بين التهجير والتجنيد: كيف يوظف الاحتلال الجوع أداةً للسيطرة؟

تنوعت أساليب سياسة الإبادة الجماعية التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي في غزة منذ بدء عدوانه في السابع من أكتوبر 2023، إذ لم يكتفِ بالقصف العشوائي، بل اجتهد في كل مرة ليبتكر طرقًا خارجة عن المألوف في محاولة متواصلة لتحقيق هدفه غير المعلن: تفريغ غزة من أهلها ومحوها عن الخريطة.
من استخدام الذكاء الاصطناعي في تحديد أهداف القصف العشوائي، إلى إحراق الأحياء وتفجير البنية التحتية، ثم دفع السكان إلى الهجرة القسرية، لكل وسيلة في هذه الحرب منهجيّتها، ولكل أداة دورها في هندسة الموت الجماعي تحت غطاء “الردع” أو “الدفاع عن النفس”.
التجويع إحدى هذه الوسائل التي لطالما اعتمدها قادة الحرب حتى منذ اللحظات الأولى للعدوان، إذ أعلن وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي السابق، يوآف غالانت، بعد يومين من بدء الحرب، فرض حصار شامل على قطاع غزة، قائلًا: “نفرض حصارًا كاملًا على مدينة غزة، لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق. نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقًا لذلك”.
تجلّى انتهاج سياسة التجويع والإجماع عليها في تصريحات مسؤولين إسرائيليين آخرين، حيث اعتبر وزير المالية بتسلئيل سموتريتش أنه قد يكون من العدل والأخلاق تجويع مليوني شخص في غزة، ومؤخرًا أدان وزير الأمن القومي الإسرائيلي استئناف دخول المساعدات إلى القطاع، قائلًا: “يجب ألا نُعطي أعداءنا الأكسجين”.
لا يستخدم الاحتلال الخبز لكسر إرادة الفلسطينيين فحسب، بل يدير مجاعة منظمة تهدف إلى استخدام التجويع كسلاح حرب طويل الأمد. في هذا التقرير، نرصد كيف يُوظّف الاحتلال التجويع كأداة مركّبة ضمن مشروع إبادة جماعية ممنهجة لا تستهدف فقط أجساد الفلسطينيين، بل إرادتهم وحقهم في البقاء على أرضهم.
حين يصبح التجويع حكمًا بالإعدام الجماعي
في غزّة، لا أحد آمن من القتل، أيًّا كان شكله. إن نجوت اليوم من رصاصة تخترق منزلك، فغدًا قد ينهكك الجوع حتى الموت بعد شهور من الحصار وسوء التغذية، وإن كان جسدك أقوى من غيرك على تحمّل الجوع، فأنت مهدد بالقصف أمام مركز توزيع المساعدات، المكان الوحيد الذي يمكنك من خلاله تأمين الطعام لعائلتك لكي يبقوا على قيد الحياة.
يؤكد تقرير للأمم المتحدة أن غزة تواجه ظروفًا كارثية من انعدام الأمن الغذائي الحاد في المرحلة الخامسة، وهو المستوى الأكثر تهديدًا للحياة في التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، وأظهر تقييم صادر عن التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) أن المستقبل القريب (من 11 مايو/أيار وحتى نهاية سبتمبر/أيلول 2025) سيشهد ارتفاع عدد الأشخاص الذين يعانون من المجاعة بدرجتها الخامسة ليصل إلى 470 ألف شخص (22% من سكان غزة)، مما يهدد بتفشي المجاعة بشكل كبير.
تتجلى خطورة الإحصائية السابقة مع ارتفاع حصيلة الشهداء الأطفال بسبب سوء التغذية، حيث وصلت إلى 66 طفلًا بحسب المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، كما تستقبل مستشفيات القطاع يوميًا 5 آلاف حالة من سوء التغذية، وهو التحدي الأكبر الذي يواجهه القطاع الصحي، إذ تعجز عن القدرة على علاجهم.
وأكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أن قطاع غزة يشهد موجة موت صامت تحصد أعدادًا متزايدة من أرواح كبار السن والأطفال نتيجة جرائم التجويع وإحداث المعاناة الشديدة والحرمان من الرعاية الصحية.
لا ينتظر الاحتلال أن تفتك المجاعة بالأجساد المنهكة، بل يسابقها إلى القتل. فبعد تشديد الحصار والسماح بدخول فُتات المساعدات الإنسانية، يستدرج الفلسطينيين إلى مراكز توزيع المساعدات وكأن الجوع لم يكن كافيًا لإنهاء حياتهم، فيرتكب المجازر عند أبواب الطحين.
