أن حجم الكتلة البشرية في الهند يفوق بأكثر من 5 أضعاف عدد السكان في باكستان، إلا أن نسبة من تُجنِّدهم باكستان في قواتها المسلحة تتجاوز نظيرتها في الهند بالقياس إلى عدد السكان، ففي حين يتجاوز عدد الجنود العاملين في الجيش الهندي مليونًا و455 ألف جندي عامل، يصل عدد الجنود على الجانب الباكستاني إلى 654 ألف جندي، أي أقل من النصف.
وترصد الهند ما يتجاوز 10 أضعاف ما تنفقه باكستان على التسلح والتدريب وتطوير المنظومة الدفاعية، ففي حين تبلغ الميزانية العسكرية للهند نحو 75 مليار دولار، تنفق باكستان 7.6 مليار دولار، أي حوالي 10% من ميزانية الهند.
ومن حيث المساحة، تتوفر في الهند مساحة تفوق 4 أضعاف مساحة باكستان، إضافةً إلى سواحل ممتدة على البحار والمحيطات، ما يتيح تنوعًا في طرق التجارة والإمداد برًا وبحرًا، إضافةً إلى ثروات طبيعية واستراتيجية.
وفي السماء، تميل كافة القوة التقليدية بوضوح نحو الهند، حيث يتفوق سلاح الجو الهندي بـ385 طائرة مقاتلة مقابل فقط 230 مقاتلة باكستانية، كذلك تمتلك الهند 674 طائرة مروحية، في حين تمتلك باكستان 261 مروحية فقط.
وفي المجال البحري، يبدو من الطبيعي تفوق الأسطول البحري الهندي كمًا ونوعًا على القطع البحرية الباكستانية نظرًا للفرق الشاسع في طول السواحل بين البلدين، ويكفي في هذا السياق أن نعلم أن الهند تمتلك 293 قطعة بحرية، بينها حاملتا طائرات لا تملك باكستان مثيلًا لهما، واحدةٌ منهما من تصنيعها الذاتي.
أمّا بالنسبة للمعدات الثقيلة، فتمتلك الهند أكثر من 148 ألف مدرعة، وما يقرب من 3 آلاف دبابة مقابل 1839 دبابة لدى باكستان، التي تحتفظ بورقة تفوقٍ بحريٍّ نادرة: 18 غواصة مقابل 8 فقط للهند.
وبينما تفتح باكستان أبوابها على الصين وتركيا من أجل تطوير الجوية من صفقات المقاتلات الشبحية الصينية “إف سي 31″، والطائرات الهجومية التركية “قآن”، وتحديدًا الجيل الخامس منها، تعقد الهند، في المقابل، صفقات دفاعية للحصول على معدات متطورة مع الولايات المتحدة و”إسرائيل”.
هذا بالإضافة إلى الجهود الذاتية لكلتا الدولتين في التصنيع العسكري، في حين أن لباكستان باعًا طويلًا في التصنيع الحربي المحلي، لا يمكن إغفال جهود الهند الذاتية في التصنيع العسكري، ومن بينها إنتاج معدات عسكرية متطورة تشمل أنظمة دفاعية متقدمة، وغواصات ومدرعات وصواريخ بعيدة المدى، ومقاتلات محلية مثل “تيجاس” (Tejas) التي تراهن عليها الهند لمنافسة “إف-16” (F-16) الأمريكية.
وفي ظل هذه المؤشرات، تبدو إسلام آباد أقل عددًا وعدّةً فيما يخص القوة العسكرية، لكن خبراء عسكريين يعتقدون أنه، وفي حال اشتعلت الحرب، وهو ما تطفو بوادره إلى السطح بين الحين والآخر بين الدولتين، فإن التفاوت في القوة العسكرية لصالح الهند قد يدفع باكستان لاستخدام القوة النووية للدفاع عن أمنها القومي.
