حرب الطاقة في العراق.. اقتتال فصائلي وتدخل إيراني

بعد قرابة 10 سنوات على تدمير مصفّى بيجي إثر العمليات العسكرية التي كانت تشنّها الحكومة العراقية ضد مقاتلي تنظيم داعش، ورغم استعادة المصفّى لبعض نشاطه بعد إعادة إعمار وتأهيل العديد من وحداته الإنتاجية العام الماضي، جاءت الأحداث الأخيرة التي أدّت إلى خروج معمل الزيوت داخل المصفّى عن الخدمة بفعل استهدافه في 18 مايو/ أيار الماضي، في ظلّ سكوتٍ مطبقٍ من الحكومة العراقية ووزارة نفطها.
يكشف حادث مصفّى بيجي عن حرب طاقة من نوعٍ آخر داخل البلاد، حيث جاء هذا الحدث تزامنًا مع إعلان الحكومة العراقية عن قطع رواتب موظفي إقليم كردستان، بذريعة عدم إيفاء الإقليم بشروط حصوله على حصته من الموازنة الاتحادية، في الوقت الذي كشفت فيه مصادر عن أنّ إيران تقف وراء هذه الخطوة التي جاءت بعد أن تعاقدت حكومة الإقليم مع شركتين أميركيتين لاستثمار الغاز الطبيعي في الإقليم.
المصفى وحرب المصالح
كان عضو لجنة النفط والغاز والثروات الطبيعية في مجلس النواب العراقي علاء الحيدري قد كشف قبل أيام عن تفاصيل جديدة حول تفجير مصفّى بيجي النفطي، لافتًا إلى أنّ الاستهداف تم عبر استخدام طائرة مسيّرة مصمّمة بشكل خاص لتجاوز أنظمة الرصد والمراقبة، وفق قوله.
وفي حديثٍ صحفي، بيّن الحيدري أنّ “كاميرات المراقبة في المصفّى رصدت جسمًا غريبًا يتمثّل بطائرة مسيّرة تفوق سرعتها المسيّرات الاعتيادية، حيث تمكّنت من اختراق السياج الأمني للمصفّى والطيران على مستوى منخفض لتفادي الرصد المباشر، ومن ثم استهداف الوحدة الرئيسية لمعمل الزيوت داخل المصفّى، والذي أُعيد افتتاحه قبل أيامٍ فقط من استهدافه”.
عن تفاصيل المعمل المستهدف، تابع الحيدري بالقول: “إنّ الضربة استهدفت خزانًا يحتوي على مادة زيتية بدرجات حرارة عالية، وأنّ المسيّرة ضربت نقطة دقيقة على ارتفاع مترين ونصف من قمة الخزان، وهي المنطقة التي تحتوي على المادة الفعالة، ما يشير إلى عملية مدروسة ومخطّطٍ لها بدقة عالية بهدف تعطيل الإنتاج”، مبيّنًا أنّ معمل الزيوت المستهدف كان متوقفًا منذ عام 1991، واستُعيد عبر جهود وطنية من كوادر وزارة النفط العراقية، وفق تأكيده.
وتُعدّ مصفاة بيجي أكبر مجمّعات تصفية وتصنيع للنفط داخل العراق، حيث كانت قد أُنشئت عام 1978، ويقع المصفّى في محافظة صلاح الدين على بُعد نحو 130 كيلومترًا إلى الشمال من العاصمة بغداد.
من جهته، يرى الخبير الأمني والعسكري حسن العبيدي أنّ عدم إفصاح وزارة النفط وحكومة السوداني عن حقيقة ما جرى داخل مصفّى بيجي يؤكّد أنّ الانفجار داخل المصفّى لم يكن عرضيًا أو نتيجة خللٍ فني، وإنّما كان نتيجة استهداف بطائرة مسيّرة، خاصةً أنّ جميع العاملين في المصفّى أكّدوا ذلك.
