الواقع الأمني شرق سوريا.. انفلات متواصل بانتظار تدخل حاسم

رغم مرور أكثر من ستة أشهر على سقوط نظام الأسد وتسلُّم الحكومة السورية الجديدة زمام الحكم، لا يزال الملف الأمني يشكّل أحد أبرز التحديات أمام السلطات، التي تعمل بجهد على بسط سيطرتها على كامل الأراضي السورية، وإعادة هيكلة وزارة الدفاع، ودمج الفصائل المسلحة ضمن مؤسسة وطنية موحدة، بالتوازي مع إغلاق ملفي “قوات سوريا الديمقراطية” وفصائل السويداء.
وفي حين تُسجَّل تطورات إيجابية في عدد من المناطق، يبقى شرق وشمال شرق البلاد من أكثر الجبهات تعقيدًا، نتيجة تداخل العوامل العشائرية والجغرافية، ووجود تركات أمنية ثقيلة خلّفها النظام السابق، فضلًا عن التهديدات المستمرة من خلايا الإرهاب ومهربي السلاح والمخدرات.
وتبرز حادثة بلدة سلوك، التي شهدت توترًا أمنيًا خلال الأيام الماضية، كنموذج دقيق لصعوبة المشهد في بعض المناطق، وتؤكد في الوقت ذاته على الحاجة الملحة لتعزيز حضور الدولة، وتنظيم البنية الأمنية بما يلبّي تطلعات السكان في الأمن والاستقرار.
تحديات كبيرة
في محافظة دير الزور، وتحديدًا في المناطق الواقعة غربي نهر الفرات والمعروفة بـ”مناطق الشامية” والخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، تبذل السلطات جهودًا لضبط الوضع الأمني وتعزيز أداء قوى الأمن الداخلي، وتعتمد في ذلك على نظام لامركزي في الانتشار العسكري، حيث تتولى كل بلدة أو مدينة إدارتها الأمنية كتيبة محلية مؤلّفة من أبنائها المنتسبين إلى قوى الأمن، في خطوة مؤقتة، كذلك الحال في شرقي محافظة الرقة، وتحديدًا في ناحية “معدان” الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، إذ يشهد الوضع الأمني هناك مشهدًا مشابهًا.
ويمكن تلخيص الواقع الأمني في الرقة عموماً بأنه يسير وسط حالة من الفوضى، بحسب ما أفاد به الصحفي عبدالسلام الحسين لموقع “نون بوست”، قائلًا: “هناك قلّة في الكوادر الأمنية المحترفة، وثمة تجاوزات عديدة تحصل أحيانًا من قبل بعض عناصر الأمن بسبب عدم الخبرة، غالبيتهم بأعمار صغيرة، والسرقات متفشية في عموم أحياء المدينة، وكذلك عمليات السطو المسلح، وحضور قوى الأمن خجول لمعالجة هذه المشاكل حتى اليوم، وفوضى السلاح مستشرية بعموم المحافظة”.
وفي حديث خاص لـ”نون بوست”، أكد أحد كوادر قوى الأمن الداخلي في دير الزور -رفض الكشف عن هويته لأسباب أمنية، وجود تحديات كبيرة بما يخص الوضع الأمني في المحافظة، وأبرزها “خطر خلايا تنظيم داعش وفلول النظام وإيران، وعصابات المخدرات والتهريب، واستفزازات عناصر قسد، وعصابات السرقة والسطو”، مشيرًا إلى أن “القيادة تحاول العمل على تأهيل جهاز الأمن وتحويله إلى مؤسسة احترافية، لكن الواقع صعب ويتطلب جهدًا كبيرًا”.
ويضيف أن “هناك نسبة من عناصر الأمن اليوم كانوا عناصر سابقين في ميليشيات النظام البائد والحرس الثوري الإيراني سابقًا، وعملنا على فصل العشرات منهم خلال المدة الماضية، والعمل متواصل على هذا الموضوع، يُضاف إلى ذلك أن غالبية المنتسبين لوزارة الدفاع اليوم في دير الزور هم من الشباب القادمين من مناطق الجزيرة التي تسيطر عليها قسد”.
وأكد أن “مدة الدورة العسكرية قصيرة، حيث لا تتجاوز الأربعين يومًا، وهي مدة غير كافية لتأهيل عنصر أمني، لكن الظروف الحالية تتطلب ذلك، بسبب الفراغ الأمني الكبير الذي خلفه سقوط النظام السابق، ومن المرتقب إقامة معسكرات أشمل واحترافية تصل مدتها إلى شهور قريبًا، بحسب الخطة التي ترسمها وزارتا الدفاع والداخلية بهدف تطوير الجيش والقوى الأمنية”.
