“ولد البلاد في المهجر”: خريطة الهجرة المغربية ومسارات الشتات

لم تكن فكرة الرحيل من قرى وبوادي ومدن المغرب إلى أوروبا وإلى الخليج العربي مجرد هروب من الفقر وضيق الأفق، بل كانت بالنسبة لشباب المغرب خطوة أولى في طريق البحث عن بلد يسع أحلامهم وطموحاتهم، وعن مكان في هذا العالم يمكن أن يكون فيه المغربي أكثر من مجرد فرد هامشي في اقتصاد هش.

يُقدّر عدد مغاربة العالم بما بين 6 و6.5 مليون شخص، موزعين على نحو 100 دولة، منهم أزيد من خمس مليون مسجل رسميًا لدى قنصليات المملكة، إضافة إلى عدد كبير من المغاربة المزدادين في المغرب والمقيمين بالخارج، وكذلك من وُلدوا في الخارج لأبوين مغربيين أو أحدهما مغربي، ويملكون جنسية مزدوجة.

وتُعدّ أوروبا الوجهة الأولى للمهاجرين المغاربة، إذ تستقطب نحو 89 في المائة من الجالية. وتظل فرنسا في صدارة الدول المستقبِلة بأكثر من مليون مغربي حسب بيانات سنة 2020، تليها إسبانيا التي شهدت أكبر معدل نمو في عدد المغاربة بين سنتي 1990 و2020، كما تزايد حضور المغاربة أيضًا في دول الخليج، وفي إيطاليا والدول الإسكندنافية مثل السويد والنرويج.

ووفق دراسة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، فإن الهجرة المغربية مرت بثلاث مراحل أساسية، بدأت المرحلة الأولى بين 1965 و1985، وارتبطت أساسًا بالعمالة في القطاعات المنجمية والصناعات الثقيلة والبناء، وكانت مؤطرة باتفاقيات ثنائية للعمل مع دول كفرنسا وهولندا وألمانيا وبلجيكا. 

أما المرحلة الثانية، فاستمرت من سنة 1985 إلى سنة 2000، وكانت مرتبطة بالقطاع الفلاحي في إسبانيا وإيطاليا. في حين ابتدأت المرحلة الثالثة منذ مطلع القرن الحالي، وتميزت بهجرة الكفاءات الوطنية في مختلف التخصصات والهجرة العمالية والفلاحية إلى أوروبا وأمريكا ودول الخليج.

الجيل الأول من المهاجرين

تعود أولى موجات الهجرة المغربية نحو أوروبا إلى فترة الاستعمار الفرنسي والإسباني للمغرب، بداية من سنة 1912، وذلك حين احتاجت الدول المستعمِرة، وخاصة فرنسا، إلى أيدٍ عاملة في مناجمها ومصانعها، فعملت على استقطاب شباب المغرب. 

في تلك الفترة، كان من أبرز أولويات سلطات الاستعمار الفرنسي تأمين السيطرة على الأراضي المستعمَرة، وتعبئة الموارد البشرية والمادية لدعم الاقتصاد الفرنسي وتعزيز ترسانته العسكرية، خاصة خلال الحرب العالمية الأولى. وفي هذا السياق، أنشأت وزارة الحرب الفرنسية جهازًا متخصصًا هو “مصلحة تنظيم عمال المستعمرات”، الذي تولى إدارة اليد العاملة المغربية، فارضًا رقابة صارمة ومباشرة على انتقاء وتوظيف العمال في مختلف القطاعات داخل فرنسا بما يخدم مصالح الدولة الاستعمارية.

بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، أعيد معظم العمال إلى وطنهم، نظرًا لطبيعة عقود العمل المؤقتة التي كانت تربطهم بالشركات الفرنسية، لكن انتعاش الاقتصاد الفرنسي فتح أبواب الهجرة مجددا أمام شباب المغرب، خاصة بحلول عام 1936 حيث تبنّت السلطات الفرنسية سياسة جديدة للهجرة، تُوّجت بصدور ظهير بتاريخ 13 يوليو 1938، أُنشئت بموجبه أول مصلحة رسمية للهجرة.

مقهى “أيّام زمان” في فرنسا (روبا غوغينيني)

وهي المصلحة التي أوكلت إليها مهمة تأمين اليد العاملة الأجنبية والتنسيق مع أرباب العمل الأوروبيين، وفي الفترة ما بين 1938 و1940، نظّمت هذه الهيئة ثلاث دفعات من العمال المغاربة، ضمت كل منها نحو 5 آلاف شخص، خُصّصت المجموعتان الأولى والثانية للعمل في الزراعة، لا سيما في حقول الشمندر السكري، والثالثة وُجهت للعمل في المصانع الحربية ودعم الفيالق العسكرية الفرنسية حيث شارك عدد كبير منهم في الحرب العالمية الثانية.

مع بداية الستينيات، شهدت الهجرة المغربية توسعًا غير مسبوق وتنوعًا في الوجهات، فلم تعد مقتصرة على فرنسا، بل امتدت إلى دول أوروبية أخرى كبلجيكا وهولندا وألمانيا وإنجلترا، وحتى إلى بلدان لم تكن في السابق مقصدًا للهجرة مثل إسبانيا وإيطاليا.

