جاكسون والسنوار وفانون.. تقاطعات الموت المقاوم للاستعمار

”مأساة الرجل الأبيض تكمن في أنه قد قتل، يومًا ما، شخصًا آخر، وإلى اليوم، هم يحاولون عقلنة هذا الموقف اللاإنساني”، هذه المقولة تُلخص تاريخًا طويلًا من ممارسات قتل الإنسان الأبيض، ليس لمُستعمَريه فحسب، بل حتى لأبناء “وطنه”، كما يدَّعي، الذين يراهم كأنهم الآخر، الأقل إنسانية، والسبب يكمن في لون بشرتهم الأسود.
هذا ما حدث مع جورج جاكسون، السجين والمناضل الأمريكي، الذي قتلته منظومة السجون الأمريكية، لكن قبل أن يموت، كان قد ترك فكرًا وممارسة عملية، بدورهما سطَّرا، مع كيفية موته، واحدة من أهم التجارب النضالية ضد الإمبريالية في التاريخ الحديث. فما هي رحلة جاكسون من حيث تشكّلات أفكاره ونضاله الثوري؟ وكيف تقاطعت أفكاره، من داخل سجنه ومن خلال أمميته النضالية، مع قضية تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي؟
السواد.. من العقلية الإجرامية إلى الثورية
دخل جورج جاكسون السجن، المولود في 23 سبتمبر/أيلول عام 1941، وهو في عامه الثامن عشر من حياته، بسبب سرقته 70 دولارًا من محطة بنزين. بعد ذلك، حُكم عليه بالسجن عام 1961 لمدة عام امتد إلى سجن مؤبد، لكنه قضى أحد عشر عامًا داخل السجن، منها ثماني سنوات في زنزانة انفرادية.
جاكسون، الأمريكي الأسود، كان مثل عشرات الآلاف من ذوي بشرته، بروليتاريا (مصطلح ماركسي للدلالة على الطبقة العاملة، وخاصة أولئك الذين لا يملكون سوى عملهم) رثًا، إنه حتى ليس بروليتاريا منتظمًا، فلم يكن لديه عمل في شركة رأسمالية صغيرة أو كبيرة، بل كان مُتسكعًا مع رفاقه، هؤلاء المنبوذين من السلطة وفئات مجتمعية كثيرة، الذين وجدوا أنفسهم مجبرين على عيش حياة الإجرام والتسول، الأرصفة والمقاهي، حياة ليس بها أي مقومات إنسانية في كافة قطاعات الحياة.
في بداية سنوات سجنه، وجد جاكسون من حوله مجتمعًا مهمَّشًا، لكن بالإضافة إلى تمثلات هذا التهميش، كانت حياتهم غير إنسانية، حيث لا يوجد أي مقومات للحياة الآدمية داخل الفضاء السجني، فلا طعام أو نوم أو علاج متوفر بشكل جيد لهؤلاء السجناء، ناهيك عن استغلال سلطة السجن للأجساد السجينة كعمالة منتظمة داخل السجون، يطبخون ويخبزون ويصنّعون وينظّفون.
إن السجن، كما رآه جاكسون، وكما هو في منطقتنا العربية، حوّل تلك الأجساد إلى آلات صناعية تعمل يوميًا من أجل خدمة الدولة وشركات رأس المال، فالسجن جعل منهم بروليتاريا رثّة ومنتظمة، لكنها سجينة أيضًا.
“التقيت بماركس ولينين وتروتسكي وإنجلز وماو عندما دخلت السجن، وقد خلصوني من السجن. في السنوات الأربع الأولى، لم أدرس شيئًا سوى الاقتصاد والأفكار العسكرية”، هكذا ذكر جورج جاكسون في كتابه “الأخوة سوليداد، رسائل السجن” (Soledad Brother: The Prison Letters of George Jackson).
كما ذكر كيف دخل إلى عالم الأفكار ومن هم مُلهموه وكيف شكّلوا عوالمه الإنسانية الجديدة، فضلًا عن نظرته إلى النضالات الجماعية، وخاصة نضالات السود والمهمشين داخل الولايات المتحدة الأمريكية، والتي، إلى جانب تهميشهم بسبب لون بشرتهم، تضعهم الدولة في أقفاص حديثة مُصممة كي تستوعب نسبة من هؤلاء المنبوذين، المجرمين في عين الدولة، لا من أجل الإصلاح كما تدّعي، بل من أجل تأكيد رؤيتها العليا في محو كينونتهم الإنسانية، وجعل أجسادهم المادية المجرّدة مجرد آلة عمل رخيصة، تعمل وتُنتج كي تزيد ثروات أصحاب رأس المال.
