حرب الـ12 يومًا: ما الذي ميّز أول صدام مباشر بين إيران و”إسرائيل”؟

شهدنا خلال الأيام الـ12 الأخيرة تصعيدًا استثنائيًا يُسجَّل كأحد أكثر الفصول خطورة في تاريخ الصراع الإيراني – الإسرائيلي، إذ لم يكن ما جرى مجرّد توتر عابر بين طهران وتل أبيب، بل لحظة مفصلية خرج فيها الصراع من الظلال إلى المواجهة العلنية، متجاوزًا سنوات من الاغتيالات والحروب السيبرانية والضربات الغامضة.

العالم كان يراقب بقلق، مع اقتراب المنطقة من حافة حرب شاملة تتجاوز التقاليد المعتادة، وتمتد بارتداداتها إلى الخليج والعالم. وفي اللحظة التي بدا فيها الانفجار الكبير وشيكًا، ومع تساقط صواريخ إيرانية على حيفا، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقف إطلاق النار ودخول التهدئة حيّز التنفيذ.

هذا ليس إلا فصلًا جديدًا أُغلق في سلسلة الصراع بين إيران و”إسرائيل”، لكن لا شك أن ما بعده ليس كما قبله، إذ لم تنتهِ الخلافات بين الطرفين، بل أضحت أكثر عمقًا وحدة، خصوصًا أن الخسائر لدى الطرفين كانت بليغة، والأهداف المعلنة لم تتحقق.

في هذا التقرير، نستعرض أبرز ما ميّز هذا التصعيد الاستثنائي: كيف بدأ؟ وإلى أين وصل؟

أول مواجهة مباشرة

استفاق العالم يوم 13 يونيو/حزيران الجاري على وقع صواريخ إسرائيلية تستهدف منشآت نووية إيرانية وقادة عسكريين وعلماء نوويين بارزين، والهدف بحسب الرواية الإسرائيلية، هو “تدمير البرنامج النووي الإيراني الذي يشكّل خطرًا وجوديًا على إسرائيل”، فلم يكن أمام إيران إلا أن ترد أمام حجم الخطوط الحمراء التي تجاوزتها “إسرائيل”، لتبدأ سلسلة من الهجمات المتبادلة بين الطرفين استمرت 12 يومًا.

كان هذا التطور الذي فتح فصلًا جديدًا في الصراع بين تل أبيب وطهران أولَ مواجهة مباشرة بعد عقود من حرب الوكالة والعمل السرّي، فبينما كانت “إسرائيل” تستهدف مواقع إيرانية في سوريا والعراق، أو أحد أذرعها كحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، وكانت تتبادل مع إيران الهجمات على السفن في عرض البحر، أصبحت المواجهة الآن في عمق طهران، والأخيرة ترد بصواريخ فتاكة.

كان الطرفان يفضلان حرب الوكالة، كونها تُبقي الصراع تحت العتبة وتحدّ من الخسائر الداخلية لكل منهما، مع فرصة استنزاف الخصم دون تحمّل كلفة حرب شاملة، لكنها اليوم انتقلت إلى عقر دارهما، حيث استهدفت صواريخ إيرانية مجمّع وزارة الدفاع الإسرائيلية (الكرياه)، ومركز الاستخبارات العسكرية للجيش الإسرائيلي (أمان) في هرتسيليا، وميناء ومصفاة حيفا، و”عقل إسرائيل النووي” معهد وايزمان للعلوم.

في المقابل، طالت الهجمات الإسرائيلية ضد إيران منشأة نطنز النووية ومفاعل آراك وحقل بارس الجنوبي ومصانع لإنتاج الصواريخ وغيرها من المواقع الحيوية لكلا الطرفين.

صواريخ تطلقها إيران لأول مرة

وُضعت إيران، لأول مرة منذ سنوات، في اختبار مختلف لدفاعاتها الجوية وقدراتها العسكرية، فرغم أنها سارعت بالرد على الهجمات الإسرائيلية، إلا أن هجومها لم يكن متناسبًا مع حجم الخسائر التي أسفرت عنها الضربة الإسرائيلية، ولم يرقَ إلى المستوى المأمول.