ورغم هذا التنوع، ظلت فرنسا الوجهة الأبرز، خصوصًا أن موجات الهجرة نحوها قبل الستينيات كانت ذات طابع قسري، يطغى عليها انتقاء جغرافي صارم، إذ كانت السلطات الفرنسية تفضّل استقدام العمال من مناطق مغربية محددة لتلبية حاجياتها الفلاحية والمنجمية، مما خلق نوعًا من التمركز الجغرافي للمهاجرين داخل محافظات فرنسية بعينها.

وعكس أوروبا، لم تكن الهجرة المغربية إلى الخليج العربي نتاجًا مباشرًا لعلاقات استعمارية، وإنما نشأت تدريجيًا بعد الحرب العالمية الثانية في إطار حاجة هذه الدول الصاعدة إلى يدٍ عاملة. في البداية، اتجه المغاربة إلى لبنان وسوريا، ثم بدأ البعض ينتقل إلى دول الخليج، خاصة السعودية والكويت، حيث كانت الطفرة النفطية في بداياتها. 

حينذاك لم يكن عدد المهاجرين كبيرًا، بل اقتصر على فئات معينة من الحرفيين والخبراء في المهن البسيطة، وعادةً ما كانت الهجرة مؤقتة أو موسمية، لكن مع ارتفاع أسعار النفط وتوسّع المشاريع العمرانية الكبرى في السعودية والإمارات والكويت لعبت وكالات الوساطة المغربية الرسمية وغير الرسمية دورًا في تنظيم عقود العمل، وبدأ المغاربة يتجهون إلى هذه الدول ليس فقط كعمّال، وإنما أيضًا كممرضين وأطر تقنية ومعلمين وإداريين.

فيليكس موغا.. أشهر وسيط للهجرة في المغرب 

لم يكن اسم “موغا” مجرّد اسم موظف فرنسي عادي، بل علامة فارقة في ذاكرة الهجرة المغربية نحو فرنسا، فقد تميز هذا الضابط العسكري، الذي اشتغل بمكتب الشؤون الأهلية بمدينة كلميم، جنوب المغرب، بعد الاستقلال، بإتقانه للغات المحلية، وهو ما جعله وسيطًا مثاليًا بين الدولة الفرنسية ومناطق الجنوب المغربي في أكبر عملية تجنيد منظم للعمال خلال ستينيات القرن الماضي.

بعد انتهاء خدمته العسكرية، التحق موغا بالشركة الوطنية الفرنسية للمناجم التي كانت تواجه أزمة نقص اليد العاملة، ولأن الفرنسيين أنفسهم لم يعودوا راغبين في العمل في المناجم بسبب ظروفها الصحية الصعبة، عرض موغا خطةً طموحة: انتقاء آلاف الشباب من قرى الجنوب المغربي للعمل في المناجم الفرنسية.

هكذا تحرك موغا بنفسه، بالتنسيق مع السلطات المغربية، إلى قرى مدن ورزازات وتارودانت وتزنيت وتفراوت، حيث نُظمت حملات واسعة لاستقدام الشباب، تتسم أحيانا بالإقناع وأحيانًا أخرى بالإجبار، وكانت الشروط بسيطة: أن يتراوح السن بين 18 و30 عامًا، والوزن لا يقل عن 55 كيلوغرامًا، ولم تكن هناك مقابلات أو اختبارات معرفية، بل مجرد فحص للعضلات تحت شمس الجنوب الحارقة.

كما كانت العلامة الخضراء التي يضعها على صدر الشاب تعني قبوله وسفره لاحقًا إلى أكادير ثم الدار البيضاء ففرنسا، بينما كانت العلامة الحمراء تعني الرفض، وأحيانًا تُعدّ وصمة عار في القرى، كما توثق ذلك الأغاني الشعبية التي سخرت من “الراسبين في اختبار موغا”.

ولم تكن هجرة الستينيات والسبعينيات مجرّد مبادرة فردية، بل عملية منظمة شاركت فيها الدولة الفرنسية والسلطات المحلية، وجعلت من شباب القرى كتلة بشرية تُنقل بالجملة إلى مناجم أوروبا، في مقابل أمل غامض في مستقبل أفضل، وحنين لا ينقطع إلى القرية الأصل.

في هذه الفترة كان الجيل الأول قد انخرط في الحركات العُمالية والنقابية في فرنسا، مثل الاتحاد الوطني للعمال المهاجرين، الذي لعب دورًا مهمًا في المطالبة بحقوق المهاجرين، خصوصا منهم الذين عملوا في مجال صناعة السيارات، إذ استفادوا من التغطية الصحية وكافة الحقوق الاجتماعية إلى أن حصلوا على التقاعد، رغم أنهم لم يكونوا يتوفرون من قبل على أي تكوين في المجال.