وقد قتل جيش الاحتلال الإسرائيلي ما لا يقل عن 549 فلسطينيًا أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء من أمام مراكز المساعدات التي تديرها “مؤسسة غزة الإنسانية” منذ بدء عملها في 27 مايو/أيار الماضي، والتي وصفها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان بأنها “مصائد موت” توظفها “إسرائيل” ضمن أدوات الإبادة الجماعية التي تنفذها في القطاع.
تعمّدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إسناد مهمة توزيع المساعدات إلى “مؤسسة غزة الإنسانية”، التي أُنشئت في فبراير/شباط 2025 بدعم مباشر من “إسرائيل” والولايات المتحدة، بدلًا من توكيلها للمؤسسات الدولية ذات الخبرة في إدارة العمليات الإغاثية والوصول المنظم والعادل للسكان المدنيين في قطاع غزة، وفقًا للمرصد.
ويرتكب الاحتلال مجازر بشكل شبه يومي بحق منتظري المساعدات، منذ شهر، من أبرزها القصف الإسرائيلي الذي أودى بحياة 57 شخصًا وأسفر عن إصابة 363 آخرين بالقرب من أحد مراكز توزيع المساعدات في 11 يونيو/حزيران الماضي، والمجزرة التي ارتكبتها بحق المجّوعين في مدينة خان يونس جنوبي القطاع بعدما قصفتهم بالمدفعية، والتي راح ضحيتها 51 شهيدًا وأكثر من 200 مصاب قرب جسر وادي غزة.
ووصف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، آلية توزيع المساعدات التي تدعمها الولايات المتحدة في قطاع غزة بأنها “غير آمنة وتتسبب في مقتل السكان”.
جدير بالذكر أن هذه السياسة ليست بجديدة على الاحتلال، إذ سبق وأن ارتكب عدة مجازر أمام مراكز توزيع المساعدات منذ بدء العدوان على القطاع، أشهرها مجزرة دوار النابلسي في 29 شباط/شباط 2024، حيث أطلق الجيش الإسرائيلي النار على مئات الفلسطينيين أثناء محاولتهم الحصول على مساعدات قرب شارع الرشيد، مما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 112 فلسطينيًا وإصابة 760 آخرين.
التجويع كسلاح تهجير
منذ الساعات الأولى للعدوان، حوّل الاحتلال الإسرائيلي الجوع إلى ذراعٍ قسرية لدفع سكّان شمال غزّة نحو الجنوب؛ فأحكم خنق الإمدادات الغذائيّة عن تلك المناطق، ورافق ذلك بقصفٍ كثيفٍ يجعل البقاء هناك أشبه بمحاولةٍ للنجاة وسط موتٍ محقَّق.
وتزيد مراكز توزيع المساعدات من عمليات التهجير القسري، بحسب هيومن رايتس ووتش، حيث استحدث الاحتلال الإسرائيلي نقاط توزيع مساعدات في محوري نتساريم وموراغ لدفع السكان نحو الجنوب تحت وطأة القصف والجوع في إطار عملية تهجير تطال مناطق شمالي غزة.
وأعربت اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمات دولية أخرى عن قلقها من أن استراتيجية توزيع المساعدات التي تتبعها “إسرائيل” ستؤدي إلى “نزوح جماعي قسري للسكان المدنيين، ومنع الفئات الضعيفة مثل أولئك الذين يعانون من مشاكل في التنقل والأطفال من الوصول إلى المساعدات، وجعل الاستجابة الإنسانية المبدئية مستحيلة”.
ومنذ استئناف إدخال المساعدات في 19 مايو/أيار الماضي، لم تدخل سوى 28 شاحنة لبرنامج الغذاء العالمي إلى شمال غزة، في المقابل وصل أكثر من 9,500 طن من دقيق القمح إلى مراكز توزيع المساعدات في جنوبي القطاع حتى 22 يونيو/حزيران.
وكانت قد أقرّت حكومة بنيامين نتنياهو رسميًا الخطة العسكرية المسماة “عربات جدعون”، التي تستهدف السيطرة الكاملة على قطاع غزّة وتهجير سكّانه، وتتكوّن الخطة من ثلاث مراحل، تبدأ بإجبار أهالي شمال القطاع على النزوح إلى رفح جنوبًا، حيث يروّج الاحتلال لإنشاء “منطقة آمنة” وتوزيع المساعدات فيها.