وفي حديثه لـ “نون بوست”، أكّد العبيدي أنّ المسؤولين في المصفّى تلقّوا أوامر من وزارة النفط بمنع موظفي المصفّى من إدخال هواتفهم الذكية إلى المصفّى، تجنّبًا لانتشار مقاطع فيديوية كانت قد نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي عقب الانفجار بيومين.
أما بخصوص التحليل الأمني لما حدث، فقد أوضح العبيدي أنّ ما كشف عنه النائب علاء الحيدري يؤكّد التحليل الأمني لكيفية اختراق المسيّرة لموقع المصفّى، لا سيما أنّ المصفّى محاطٌ بمقراتٍ عسكرية ومعسكرات لألويةٍ متعددة من الجيش والشرطة الاتحادية، إضافةً إلى وحداتٍ من الشرطة التابعة لوزارة النفط.
وبالتالي، فإنّ المعطيات تشير إلى أنّ الجهة المستهدفة للمصفّى أطلقت المسيّرة من مسافةٍ ليست بالبعيدة عن المصفّى، مع معرفة هذه الجهة بخرائط المصفّى ومواقع الإنتاج الحساسة، بما أدّى بالمحصلة إلى تضرّر معمل الزيوت وخروجه عن الخدمة نهائيًا.
في السياق، يؤكّد مشعان الجبوري، السياسي العراقي وعضو البرلمان السابق عن محافظة صلاح الدين، ما قاله العبيدي، حيث يشير الجبوري إلى أنّ إدارة مصفّى بيجي بدأت في 25 من مايو/ أيار الماضي بتطبيق إجراءات منع إدخال الهواتف الذكية، للتستر على حجم الكارثة التي لحقت بوحدة إنتاج الدهون، مبيّنًا أنّه يتم صبغ وترقيع المعدات لإخفاء حجم الضرر بدل كشف الحقيقة.
بلاغ لمن يعنيهم حماية المال العام:
إدارة مصفى بيجي بدءت بتطبيق اجراءات منع إدخال الموبايلات للتستر على حجم الكارثة التي لحقت في وحدة إنتاج الدهون، التي دمرها الحريق بالكامل.
يتم صبغ وترقيع المعدات لإخفاء حجم الضرر بدل كشف الحقيقة.
أنشر الصور والفيديوهات، والفساد أوضح من أن يُخفى. pic.twitter.com/7xcyi6R5ab— مشعان الجبوري (@mashanaljabouri) May 25, 2025
وفيما يتعلّق بالجهة التي قد تكون استهدفت المصفّى، نقلت وسائل إعلام عراقية عن مصادر خاصة أنّ الصراع بين الفصائل المسلحة “الميليشيات الشيعية” هو الذي تسبّب باستهداف المصفّى عن طريق طائرةٍ مسيّرة أو صاروخٍ قصير المدى، فيما تم تعطيل كاميرات المراقبة حول معمل الزيوت داخل المصفّى قبل يومين من وقوع الحادثة، مع إبلاغ موظفي المصفّى بعدم الحضور لدوامهم الرسمي.
وبيّنت المصادر أنّ خلافًا بين فصائل مسلّحة حول إحالة عقد صيانة داخل المصفّى، أدّى إلى تطوّر الأمر إلى استهداف المصفّى من قبل جهةٍ مسلّحة تُعدّ الأقوى، حيث سيُحال لها العقد بعد الاستهداف الأخير.
إقليم كردستان وحرب الطاقة
في خضمّ الصراع السياسي المستمر داخل العراق، والتدخّلات الإيرانية في الملف العراقي، جاء قرار الحكومة العراقية مفاجئًا لحكومة إقليم كردستان، حيث، وقبيل أيامٍ على عيد الأضحى المبارك، كشف بيانٌ لوزارة المالية الاتحادية عن توقفها عن إرسال رواتب موظفي الإقليم، بذريعة عدم إرسال الإقليم لوارداته المالية وتجاوزه حصته ضمن الموازنة المالية الاتحادية.