تسليح المياه
لا ترتبط شرارة الحرب النووية بالتصعيد العسكري فقط، بل بتحول الأنهار إلى ساحات مواجهة صامتة بين الجارين النوويين، والحديث هنا عن أخطر نهر بالعالم، أي نهر السند، الذي قالت عنه صحيفة “تليغراف” إنه “سيشعل حربًا عالمية ثالثة”، بعد تعليق الهند لمعاهدة المياه الرئيسة مع جارتها وعدوتها باكستان، التي تعاملت مع الأمر على أنه إجراء عقابي.
نهر السند، الذي يقطع كل كشمير قادمًا من منبعه بالصين، مارًا بالهند قبل أن يصب في باكستان، ما زال يدعم بالماء بعضًا من أكثر مدن العالم اكتظاظًا بالسكان، ورغم كل هذا، لم تجد الحكومة الهندية غضاضةً في استخدامه سلاحًا، عبر تعليقها المؤقت لواحدةٍ من أطول الاتفاقيات المائية صمودًا في العالم، والتي تنظم استخدام مياه النهر.
ورغم أن جيوش البلدين اشتبكا على الحدود بعد الهجوم الدموي في إقليم كشمير، إلا أن هذا لا يساوي نقطة ماء في نهر السند، الذي أصبح جوهر الخلاف في التنافس بين الهند وباكستان، وهو ما يقوله هيمانشو تاكار، مدير شبكة جنوب آسيا للسدود والأنهار والشعوب، ومقرها دلهي، ويعتبر أن معاهدة نهر السند، بالنسبة للهند التي تقع أعلى النهر، ليست ذات أهمية كبيرة، لكنها مسألة حياة أو موت لباكستان، التي يقوم اقتصادها في جزء مهم منه على الزراعة.
هذا الأمر تدلّل عليه معارك البلدين العديدة على المياه منذ استقلالهما قبل نحو 8 عقود، خاصةً أن الحدود التي نشأت عن التقسيم قطعت نهر السند، الذي تمركزت حوله دولة باكستان الجديدة، وتعتمد على مياهه للحصول على 80% من زراعتها المروية، وهذا أحد أسباب اندلاع الحرب بين البلدين فورًا على منطقة كشمير، التي يتدفق عبرها نهر السند قادمًا من الصين.
لذلك، أصبح تأمين منابع نهر السند أمرًا بالغ الأهمية منذ عقود، ففي عام 1960، دخلت معاهدة مياه نهر السند حيّز التنفيذ، ومنحت الهند حقوقًا كاملة في استخدام الروافد الغربية الثلاثة، لكنها ضمنت لباكستان تدفّق المياه من نهر السند نفسه ورافديه الشرقيين “جيلوم وتشيناب”، اللذين يشكلان معظم مياهه.
ومنذ ذلك الحين، اعتُبرت معاهدة نهر السند، التي يعتمد عليها مئات الملايين في المنطقة، ركيزةً للاستقرار، ويُشاد بها كمثال ناجح لإدارة المياه العابرة للحدود حتى الآن. ورغم السماح للهند ببناء بعض السدود، وسحب بعض المياه من المناطق الواقعة أعلى النهر، إلا أن هذا السماح للهند تم بشروط صارمة، وبالتنسيق مع باكستان، ما جعل السلطات الهندية برئاسة ناريندرا مودي تفكّر بطريقةٍ ما لوأد اتفاقية نهر السند.
توتر المياه ليس جديدًا بين نيودلهي وإسلام آباد، فقد بدأت أولى إرهاصاته بعد هجوم أروي عام 2015، صرّح رئيس وزراء الهند أن “الدم والماء لا يجريان في مجرى واحد”، وكرّر هذا التهديد بعد هجوم آخر عام 2019، لتتسارع منذ ذلك الحين مشاريع السدود الهندية على أنهار مخصصة لباكستان، والتي إذا استطاعت الهند تشييد ما يكفي منها، فقد تتمكن من حرمان باكستان من المياه أو حتى إغراقها، وهو ما يزيد من حساسية الملف المائي بين البلدين.