وتقدّر الأمم المتحدة أعداد النازحين في غزة بنحو 1.9 مليون شخص – أي ما يعادل حوالي 90% من السكان – ومعظمهم اضطروا إلى النزوح عدة مرات في مناطق تفتقر إلى البنية التحتية الكافية لإيوائهم.
لا يسعى الاحتلال إلى تهجير الفلسطينيين نحو الجنوب فحسب، بل هو جزء من خطة متكاملة لطرد الفلسطينيين خارج أرضهم، إذ أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أن قوات الاحتلال تصعّد مساعيها لحصر وجود سكان غزة في منطقة ضيّقة على الساحل الجنوبي، تمهيدًا لتهجيرهم قسرًا خارج وطنهم، وفقًا لما تنص عليه “خطة ترامب” التي يتبنّاها نتنياهو كشرط سياسي لإنهاء العدوان على القطاع.
تربط “إسرائيل” علنًا بين سياسة التجويع والتهجير القسري؛ جاء ذلك على لسان عدد من مسؤوليها، منهم وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، الذي سبق وأن اشترط تهجير سكان غزة لاستئناف دخول المساعدات إليها، قائلًا: “المساعدات الوحيدة التي يجب أن تدخل غزة هي من أجل الهجرة الطوعية”.
التجويع للتجنيد.. المساعدات كأداة استخباراتية
بعد أن تدفعهم إلى حافة الجوع وتُرغمهم على التكدّس حول نقاط توزيع الإغاثة، تستغلّ “إسرائيل” غريزة الفلسطينيين في البقاء على قيد الحياة لتنتزع منهم معلوماتٍ استخباراتية تخدم حربها على غزّة، فقد خلص تحقيق أجراه موقع “عربي بوست” إلى أن الاحتلال يستخدم مراكز توزيع المساعدات على الفلسطينيين في قطاع غزة لتحقيق هدفين اثنين، مستغلًا إقبال مئات آلاف الفلسطينيين عليها بحثًا عن لقمة عيش.
أولها البحث عن عملاء، حيث يستغلّ الاحتلال تدفّق عشرات الآلاف إلى تلك المراكز ليحاول استمالة بعض الفلسطينيين الجوعى، خاصة أن توافد الناس يكون في ساعات الفجر أو بعد منتصف الليل، وسط ظلامٍ يحجب الوجوه ويشتّت الانتباه، مما يساعد العملاء على التسلّل بين الجموع دون أن يُلحَظوا، وهكذا يكون الاحتلال قد جمع معلومات عن المقاومة، تحرّكاتها وأفرادها، مستفيدًا من الفوضى والازدحام حول نقاط توزيع المساعدات.
الرضّع يدفعون الثمن الأفظع في الإبادة الجماعية في #غزة، حيث توفّي أكثر من 66 طفلًا جوعًا منذ أكتوبر 2023، في وقت تحذر فيه الأمم المتحدة من تفاقم خطير في معدلات سوء تغذية الأطفال. pic.twitter.com/GvkNYG1dYq
— نون بوست (@NoonPost) June 30, 2025
وبحسب ما جاء في التحقيق نقلًا عن شهود عيان، فإن مراكز التوزيع تبدأ بفتح بواباتها بين الثانية والثالثة فجرًا، وعند تدافع عشرات آلاف الفلسطينيين نحو البوابات، تتعمّد قوات الاحتلال المشرفة عليها حينها إطفاء الأضواء لعدة دقائق، وفي هذه الأثناء، قد تنفذ المخابرات الإسرائيلية مهامًا أمنية استخبارية، عبر استقدام عملاء إليها، أو إرسال قوات خاصة بينها لينخرطوا بين المواطنين.
أما الهدف الثاني، الذي تسعى “إسرائيل” إلى تحقيقه من خلال مراكز المساعدات التي تشرف عليها “مؤسسة غزة الإنسانية”، فيتمثل في تحديد أيٍّ من طالبي المساعدة ينتمي إلى المقاومة، والسعي لاغتياله أو اعتقاله أو إخفائه، وذلك بالاستفادة من تقنية التعرّف على الوجه عبر إجراءات الفحص البيومتري التي يُشترط على الفلسطينيين الخضوع لها للحصول على المساعدات.
حذّرت وزارة الداخلية في غزّة من أن الاحتلال يستخدم عملية توزيع المساعدات كغطاء لنشاط استخباراتي عبر مؤسسة “غزة الإنسانية”، منبّهة إلى أن الفحص البيومتري المطبّق في تلك المراكز قد يُوظَّف لتعقّب الفلسطينيين واستهدافهم لاحقًا، ما دفع كثيرين إلى تجنّب هذه النقاط خشية الوقوع تحت المراقبة أو التصفية.
