ماكرون والحجاب.. هل بلغت الإسلاموفوبيا سن الطفولة؟

في ظل تصاعد التوتر حول مسائل الهوية والتنوع الديني في فرنسا، يطرح حزب الرئيس ماكرون مقترحًا بحظر ارتداء الحجاب على الفتيات المسلمات دون سن 15 عامًا في الأماكن العامة، بحجة الحفاظ على “النسيج الوطني” من تأثير تيارات “الإسلام السياسي” التي ينظر إليها على أنها تهديد مباشر لقيم الجمهورية الخامسة.
منذ وصوله إلى الرئاسة، سوق إيمانويل ماكرون نفسه كمنقذ من صعود اليمين المتطرف، لكن مع مرور الوقت بدأ الفارق يتلاشى بين موقف ماكرون ومواقف الزعيمة اليمينية مارين لوبن، إذ يعتمد الرئيس في كثير من ملفات الهوية والإسلام على خطاب مليء بالإشارات الأمنية والثقافية المنحازة.
وهم “الحياد الديني”
يأتي مشروع حظر الحجاب على القاصرات امتدادًا لمسار تشريعي طويل في فرنسا يقيد مظاهر التعبير الديني في الفضاء العام، حيث بدأ بقانون عام 2004 الذي حظر ارتداء الرموز الدينية الواضحة في المدارس الحكومية، ثم تلاه عام 2011 حظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة وصولا إلى قانون 2021 الذي أقر احترام مبادئ الجمهورية.
هذا القانون الذي قدم في عهد حكومة جان كاستيكس، وعرف إعلاميًا بـ “قانون مكافحة الانفصالية”، شدد على مراقبة الجمعيات الدينية وتقييد التعليم المنزلي، مستهدفا “الإسلام السياسي”، ما أثار ترحيبًا من بعض الدوائر باعتباره يخدم وحدة النسيج الجمهوري، مقابل انتقادات اعتبرته مساسًا بحرية المعتقد وتأسيس الجمعيات وحق الأسر في اختيار نمط التعليم لأبنائها، ليظل من أكثر القوانين إثارة للجدل في العلاقة المعقدة بين الدولة الفرنسية والجالية المسلمة.
كامتداد للمسار الأمني ذاته، أصدرت وزارة التربية الوطنية في سبتمبر 2023 قرارًا يحضر على الفتيات ارتداء العباءة والقمصان الطويلة في المدارس الحكومية استنادا لقانون 2004، وأيد مجلس الدولة هذا القرار مؤكدا أنه لا ينتهك الحريات الأساسية ولا يميز علنا بين فئة دون أخرى، رغم انتقادات رابطة العمل من أجل المسلمين والجمعيات الحقوقية التي اعتبرت القرار جائرًا وينطوي على مخاطر التمييز القائم على الدين والجنس.
رغم أن الهدف المعلن من الحظر هو ترسيخ الحياد الديني، إلا أن المخاوف الأمنية استحضرت أيضا في المداولات؛ إذ رأت الحكومة أن العباءة قد تستخدم كغطاء لإخفاء مقررات أو مواد تحريضية داخل الفصول، غير أن خبراء تربويين وقانونيين رأوا في هذا التبرير تهويلا لمخاطر وهمية يفتقد إلى أدلة ميدانية، خاصة بعد صدور تقرير حكومي يؤكد أن عدد مخالفات الحياد المدرسي قفز من 617 حالة عام 2021 إلى 1984 حالة عام 2022، غالبيتها تتعلق بظهور العباءة في المدارس.
لعبة الاستقطاب السياسي
لم يكن حزب النهضة الذي أسسه ماكرون عام 2016 يحمل ملامح عداء معلن تجاه المسلمين، بل سعى إلى تقديم نفسه كبديل تقدمي يحاول تجاوز الاستقطاب التقليدي بين اليمين واليسار، والآن أضحى يتماهى بشكل لافت مع خطاب اليمين المتطرف، من خلال تبنيه مقترح حظر الحجاب للفتيات دون 15 عاما في الشوارع والمقاهي والحدائق والمتاجر، في وقت يزداد فيه زخم هذا الخطاب مع اقتراب الانتخابات.
يتبنى هذا الخطاب رؤية اختزالية للإسلام في رموزه الظاهرة، وتربطه تلقائيا بمخاطر أمنية واجتماعية مفترضة، وفي هذا السياق يصبح الحجاب مصدر قلق سياسي، حتى لو ارتدته طفلة دون سن الرشد، ما يدفع إلى تجريمه قانونا باسم حماية القاصرات وضمان حيادية الفضاء العام.