ومع توالي الغارات الإسرائيلية، التي بدت قادرةً على اجتثاث برنامجها النووي وربما تقويض الدولة نفسها، اضطُرّت طهران إلى تغيير استراتيجيتها في مواجهة تل أبيب؛ فأطلقت للمرة الأولى صواريخ باليستية طوّرتها سرًّا على مدى أعوام، مُظهرةً قدرتها التدميرية، وراسمةً خطًا أحمر يُلجم “إسرائيل” عند حدّها.

في 23 يونيو/حزيران الجاري، أطلقت إيران صواريخ “قدر H” من طراز “خيبر” باتجاه “إسرائيل”، لأول مرة خلال هذه العملية، ويصل مدى هذا الصاروخ الباليستي إلى نحو 1700 كيلومتر.

كما أعلنت إطلاق صواريخ من نوع “فتاح – 1” في المرحلة الـ11 من عمليتها ضد تل أبيب، التي سمّتها “الوعد الصادق 3″، في استهداف مواقع داخل “إسرائيل” للمرة الأولى.

صاروخ فتاح البالستي / وسائل إعلام إيرانية

ويُعدّ صاروخ “فتّاح” أول صاروخ باليستي فرط صوتي تصنعه إيران، يبلغ مداه 1400 كيلومتر، وتتراوح سرعته بين 13 و15 ماخ (أي ما بين 15,900 و18,360 كم/ساعة)، ويستغرق الصاروخ خلال فترة التحليق 400 ثانية من الإطلاق حتى إصابة الهدف.

وفي الموجة الـ12 من هجماتها، استخدمت إيران صواريخ من نوع “سجيل”، فائقة الثقل، بمدى يصل إلى ألفي كيلومتر، لأول مرة في هجوم على “إسرائيل”.

منظومة الردع الإسرائيلية

لطالما تفاخرت “إسرائيل” بأنظمة الدفاع الجوي لديها، وخاصة القبة الحديدية ومقلاع داوود، واعتبرت أنها محصّنة أمام أي خطر محتمل، لكن خلال الحرب الأخيرة بين الطرفين، تمكّنت الصواريخ الإيرانية من اختراق أجواء “إسرائيل” وإصابة مواقع حساسة وقتل عشرات الإسرائيليين. وقد أكدت مجلة “وول ستريت جورنال” في تقرير لها أن “إسرائيل” تواجه نقصًا في الصواريخ الاعتراضية المستخدمة في منظومة الدفاع الجوي “حيتس 3”.

وعلى الرغم من تصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي تؤكد أن دفاعاتهم الجوية اعترضت نحو 90% من الصواريخ الإيرانية، إلا أن مشاهد الدمار في المناطق التي طالتها الصواريخ الباليستية الإيرانية تظهر فشل منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية متعدّدة الطبقات، ما أثار شكوكًا حول فعالية هذه المنظومات.

وقد كشف هذا التصعيد عن نقاط ضعف جوهرية، يتمثّل أبرزها في الاستنزاف السريع للمخزون من الرؤوس الاعتراضية أمام موجات الإغراق الصاروخي، وتفاوت معدلات الاعتراض بين طبقات المنظومة تحت ضغط الكم والسرعة والقدرة على المناورة.

ضربة أميركية غير مسبوقة  

بعد سلسلة من التهديدات الأمريكية لإيران بوقف هجماتها على “إسرائيل”، وتضارب التصريحات حول مشاركة واشنطن في الضربة الإسرائيلية ضد طهران، شنت الولايات المتحدة الأمريكية، يوم 21 يونيو/حزيران، هجومًا على 3 منشآت نووية في إيران في عملية أُطلق عليها اسم “عملية مطرقة منتصف الليل”، لتنتقل للمرة الأولى من سياسة “الضغط والعقوبات” إلى ضرب العمق النووي الإيراني علنًا.