وتواجه السلطات الأمنية في دير الزور إرثًا ثقيلًا تركه النظام السابق، يتمثل في مئات العناصر المنفلتة من الميليشيات التابعة للنظام وإيران وروسيا، لا يزال كثير منهم متورطين في أنشطة تهدد الأمن والاستقرار، من أبرزها تهريب المخدرات والسلاح.
ورغم الجهود المستمرة التي تبذلها القوى الأمنية لضبط الأوضاع، فإن تلك المساعي لا تزال دون المستوى المطلوب، وسط تحديات متزايدة تتعلق بانضباط المؤسسة العسكرية وضعف التنسيق بين الجهات المعنية.
مشاكل تنظيمية تواجه المؤسسة العسكرية
على الرغم من بدء وزارة الدفاع السورية بدمج فصائل “الجيش الوطني” في المؤسسة العسكرية، إلا أن حالة التكتلات على أساس فصائلي وعشائري لا تزال سائدة، سواء في دير الزور أو في شرق الرقة أو في مدينتي رأس العين وتل أبيض شمال شرق سوريا، أو ما تعرف بمنطقة “نبع السلام”.
حتى الآن، لا تزال عملية دمج الفصائل العسكرية ضمن إطار الجيش السوري أقرب إلى الشكلية منها إلى التوحيد الفعلي، إذ ما تزال مظاهر التشظي والانقسام حاضرة بوضوح، إلى جانب استمرار الصدامات بين الكتل العسكرية المختلفة، وتكرار التجاوزات بحق المدنيين.
فرغم تبديل التسميات، بقيت الهياكل التنظيمية على حالها تقريبًا في الشرق السوري، مما أضعف من فاعلية هذه الخطوة. وتفاقمت الفوضى داخل هذه التشكيلات لعدة أسباب، أبرزها ضعف التمويل وعدم انتظام الرواتب، وهي مشكلة باتت جلية في دير الزور تحديدًا، حيث يسود التذمّر بين العناصر نتيجة لتأخر المستحقات وغياب الحوافز.
آخر تلك الحوادث ما جرى خلال الأسبوع الماضي، حيث أفادت شبكة “نهر ميديا” المحلية بوقوع خلافات داخل الفرقة 86 التابعة لوزارة الدفاع في دير الزور، على خلفية تأخير دفع رواتب العناصر، نتيجة غياب الكتلة المالية المخصصة للشهر الحالي.
وأشارت الشبكة إلى أن الفرقة 86 مؤلفة من فصائل كانت تتبع للجيش الوطني، وأن وزارة الدفاع لم تسلّم المقاتلين رواتبهم بسبب نقص في الميزانية. وكانت تعتمد نوعًا ما على أن تقوم قيادة كل فصيل بتسليم مقاتليها رواتبهم، حيث لم يتوحّد الصندوق المالي الخاص بالفصائل بشكل كامل.
ومع تصاعد التوتر، حاولت قيادة الفرقة 86، بقيادة فصيل “أحرار الشرقية”، احتواء الأزمة عبر تسليم الرواتب لقادة المجموعات فقط، وتأجيل توزيعها على جميع المقاتلين لحين وصول الكتلة المالية المخصّصة من وزارة الدفاع لكل فرقة. غير أن هذه الخطوة زادت من حدة الاحتقان داخل الصفوف، ما دفع أكثر من 300 عنصر إلى ترك الفرقة 86 والانضمام إلى الفرقة 66 العاملة بدورها في دير الزور.
وتُعرف الفرقة 66 بأنها التشكيل الذي كان يُعرف سابقًا بـ”لواء الزبير”، أحد فصائل هيئة تحرير الشام، قبل أن تُعاد هيكلته لاحقًا تحت اسم الفرقة 66 ويتبع رسميًا لوزارة الدفاع السورية ضمن مشروع الدمج العسكري.
وإلى جانب مشكلة الرواتب، تبرز مشكلة الاشتباكات المسلحة بين فصائل سابقة وجماعات محلية، منها ما يندرج تحت عمليات انتقامية شخصية بطابع عشائري، ومنها ما يندرج أيضًا ضمن صدامات من أجل مكاسب اقتصادية.
خلال الأسابيع الماضية، وحسب مصادر خاصة، قامت قوى الأمن الداخلي في دير الزور باعتقال عدد كبير من العناصر التابعين لها بسبب قضايا تتعلق بالفساد المالي والرشاوى والاعتداء على مواطنين، كما قامت باعتقال عدد آخر في شمال شرق البلاد بسبب ضلوعهم في تجاوزات ضد المدنيين، كما حصل في بلدة سلوك شمال الرقة.