ويقول مسؤولون إسرائيليون إن إحدى مزايا نظام المساعدات الجديد هي إتاحة الفرصة لفحص المستفيدين إن كانوا على صلة بحماس أو لا، ما يعدّ اعترافًا بشكل غير مباشر بمهمة مراكز التوزيع الاستخباراتية.
ليس التجنيد لغرض التزود بمعلومات استخباراتية فحسب، بل تمضي “إسرائيل” إلى أبعد من ذلك، لترعى عصابات تنهب وتسرق المساعدات الشحيحة، وتجمع إتاوت من شاحنات المساعدات بتوجيهات مباشرة من ضباط جهاز الشاباك الإسرائيلي، بحسب ما ذكرت صحيفة “هآرتس”.
من أبرز هذه العصابات، مجموعة “أبو شباب” التي ذاع صيتها العام الماضي، عندما نهبت شاحنات الأمم المتحدة وأعادت بيع الإمدادات الإنسانية التي كان من المفترض أن تصل إلى سكان غزة، كما استولت على شاحنة غاز وأشعلت النار فيها لقطع الطريق ومنع وصول المساعدات.
هل سينجح الاحتلال في تحويل #غزة إلى ميليشيات تُغذّيها الإمارات وتُباركها السلطة؟ وما دور ياسر أبو شباب في هذا المشروع؟ pic.twitter.com/wbPr4mvBV2
— نون بوست (@NoonPost) June 9, 2025
ويقدّر عدد عناصر العصابة التي يترأسها ياسر أبو شباب، وهو سجين هارب من إحدى سجون غزة، 100 عنصر معظمهم جندهم جهاز الأمن العام (الشاباك) وهم مجرمون متورطون في جرائم الاتجار بالمخدرات والتهريب والسطو على الممتلكات.
وكانت تتمركز العصابة قرب معبر كرم أبو سالم، شرقي رفح، وهو المعبر الوحيد الذي يسمح الاحتلال بمرور المساعدات منه إلى غزة، كما كانت تتموضع قوة ثانية لهم غرب رفح، قرب نقطة توزيع المساعدات التي تشرف عليها “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية.
مراكز المساعدات.. مسرح يومي للذل والإبادة الجماعية
“وقفت عاجزة أمام جوع ابني، لم أجد ما أقدمه له، بكيت كثيرًا وقلت له أن يشرب من الماء القليل لدينا ليسدّ جوعه”.. بهذه الكلمات وصفت الشابة الفلسطينية زينات ما تعيشه من قلة حيلة أمام جوع ابنها، وهو الشعور الذي تعيشه عشرات الآلاف من الأمهات في غزة دون أن تُلاقى أصواتهن صدى.
ذاته العجز الذي تتحدث عنه زينات يدفع أمهات وآباء غزة إلى الانتظار لساعات طويلة أمام مراكز المساعدات التي تحوّلت إلى مصائد موت، في مشهد سريالي وكأنه نهاية العالم. ووحده الجوع الذي شعر به ابن زينات يدفع الأطفال إلى الاحتشاد أمام التكايا لساعات طويلة دون الحصول على حصة تقي من الموت جوعًا.
“وصلنا منذ الساعة السادسة صباحًا ونحن ننتظر الحصول على طبق من الطعام المجاني، وفي النهاية لم نحصل عليه. الأطفال هنا ينتظرون لقمة أكل وماء، والناس لا تملك أي وسيلة للعيش”، يتحدث عاطف معروف، وهو نازح من بلدة بيت لاهيا، عن إحدى المحاولات اليومية للحصول على ما يسدّ الرمق.
لكن ربما لا تنتهي هذه المحاولات بسلام دائمًا، إذ يضع الاحتلال الفلسطينيين أمام خيار الموت جوعًا أو قصفًا بالرصاص ضمن منهجية مدروسة تعمل على إذلالهم لكسر إرادتهم وانتهاك كرامتهم، حيث ارتُكبت عشرات المجازر أمام مراكز توزيع المساعدات.
وصفت منظمة “أطباء بلا حدود” آلية توزيع المساعدات الأخيرة التي تديرها مؤسسة غزة الإنسانية بأنها صُممت لإهانة الفلسطينيين بإجبارهم على الاختيار بين الجوع أو المخاطرة بحياتهم من أجل الحصول على الحد الأدنى من الإمدادات”، كما اعتبرتها الأونروا بأنها نوع جديد من القتل يتمثل في جرهم إلى الموت بمناطق توزيع المساعدات.