جاءت تحرّكات بغداد هذه بعد أيامٍ فقط على إعلان إقليم كردستان توقيع اتفاقيات في مجال الغاز مع شركاتٍ أميركية، في الوقت الذي اعتبرت فيه جهاتٌ سياسية أنّ قطع بغداد لرواتب موظفي الإقليم جاء ردًّا على الاتفاقيات التي وقعها الإقليم مع شركاتٍ أميركية، والتي عدّتها بغداد غير دستورية، على اعتبار أنّ ملفات الطاقة وعقودها سيادية ولا تتم إلا عن طريق الحكومة الاتحادية.
أكّد سوران عمر، عضو لجنة الاقتصاد والصناعة والتجارة في البرلمان العراقي، أنّ قرار وزارة المالية جاء كردّ فعلٍ سياسي على الاتفاقية التي وقعها رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني خلال زيارته إلى واشنطن، لافتًا إلى أنّ قطع رواتب موظفي الإقليم يشكّل أزمة سياسية جديدة بين بغداد وأربيل، وأنّ المتضرر الوحيد منها هو المواطن الكردي، وفق قوله.
ويبدو أنّ مشكلة الرواتب بين بغداد وأربيل لها أبعادٌ إقليمية كذلك، لا سيما مع الكشف عن ضغوطاتٍ إيرانية على بغداد لقطع رواتب موظفي الإقليم، عقابًا للأخير على توقيعه عقودًا بمليارات الدولارات لاستثمار الغاز الطبيعي في الإقليم، والذي يمكن أن يسدّ حاجة العراق ككلّ، مع تصدير الفائض.
ويؤكّد الكاتب العراقي سجاد تقي كاظم هذا التوجّه، إذ يقول إنّ هذه العقود بين أربيل وشركاتٍ أميركية تكشف عن نجاح أكراد العراق، وتعمّد الموالين لإيران من الشيعة في الحكومة العراقية بعدم استثمار حقل عكّاز الغازي وغيره من الحقول، لإبقاء العراق رهينة الغاز الإيراني، وفق قوله.
أمّا الخبير الاقتصادي أنمار العبيدي، فيرى من جانبه أنّ كل مبرّرات وزارة المالية حول استيفاء إقليم كردستان لحصته من الموازنة ليست منطقية، لا سيما أنّ الموازنة لم تُقَرّ حتى الآن، ولم تُرسل الحكومة جداول الموازنة المعدّلة إلى البرلمان، فضلًا عن أنّ وزارة المالية لا تزال تعتمد التقنين في الصرف داخل الوزارات العراقية، إضافةً إلى أنّه ليس من المنطقي أن يستلم الإقليم حصته من الموازنة ونحن لا زلنا في منتصف العام المالي، وفق قوله.
ويتابع العبيدي في حديثه لـ “نون بوست” أنّ جميع المؤشرات تشي بأنّ ضغوطًا إيرانية كانت وراء عدم صرف رواتب موظفي الإقليم، مبيّنًا أنّ الأحداث السابقة تؤكّد تدخّل إيران، الذي وصفه بـ “السافر”، ومحاولاتها المتكرّرة لعدم استخراج الإقليم للغاز الطبيعي، مبيّنًا أنّ حقل خورمور الغازي في محافظة السليمانية كان قد تعرّض لاستهدافاتٍ عديدة بالطائرات المسيّرة، وهو ما يدلّ على أنّ إيران، ومن خلال استخدام فصائل شيعية موالية لها، تعمل جاهدةً على إبقاء العراق رهينة الغاز الإيراني، الذي يدرّ عليها مليارات الدولارات سنويًا، وفق قوله.
هي حرب طاقة يشهدها العراق، فما بين استيلاء الفصائل على المصافي النفطية الاستراتيجية داخل البلاد، وبين تدخّل إيران في ملفات النفط والغاز واستثمارهما، يبقى العراق رهينة عدم تمكّنه من بسط سيطرته على أراضيه، وسط ضعف الحكومة العراقية الحالية تارةً، وتحالفها مع هذه الفصائل تارةً أخرى، لأجل مصالح حزبية وانتخابية بعيدة عن مصالح البلاد العليا.