وشهدت بلدة سلوك خلال الأسبوع الماضي معارك دامية استمرت لثلاثة أيام، بين عناصر يتبعون لفصيل “صقور السنة” التابع للفرقة (20) المنضوية تحت راية فيلق الشام، وبين أشخاص من عشيرة النعيم، وخلفت الاشتباكات العديد من القتلى والجرحى، بسبب عمليات قصف بقذائف الهاون إضافة إلى سرقة واسعة للمحلات التجارية واعتداءات على المدنيين.
بدأت شرارة المواجهات يوم الإثنين 26 مايو/أيار الجاري، إثر مشادة كلامية بين أحد المدنيين المنتمين إلى قبيلة النعيم، وعنصر من فصيل “الصقور”، سرعان ما تطورت إلى مشاجرة تدخل فيها عدد من عناصر الفصيل الذين اعتدوا على المدني.
هذا الاعتداء دفع بأقارب المدني إلى التدخل، لتتحول المواجهة تدريجيًا إلى اشتباك مسلّح، استخدمت فيه الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وسط توتر متصاعد في المنطقة.
ونتيجة الاشتباكات نصب الأهالي في بلدة سلوك، خيمة اعتصام شارك فيها معظم سكان المنطقة من مختلف العشائر، كعشائر قيس والمشهور والنعيم، مطالبين وزارة الدفاع السورية بالتدخل العاجل لإخراج عناصر فصيل “صقور السنة” من منطقتهم. إلا أن رد الفصيل جاء سريعًا وعنيفًا، إذ داهمت مجموعات عسكرية تابعة له خيمة الاعتصام واعتدت بالضرب على المعتصمين.
وحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان فإن أهالي بلدة سلوك نصبوا خيمة اعتصام للمطالبة بإبعاد فصيل “صقور السنة” عن المناطق السكنية، وفي ساعات المساء، دخل مقاتلون من الفصيل إلى البلدة، واندلعت مواجهة مع عدد من المعتصمين، تحولت لاحقًا إلى اشتباكات مسلّحة مع سكان محليين، وانتهت الاشتباكات منتصف الليل بسيطرة الفصيل على البلدة، وحرق خيمة الاعتصام، إضافة إلى احتجاز ما لا يقل عن 15 شابًا، فُرج عنهم لاحقًا عقب تدخل “الفرقة 60” التابعة لوزارة الدفاع في الحكومة الانتقالية.
بلغت الاشتباكات ذروتها يوم الثلاثاء 27 مايو/أيار، حيث توسعت رقعة المواجهات لتشمل معظم أحياء البلدة، واستخدمت فيها قذائف RPG والهاون، ما أسفر عن مقتل أربعة مدنيين، وإصابة نحو 15 مدنيًا، نُقل بعضهم إلى داخل تركيا لتلقي العلاج.
وتخللت الاشتباكات أعمال سرقة للمحال التجارية، نُسبت لعناصر “صقور السنة”، إضافة إلى حرق ثلاثة منازل. ورغم المناشدات التي أطلقها أئمة المساجد عبر مكبرات الصوت لوقف الاشتباكات، فإن الأوضاع بقيت خارج السيطرة.
وفي مساء الثلاثاء، وصلت إلى البلدة تعزيزات عسكرية كبيرة من قوات تتبع لوزارة الدفاع السورية، وتحديدًا من الفرقة 60، في محاولة لاحتواء الموقف وفض الاشتباك. وتمركزت هذه القوات في البلدة حتى صباح الأربعاء، حيث عاد الهدوء النسبي إلى المنطقة.
ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان “مقتل أربعة مدنيين، بينهم اثنان أُعدموا ميدانيًا وإصابة ثمانية آخرين، إضافة إلى توثيق عمليات احتجاز، وحرق وسلب ممتلكات مدنية خاصة، فضلاً عن نزوح عدد من العائلات من البلدة خلال فترة الأحداث”.
وحددت الشبكة السورية أبرز انتهاكات فصيل “صقور السنة” وهي “مقتل مدنيَين اثنين بعد احتجازهما، وسط ظروف تشير إلى تعرّضهما لإعدام ميداني. كما قُتل مدنيان آخران خلال الاشتباكات التي وقعت داخل البلدة، وأُصيب ثمانية مدنيين بجروح متفاوتة، كما أقدم مقاتلون من فصيل صقور السنة على احتجاز تعسفي لما لا يقل عن 15 شابًا، فُرج عنهم لاحقًا”.
