مسلسل “مغتربون”.. سوريا تحكي عن لاجئيها

“إلى كل تلك السنوات التي زخرت بالأمل وخيبة الأمل”.. استهلّ كاتب الجاسوسية صالح مرسي إحدى أفضل كتبه بذلك الإهداء الذي قدّمه إلى سنوات الستينات التي أنتجت جيله.
مرّ فيها ذلك الجيل، دون غيره، بأقسى دركات الشقاء وأكبر درجات الأمل، فقد غيّرت السياسة كل الحياة آنذاك، وربما لا تبدو تلك المشاعر الراديكالية التي زخرت بالأمل وخيبة الأمل غريبة اليوم على كل سوري عايش الحرب المؤرقة، كما شاهد الانتصار النسبي بهروب السفاح بشار الأسد الذي تسبب في كل ذلك الخراب.
ثلاثة عشر عامًا أو يزيد قليلًا مرّت على سوريا كذلك، حوّلتها من أقصى اليمين إلى اليسار، ودمّرتها وشرّدت أغلب أهلها قبل أن تقدّم وعودها الأخيرة بإعادة البناء والأمل، لكن تتفتّح اليوم طرق العديد من الأعمال على واقع الحرب والفساد السياسي والأمني والدمار الاقتصادي والاجتماعي، وهذا ما يحاول أن يقف عنده المسلسل الدرامي الاستثنائي: “مغتربون”.
يمكن وصف مسلسل “مغتربون” باعتباره عملًا دراميًا استثنائيًا، ولأكثر من سبب، إذ يبدو المسلسل أكثر ثورية على مستواه الخطابي المتحرر تمامًا، لدرجة صعوبة إذاعته على التلفزيون، وهو ما جعله يُعرض على منصات رقمية كما يُعرض على يوتيوب، بالرغم من وجود نجوم الصف الأول السوري مثل لجين إسماعيل وريام كفارنة وأيمن عبد السلام.
تدور أحداث المسلسل في حلقات منفصلة متصلة حول ثلاثة أشخاص غادروا سوريا بعد اندلاع الحرب، حيث يواجه كل منهم تبعات النزوح واللجوء على الصعيد الاجتماعي والنفسي والاقتصادي وتأثيره عليهم. يبدأ المسلسل من لحظة “النزوح” وينتهي يائسًا مع حلقة بعنوان “لمّ الشمل”، الذي يحدث في الغربة لتلك الأسرة، وليس في سوريا مرة أخرى كما يتمنى كل مشاهد.
يتقاطع السياسي مع الاجتماعي في “مغتربون”، الذي يحكي دراميًا قصصًا حقيقية عايشها كل سوري اضطر للغربة والبعد عن بلاده. الاغتراب الذي يحكي المسلسل عنه هنا يبتعد مكانيًا وزمانيًا عن سوريا ما قبل الحرب، ويحصر ذاته في لحظة بداية الحرب التي أدّت لكل شيء لاحقًا.
خطاب يواجه كل الأزمات
في أحد خطابات رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، الجنرال مارتن ديمبسي، في أغسطس/آب 2013، قال الرجل: “إن سوريا اليوم ليس بها طرفا نزاع لتختار من بينهما، بل بها أطراف متعددة عليك أن تختار واحدًا منهم. وفي اعتقادي أن الجانب الذي سنختاره يجب أن يكون على استعداد لتعزيز مصالحه ومصالحنا عندما يتحوّل ميزان القوى لصالحه. واليوم، لا يوجد مثل هذا الطرف”.. هذه الكلمات يقتبسها جلبير أشقر ليصف بها سوريا على مدار سنواتها العشر الأخيرة.
بعيدًا عن ثوريته على كل تقليدي ومعتاد، وإزاحته بشكل غير مباشر لكل ما يمثّل الجيل الأقدم نسبيًا، فإن المسلسل يضيّق مساحة مناقشته على ثلاثة من الجيل ذاته، ويختبر قناعاتهم تجاه أنفسهم وتجاه الدولة. وربما دون أي تغيير، يبدأ المسلسل من إظهار ذلك الشتات الخارجي والداخلي، من لحظة هروب/نزوح رجل وزوجته إلى منزل أخ الزوجة بعد قصف قريتهم، والتفكير في الهروب من البلد كلها.
لا يبدو مسلسل مغتربون منشغلًا بقضية بعينها، بل بسلسلة مستمرة من المآسي، جميعها يظهر بسبب الحرب التي تجعل الجميع مرعوبًا من مصيره، فالحرب تفكك الأسر وتسعى إلى تغريب الجميع عن الذات.
الحلقات الثلاثون تبدأ من تتر مقتضب سريع يقول في كل مرة: يُقدّر عدد النازحين واللاجئين السوريين داخل البلاد وخارجها بثلاثة عشر مليون شخص، لكن هذه حكاية ثلاثة منهم على وجه التحديد، إذ يعتقد المؤلفان نجيب نصير ورامي عمران، والمخرج عمار الجاني، أن هؤلاء الثلاثة يختصرون حياة كل لاجئ سوري.
يبدأ المسلسل من خارج سوريا، حيث تحكي فيه البطلة بأثر رجعي إلى محامية عيّنتها إدارة الهجرة لمعرفة أسباب الهروب من سوريا، وتسترجع البطلة قصتها من البداية مع زوجها وأخيها: كيف بدأ كل شيء من الحب وتفرّق بسبب الأنانية الذاتية التي أظهرتها الحرب ولم تصنعها.