يبدو أن حزب ماكرون اختار أن يضحي بمبادئه الأصلية في سبيل كسب أصوات انتخابية عبر استرضاء جمهور يميني متعطش لخطاب “الحزم مع الإسلاميين”، حتى وإن جاء ذلك على حساب حريات فردية ودينية يكفلها الدستور الفرنسي نفسه.
إن اعتماد خطاب أمني ثقافي مشترك بين اليمين التقليدي وحزب الرئيس يشكل تطورا استراتيجيا له تبعات انتخابية قصيرة الأمد ولكنها محفوفة بمخاطر بعيدة المدى؛ إذ أن توظيف “خوف المجتمع” من “الإسلام السياسي” كأداة لكسب الأصوات يفضي إلى ترسيخ خطاب العداء الديني كأجندة مركزية في السياسة الجمهورية، مما يعيد إنتاج منطق الاستقطاب الذي تدعي باريس محاربته.
ازدواجية الجمهورية
رغم أن الجمهورية الفرنسية تقوم على مبادئ المساواة والحرية والإخاء، تكشف بيانات حكومية عن فجوة بين الخطاب والممارسات الميدانية التي لا تزال تتغذى على الصور النمطية الأمنية والدينية، فقد أظهر تقرير اللجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان لعام 2023، أن المسلمين يصنفون ضمن أقل الأقليات تقبلا في فرنسا، إذ يسقط على كل مسلم تصور نمطي سلبي عن الإسلام دون مراعاة تنوع خلفياتهم ومواقفهم.
وفقا لذلك، لم يتجاوز مستوى تقبل المسلمين 57 نقطة من 100، كما انخفض مؤشر التسامح مع السود إلى 77 نقطة، ومع اليهود إلى 68، ومع الروم إلى 42 نقطة، غير أن المقلق بشكل خاص فيما يتعلق بالمسلمين هو الارتفاع الموازي في نسبة من يعتبرونهم “مجموعة منفصلة”، حيث يرى 35% من المشاركين في استطلاع الرأي أن المسلمين يشكلون فئة لا تنتمي إلى النسيج الوطني.
كما تبين أن 42% من المسلمين في فرنسا تعرضوا لشكل من أشكال التمييز الديني مرة واحدة على الأقل في حياتهم، تراوحت بين تفتيش أمني جائر (13%) ورفض طلبات التوظيف (17%) وصعوبات في تأمين السكن (14%)، وبناء عليه كان الأثر أشد على النساء المحجبات، إذ بلغت نسبة المعاناة من التمييز بينهن 60% مقارنة بـ 44% لدى غير المحجبات، حسب ما كشفه استطلاع أجري عام 2019.
على الصعيد النفسي والاجتماعي، أظهر مسح للوكالة الأوروبية لحقوق الأساس خلال 2024، أن الشباب المسلم بفرنسا يتعرض يوميا لمضايقات لفظية وأحيانا ملاحقات رقمية، مما ارتبط بارتفاع معدلات القلق والاكتئاب مقارنة بمثيلهم من غير المسلمين، بحيث أن أكثر من نصف ضحايا العنف العنصري (55%) يعانون من مشكلات نفسية مثل الاكتئاب أو القلق نتيجة لتجاربهم، بالإضافة إلى ذلك فإن واحدا من كل خمسة أفراد يخشى مغادرة منزله أو زيارة أماكن عامة بعد تعرضه للعنف.
لم تطور فرنسا آليات مراقبة فعالة لمنع التمييز على أساس الدين، بل سمحت بسن تشريعات محايدة الظاهر (في نصوصها) لكنها تستهدف العمق الرمزي للمظاهر الإسلامية؛ فعلى سبيل المثال، حظرت العباءة والبرقع بقوانين لا تحدد آليات تطبيق موحدة، مما أدى إلى تفاوت في الممارسات بين بلديات مختلفة، في حين تركت مساحة واسعة لاجتهادات أمنية وثقافية تستهدف المسلمين على وجه الخصوص.
في خضم هذا الواقع المعقد، لا يزال للمجتمعات المسلمة بفرنسا صوت يتعالى من خلال منظمات المجتمع المدني والهيئات الاستشارية مثل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية وجمعية العمل من أجل المسلمين، والجمعية الفرنسية للثقافة الإسلامية، التي تدعو إلى يضمن احترام مقاربة لائكية بصيغ تراعي تنوع التعبيرات الدينية دون تهميشها، وتدريس تاريخ المسلمين في المناهج من منظور حقوقي وتاريخي لتفكيك الصور النمطية.