إضافة إلى “حرق ثلاثة منازل سكنية، ونهب محل تجاري في سوق البلدة، ما أدى إلى نزوح أكثر من 20 عائلة باتجاه مناطق أكثر استقرارًا”، مشيرة إلى أنه تم توثيق مقاطع مصوّرة تُظهر احتجاز مدنيين على خلفية انتماءاتهم العشائرية، مع تهديدات لإجبارهم على الإدلاء بتصريحات قسرية”.
“صقور السنة”.. سجل مثير للجدل
يتواجد فصيل الصقور في بلدة سلوك منذ سيطرة فصائل “الجيش الوطني” على المنطقة المعروفة بـ “نبع السلام” في 2019، وتتبع بلدة سلوك لمنطقة تل أبيض الواقعة على الحدود السورية – التركية، بمحافظة الرقة، ويتبع الفصيل للفرقة 20 المنضوية تحت جناح فيلق الشام.
وحسب ما قاله الصحفي محمد عثمان تحدّث لـ “نون بوست” فإن الفصيل “مجموعة عسكرية مكوّنة بغالبيتها من مقاتلين ذوي خلفية عشائرية ينحدرون بغالبيتهم من دير الزور، يمتهن عدد من عناصر الفصيل عمليات تهريب البشر، وتجارة الأسلحة، ولهم مشاكل كثيرة في المنطقة، وما حصل أول أمس ليس إلا انفجارًا طبيعيًا لغضب سكان سلوك بسبب ممارسات هؤلاء العناصر المتراكمة”.
ويصيف أن “الأهالي في مناطق نبع السلام عانوا طوال سنوات من إجرام وممارسات ميليشيا “قسد” القمعية، ومع تحرير مناطقهم استبشروا خيرًا، لكنهم يشعرون بالخيبة اليوم إزاء تصرفات سلطات الأمر الواقع في المنطقة، والمتمثلة ببعض فصائل الجيش الوطني على غرار الصقور”.
وأكد أن “هناك حاجة ملحّة من وزارة الدفاع السورية لضبط الوضع الأمني في المنطقة، ما جرى في سلوك انتهاك صارخ، وظلم كبير بحق أبناء هذه البلدة التي كانت من أوائل المناطق المحرّرة من النظام مع انطلاق الثورة السورية”.
وأشار إلى أن واقعة “سلوك” الدامية تلخص حال الوضع الأمني والعسكري في مناطق سيطرة الحكومة السورية، سواء في شمال الرقة أو في شرقها، وحتى في دير الزور كذلك، حيث لا تزال الحالة الفصائلية موجودة وتتفاوت حدتها من مكان لآخر، واقعٌ فصائلي بطابع عشائري بحت، ولا تزال حلول الحكومة إزائه مقتضبة.
وكانت وزارة الدفاع السورية في مناطق تل أبيض وسلوك، بدأت بإرسال لجان عسكرية للمنطقتين، للبدء بتسجيل بيانات أفراد فصائل “الجيش الوطني” تمهيدًا لدمجهم في وزارة الدفاع السورية، استجابة لنداء وزير الدفاع مرهف أبو قصرة، وبحسب مصادر لـ “نون بوست” سيجري ضم فصيل صقور السنة ضمن الفرقة 86، وإنهاء حالة الاستقلالية التي يتمتع بها الفصيل المذكور.
هذا وتعاني هذه المناطق المسماة “نبع السلام” والتي تشمل مدينتي تل أبيض ورأس العين وبلدة سلوك، من حصار تفرضه قوات “قسد” عليها، وليس لها أي منفذ حدودي سوى البوابة التركية، لذلك حركة السكان مقيدة، وتنقلهم نحو بقية مناطق سوريا شبه مستحيل إلا عبر طرق التهريب الخطرة، وزاد الوضع سوءًا تلغيم “قسد” لجنوب طريق الـ M4 واستهدافهم لأي حركة قربه، وتشهد المنطقة غلاءً في المعيشة، وأوضاعًا أمنية متردية بسبب حالة الفصائلية هناك التي تسود فصائل “الجيش الوطني”.
ويترقب السكان في دير الزور الأفضل بما يخص إرساء الأمن في المحافظة، فالوضع المعيشي السيئ، وكمية الدمار في المحافظة، عاملان اثنان دفعا بالعشرات من السكان الذين عادوا بعد التحرير إلى العودة من حيث جاؤوا، وقسم كبير عاد إلى مخيمات الشمال فعلاً. وسوء الوضع الأمني يزيد الأمور سوءًا كذلك إضافةً إلى ما سبق.