طال الهجوم، الذي وُصف بغير المسبوق، منشأتين لتخصيب اليورانيوم في فوردو ونطنز، بالإضافة إلى منشأة أصفهان، وقد استخدمت الولايات المتحدة، لأول مرة، أكبر قنابلها الخارقة للتحصينات، وهي قنبلة GBU-57 الخارقة للذخائر الضخمة (MOP)، فيما أكد رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال دان كين، أن واشنطن أسقطت 14 قنبلة خارقة على هدفين، بمشاركة أكثر من 125 طائرة أمريكية في العملية.

وقد ردّت إيران على هذه العملية الفريدة من نوعها بفعل غير مسبوق أيضًا، إذ استهدفت قواعد أمريكية في الخليج، شملت قاعدة العديد في قطر، والأسطول الخامس في البحرين، وقاعدة عين الأسد في العراق، من دون أن تسفر هذه الضربات عن خسائر بشرية.

خسائر الطرفين 

تميّزت هذه الحرب بأنها ألحقت أضرارًا بالغة بكلٍ من إيران و”إسرائيل” لأول مرة في تاريخ الصراع بين الطرفين، فشكّل اغتيال كبار القادة الإيرانيين، بينهم اللواء محمد باقري، وفي الحرس الثوري حسين سلامي، ورئيس القوة الجوفضائية أمير علي حاجي زاده، أقسى ضربة تتعرض لها القيادة العسكرية الإيرانية منذ الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، بينما سجّلت إيران ما بين 650 و865 قتيلًا من المدنيين وعناصر الحرس الثوري، بحسب إحصائيات منظمات حقوقية إيرانية، وهي أعلى حصيلة قتلى في نزاع مع “إسرائيل”.

كما شهدت 3 منشآت رئيسية ضمن البرنامج النووي الإيراني تضررًا بالغًا، وهي: فوردو، نطنز، وأصفهان، يُضاف إلى ذلك الدمار الذي لحق بمحطات كهرباء صغيرة وخزانات وقود قرب أصفهان، وفي تقدير أوّلي لمعهد العلوم والأمن الدولي، تحتاج طهران إلى نحو 10–15 مليار دولار لإعادة بناء البنى التحتية النووية وتبديل أجهزة الطرد المركزي المدمّرة، فيما فقدت 14 عالمًا نوويًا جرّاء الضربات، مما يعيق تقدم برنامجها النووي.

أما “إسرائيل”، فشهدت تدميرًا في قلب مراكز مدن رئيسية مثل حيفا، وبعض مدن تل أبيب وكرحوفوت وبات يام وريشون لتسيون، حيث نادرًا ما كانت هذه المدن مسرحًا للأحداث والخسائر في الحروب التي شنّتها “إسرائيل” ضد العرب والفلسطينيين منذ تأسيسها، فيما أعلن الإسعاف الإسرائيلي أن الحرب مع إيران خلّفت 28 قتيلًا وأكثر من 1300 مصاب.

اقتصاديًا، تشير التقارير إلى أن الهجمات التي شنتها إيران أسفرت عن أضرار تقدَّر بنحو 277 مليون دولار، حيث تلقت مصلحة الضرائب الإسرائيلية بالفعل 9900 طلب تعويض. وبحسب موقع “فاينانشيال إكسبريس”، أنفقت “إسرائيل” نحو 5 مليارات دولار في الأسبوع الأول من الحرب، في حين بلغت النفقات اليومية للحرب 725 مليون دولار، وذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن التكلفة اليومية لأنظمة الدفاع الجوي الصاروخي تتراوح بين 10 ملايين و200 مليون دولار بالنسبة لـ”إسرائيل”.

لقد فتحت هذه الحرب القصيرة صفحة جديدة في الصراع الإيراني – الإسرائيلي، لم تُكتب بالحسابات التقليدية، بل بلغة الصواريخ والغارات والمعادلات المتحوّلة، ورغم إعلان التهدئة، إلّا أنها ليست مجرد “هدنة مؤقتة” في حرب طويلة لم تنتهِ، بل ستمتد آثارها لتغيّر توازن الردع في الشرق الأوسط.