حلقات مختلفة عن وضع المرأة القاسي، وأكاذيب الحب المتحرر، والتسامح الديني المتوهّم، والنظرة الذكورية التي لم تعد مؤهلة للتعايش، والطمع النسائي المتكرر في الغنى، والماضي التعيس الذي كان الأبطال يظنّون أنهم تجاوزوه، فالحرب تضع الجميع تحت المقصلة وتفضح الكل، لكنها لا تدين أحدًا على كل حال؛ فقط كاميرا تمر وتتساءل ولا تتوقف لتُحاسب أحدًا.
كل شيء يتغيّر ويدعو للتساؤل عمّن تسبب في المأساة السورية، وبدلًا من تحميل المأساة كلها على السياسيين، يختبر الصنّاع قناعات الأشخاص أنفسهم، أحيانًا يكشف زيفها، وأخرى ينعي عجزها، لكنه يقرّ حقيقة أساسية في كل مرة: التغيير الحتمي في سوريا الداخل والخارج.
في إحدى الحلقات تقول البطلة لزوجها: “لا، أنت اتغيّرت وأنا اتغيّرت، بس أنت ظلّيت تدور على محاية، أنا بدّي أدور على صفحة بيضا”.. هكذا يتحرّك الأبطال بعد التغيير: أحدهما يسعى لمحو الماضي، بينما الآخر يحاول اختراع حياة كاملة.
الدراما أيضًا تثور على القديم
السبب الآخر الأكثر تجاوزًا من المسلسل يبدو بالاستثمار في الدراما اليوم التي نشاهدها بعيدًا عن القنوات التلفزيونية ليتّجه نحو الدراما القصيرة المخصصة للعرض عبر الهاتف المحمول، لمواكبة تطوّر أنماط المشاهدة واهتمامات الجمهور الرقمي.
بات هناك تفكير في إنتاج أعمال درامية قصيرة مخصصة للعرض على الهواتف فقط، لا تتجاوز مدة الحلقة الواحدة بضع دقائق، ما يجعلها قريبة في الشكل من النمط الشائع على التطبيقات الغربية الرائجة مثل Quibi سابقًا، وهو ما خرج منها مسلسل “مغتربون” المكون من ثلاثين حلقة منفصلة، كل حلقة لا تتجاوز العشر دقائق كحد أقصى.
وفقا لتقرير أرس تكنيكا، وبشكلٍ عام، فقد بدأت منصات البث الرقمية تتبني المشروعات الفنية المختلفة، والتي لم تعتد شركات الإنتاج التقليدية إنتاجها، ما منح المشاهدين أعمالا فريدة مثل Stranger Things وYellowjackets.
أو كما يقال إن “عصر التلفزيون الجيد في طريقه إلى الاندثار”، إذ تعاني معظم المنصات لتحقيق الربح، خاصة مع تصدر المواقع التي تسمح للمستخدمين بإنشاء المحتوى السباق على حساب منصات البث لأول مرة على الإطلاق، ما أثر على شركات البث العملاقة، ودفعها إلى إعادة التفكير في استراتيجياتها ومنح الأولوية للربح على المخاطرة بالتجارب الجديدة.
ترى “إنتربرايز” أن الأولوية بالنسبة للمنصات تتلخص في الاستحواذ على حقوق بث المباريات المباشرة، وبرامج الواقع وإنتاج مواسم لا تنتهي من المسلسلات الشهيرة، كما تعتمد بشدة على الإرث التلفزيوني القديم لأعمال مثل Suits وThe Big Bang Theory، والتي لا تزال تهيمن على قوائم الأعلى مشاهدة بعد سنوات من عرضها الأول، بالإضافة إلى تبني معظمها نماذج الإعلان التي لا تختلف كثيرًا عن اعتماد التلفزيون التقليدي على الإعلانات.
كل تلك التغييرات والأفكار جعلت الحلول البديلة، إلى جانب ثوريتها، هو مسار نقاش علينا فهمه وإدراك سياقه وتأثيره الثقافي والإجتماعي لا سيما السياسي، وهكذا تبدو هنا نقطة مركزية عند الحديث عن المسلسل السوري “مغتربون” الذي اختار إلى جانب ثوريته الخطابية، جرأة كبيرة في شكله الفني النهائي الذي بدأ متجه لجيل جديد نضج مع الحرب وخلالها، يعيد مشاهدة سوريا البِكر؛ موضوعًا وشكلًا.
تسببت تلك الاختيارات الفنية واللوجستية، في متابعة آراء الجمهور بشكل أكثر وضوحًا من المتابعة القديمة التي كانت تتوقف عند توقّع أو الرهان على جمهور بعينه، إذ يمكنك الآن أن تدخل إلى مشاهدة المسلسل التي يصاحبها بعض التعليقات من الشباب الذي يقيس مدى تعبير المسلسل عن حياة الشباب السوري اليوم، فالبعض يؤيّد والآخر يرى أنه ثمة تجاوز أو تشاؤم مفرط تجاه القديم.
بشكلٍ عام، فإن مسلسل “مغتربون” محاولة مضنية لإظهار التغيير السوري من خلال المواطنين المكلومين، لا من خلال أهل السياسة، فيبدو كمرثية للاعتراف بالفقد والهزيمة والتساؤل عن حقيقة ذواتنا في لحظة اختبار قاسية مثل الحرب.