ورغم الحروب وسباق التسلح النووي، فإن الوفود الهندية والباكستانية واصلت الاجتماع كل عام لمراجعة مستويات المياه، وتبادل البيانات حول هطول الأمطار وتدفّق الأنهار والتشاور، ولكن نيودلهي أعلنت رغبتها عام 2023 في إعادة التفاوض على المعاهدة التي صمدت في وجه العديد من الاشتباكات والحروب المباشرة، وقالت إنها ستعلّق الاجتماعات السنوية للجنة مياه نهر السند، الذي يكفي تأخير جريانه لتخريب محاصيل جارتها وعرقلة سير مشاريعها الكهرومائية.
ومؤخرًا، بدا أن هجوم باهالغام الأخير خدم بعضًا من أحلام رئيس الوزراء الهندي مودي والهند بالسيطرة على النهر وتعطيش باكستان، ويرى محللون أن الهند تستغل الأزمة لإعادة التفاوض على حصتها من المياه، خصوصًا مع تضاعف الطلب المتوقع بحلول عام 2030، وهي الآن تطالب بحصة أكبر من مياه نهر السند، مما خُصص لها عام 1960.
ومع كل هذا التوتر، يبدو أن الردع النووي الذي أرساه الجانبان في خطر، فمنذ امتلاك البلدين القنبلة النووية قبل عقود، ربما لم تصل الأمور إلى هذا السوء بين البلدين، اللذين بدأ استعراض موازين القوى في ظل تصاعد مخاطر نشوب حرب بين الجارتين النوويتين، في أفضل الأحوال على غرار ما حدث في 1999، بعدما أصبح البلدان نوويين، حيث تمكن جنود باكستانيون من عبور خط السيطرة، واحتلوا قمم كارغيل الواقعة تحت السيطرة الهندية، لكن الهند حشدت قواتها في المنطقة، وتمكنت من استعادتها، لتتحول كشمير إلى واحدةٍ من أكثر مناطق العالم تسلحًا.
ومنذ ذلك الحين، تتجنب الدولتان التصعيد الشامل بفضل توازن الرعب النووي، لكن في حين تتبنى نيودلهي رسميًا سياسة عدم البدء باستخدام سلاح نووي، فإنها تحتفظ بحق الرد، بينما لا تلتزم باكستان بهذه السياسة، فعقيدتها النووية تُبقي الباب مفتوحًا لاستخدام السلاح النووي، حتى في مواجهة تهديد تقليدي ساحق. لكن، مهما كانت نوايا الطرفين، فإن شرارةً واحدةً قد تكفي لتحويل جنوب آسيا إلى مسرحٍ لأفظع كارثة قد يعرفها القرن الحادي والعشرين.
هذه الكارثة تنبأت بها نشرة علماء الذرة عام 2019، حين قالت إن العام 2025 سيشهد حربًا نووية باكستانية هندية، ستكون الضربة الأولى فيها لباكستان، التي ستطلق هجومًا مدويًا يستهدف الهند، التي سترد على الفور عبر قنابل تكتيكية أولًا، ثم ضربات نووية تمحو مدنًا كاملة، ووفقًا لهذه النبوءة، فإن نحو 125 مليون قتيل قد يسقطون خلال الأسبوع الأول.
ولمن يعتقد أن هذا سيكون أكبر ما في الكارثة، لا بد أن يعرف أن حقيقة الرعب الذي تعرفه البشرية حول الأسلحة النووية، تؤكد أن الكارثة الحقيقية ستبدأ بعد نهاية الحرب، عندما تحجب سحب الدخان الشمس، لتدخل الأرض في شتاء نووي، تنهار فيه الزراعة، ويجتاح الجوع كوكب الأرض، ويدفن ما يتيسر له من حضارة البشر.
وفي نهاية كل هذا الرعب العسكري النووي والتقليدي الذي استعرضناه، والأسباب التي قد تؤدي إلى حرب كارثية قد يدفع فاتورتها كل الكوكب، يمكن القول إن كشمير ستبقى حتى إشعارٍ آخر شرارةً كفيلةً بإشعال حرب نووية لا خط عودة بعدها للبشرية.