مواليد المهجر.. مغاربة لكن بطريقة خاصة

بعد أن كانت الهجرة مقتصرة على فئة العمال الذكور القادمين في إطار تعاقدات قصيرة الأمد، بدأت تأخذ منحى جديدًا مع التحاق الزوجات والأبناء، ما أدى إلى انتقال المهاجرين من وضعية العمال المؤقتين إلى مقيمين دائمين، ومن ثم إلى تكوين أسر مستقرة في بلدان الاستقبال.

قد أدى هذا التحول إلى تزايد أعداد المواليد داخل بلدان المهجر، وتشكل ما يُعرف اليوم بالجيلين الثاني والثالث من المغاربة في أوروبا، حيث تشير الأرقام إلى أن المغاربة يتصدرون الجنسيات المولودة في القارة بحوالي 2.29 مليون مولود إلى غاية سنة 2019، ما يعني أن هؤلاء قضوا جل حياتهم في المهجر.

يطرح هذا الاستقرار مسألة اندماج هذه الفئة في المجتمعات الأوروبية، إذ حافظت معظم العائلات المغربية على تقاليدها الثقافية والدينية، حتى مع تأثرها الواضح ببيئة المجتمعات الأوروبية، وهو ما أفرز جيلًا واعيًا بتعدد انتماءاته، فأصبح يعيش بين هويتين، إحداهما مغربية تُستعاد عبر الذاكرة وأحاديث العائلة وتربيتها، والثانية أوروبية تُعاش يوميًا في الشارع والمدرسة وأماكن العمل. 

وهذا الجيل الذي بات يُعبّر عن نفسه بلغةٍ هي مزيج من الدارجة المغربية أو الأمازيغية، واللغات الأوروبية، وباختيارات موسيقية وفنية وأسلوب حياةٍ يعبّر عن هويّة هجينة ومتعددة.

هكذا، لم يعد أبناء الجالية مجرد امتداد للهجرات الأولى، بل أصبحوا فاعلين في تشكيل حضور مغربي جديد في أوروبا، بحيث لا يمكن اختزاله في صورة نمطية عن “العمال المهاجرين”، خاصة أن عددًا منهم تقلد مناصب رفيعة في مؤسسات وشركات كبيرة في عموم أوروبا.

قلق الهوية في ظل تصاعد اليمين الأوروبي

في ظل تصاعد التيارات اليمينية وموجة الخطاب المتطرف في أوروبا، حيث ركزت بعض الأحزاب على مهاجمة الجالية المسلمة، متهمة إياها بعدم الاندماج والتطرف وتهديد القيم الأوروبية؛ يعيش المهاجرون المغاربة قلقًا كبيرًا.

قد وثق تقرير لـ”Pew Research Center ازدياد المشاعر السلبية تجاه المسلمين في هذه البلدان، مما أثّر على الشباب المغربي هناك، خاصة في المدارس وسوق العمل.

تتبنّى أحزاب أقصى اليمين في أوروبا خطابًا متشددًا تجاه المسلمين، وتعتبرهم تهديدا مباشرًا “للقومية المسيحية في القارة”، ففي هولندا، عبّر زعيم حزب الحرية خيرت فيلدرز مرارًا عن مواقف عدائية تجاه المسلمين، إذ دعا إلى إغلاق الحدود أمامهم، وقدم سنة 2018 مشروع قانون يدعو إلى إغلاق جميع المساجد في البلاد.

وفي ألمانيا، لا يُخفي حزب “البديل” عداءه للمسلمين، إذ سبق أن أعلن في برنامجه السياسي أن”الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا”، معتبراً إياه نقيضًا للدستور الألماني، ومحذرًا من “أسلمة البلاد”. هذا الخطاب لم يظل حبيس التصريحات، بل انعكس في تحريضات متكررة على الجالية المسلمة، ما ساهم في تغذية العداء والعنف اللفظي والمادي تجاههم.

أما في إيطاليا، فقد ذهب زعيم حزب “ليغا”، ماتيو سالفيني، أبعد من ذلك، متهما المهاجرين المسلمين بـ”نشر معاداة السامية”، معتبرًا أنهم يشكلون نواة مشروع “خلافة إسلامية” تسعى إلى الهيمنة على القارة الأوروبية، ومطالبًا بتدخل عاجل للحيلولة دون تحقق هذا “السيناريو”، وداعيًا إلى تمكين القوميين من الوصول إلى السلطة “قبل فوات الأوان”.

هذه الخطابات المتطرفة، وإن بدت أحيانًا مبالغًا فيها، فإنها تعكس مزاجًا سياسيًا يتصاعد في عدد من الدول الأوروبية، مستغلا مخاوف السكان من التغيرات الديمغرافية والاقتصادية، ليحوّل المهاجرين إلى “كبش فداء” جاهز عند كل أزمة، ويجعلهم تعيشون تحت الضغط.

عمومًا، منذ الجيل الأول الذي هاجر إلى فرنسا إلى الجيل الحالي، تعكس تجربة مغاربة المهجر مسارًا معقدًا من التكيف والتمرد، من التهميش في المناجم إلى تقلد أرفع المناصب، فقد بدأ هذا المسار في سياق استعماري وبعقود عمل قصيرة الأمد، لكنه سرعان ما تحول إلى استقرار يعيد رسم هوية أوروبا نفسها.