سنة تلو الأخرى، ازدادت وتعمقت قراءات جاكسون. تأثر بماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي وماو، كما ذكر، وأيضًا تأثر بفرانز فانون، حيث كانت أفكار فانون التحررية تضيء سماء العالم حينذاك. كانت سنة الحكم على جاكسون بالسجن هي ذاتها التي توفي فيها الفيلسوف التحرري فرانز فانون، والذي ترك مفاهيم إنسانية ثورية، من خلالها يفهم الإنسان كيف يعيش؟ كيف يقاوم؟ كيف يتخلص من الآلة الإمبريالية التي تستعبده؟ وكيف يستعيد المستعبَد تحرره؟ والأهم كيف يستعيد كينونته التي تم محوها بسبب آليات الاستعمار.
“في وقتٍ مبكرٍ من تاريخ التصنيع، صاغ العمال شعار الحق في العمل. لا تزال حشودٌ من السود في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى يومنا هذا، محرومةً من هذا الحقّ الأساسي. هم يعيشون كعمالٍ عرضيين، وآخر من يُوظَّفون وأول من يُفصلون. لا يجوز لنا أن نستبعد الخطّ الفاصل بين العاطلين عن العمل واللومبنبروليتاريين من أجل تنظيمهم بين الصفوف الثورية”.
بهذه العبارة، يبرهن جاكسون أنه لم يقتصر في أحاديثه وخططه على فئات بعينها من السود، ولم يفقد الأمل في الحديث مع أعضاء العصابات، بل حتى إنه تحدث معهم داخل السجن، مثل لويس وجيمس كار، دبليو إل نولين، بيل كريسماس، توري جيبسون وغيرهم، فيما حاول أن يستفيد من قدرتهم على المراوغة والتمرد، لكن هذه المرة ليست بهدف إجرامي، بل بهدف إنساني. إنه حول عقليتهم الإجرامية المتمردة إلى عقلية ثورية نضالية من أجل استعادة الحقوق.
في تلك السنوات، انضم جورج إلى حركة الفهود السوداء (Black Panther Party for Self-Defense)، التي تأسست بعد اغتيال المناضل الأمريكي الأسود مالكوم إكس، في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1966، وكان نشطًا من خلال كتابة المقالات ونشرها في المجلة الخاصة بالحركة، والتي كان يُوزَّع منها عشرات آلاف النسخ حول العالم.
كما صدر لجاكسون، بعد موته، كتابان بارزان، وهما “دم في عيني” و”إخوة سوليداد: رسائل السجن”، وفيهما رسائله الذاتية/الإنسانية، كخلاصة لرؤيته للتحرر من نُظم القهر والقمع، متمثلة في المنظومة الإمبريالية وابنتها المنظومة السجنية، والتي كان قد بدأ بالفعل، من داخل سجنه، في التنظيم والعمل من أجل مقاومة هيمنتها.
حول مقاومة الموت بالموت
لم يكتف جاكسون بالكتابة والتنظير فحسب، بل كان مدققًا في كل الممارسات السجنّية من حوله. لذا، أدرك جاسكون أن السجن ليس منظومة إصلاحية كما تدَّعي الدولة، بل هي فضاء تجمع الدولة فيه منبوذيها من المهمّشين بأجسادهم وألوانهم، بحجة أنهم خارجين على القانون، لكن هدفها هو احتجاز عددا لا بأس به من هؤلاء، مُشوّهي المُجتمعات الرأسمالية اللامعة.
من هذه الرؤية، وإصراره على المقاومة، بدأ جاكسون في حراكه النشط داخل السجن، حيث خطط ونظم وحرّض على الاضطراب والثورة على هذه المنظومة، وبدء كل ممارسات الاحتجاج على استمرار حياة السجناء غير الآدمية، ليس في سجنه فحسب، بل امتد هذا الحراك والعِصيان إلى عشرات السجون الأمريكية.
ليس داخل السجون فحسب، إنها كانت سنوات أواخر الستينات وبداية السبعينات، حيث الحراك الأمريكي، إذ تقاطع حراك السود والعمال والفئات المهمَّشة الأخرى مع حراك طلابي واسع لرفض الحرب الأمريكية على فيتنام، كذلك كانت هناك موجات طلابية ونقابية ثورية متفجرة في أوروبا، فرنسا تحديدا، لمطالب تتشابه وتتباين تلك الحراكات في الولايات المتحدة الأمريكية.
أدرك جاكسون أن قضية تهميش السود في الولايات المتحدة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقضايا الشعوب المستعمَرة، من كل الأعراق، وفي مختلف أنحاء الأرض، وخاصة في فلسطين
لم تكن الحراكات الاحتجاجية داخل السجون وخارجها محض صدفة، بل دلالة على فلسفة الترابط والقوة المتداخلة بين منظومات السُلطة السياسية وعلاقتها بالمجتمعات المنبوذة لديها في المُجتمع الخارجي وبين منظومات السجن، في تشابه عميق، وكأن السجن هي الدولة بشكّّلها المُصغر، والعكس.
هذه الفلسفة تدّعي أنه حتى في حالة كان المجتمع خاليًا من الاحتجاجات، تستطيع ممارسات متمرّدة داخل السجن أن تُشعله، في حال انتقال أخبار التمرّد من داخل السجون إلى خارجها، وربما تُشجّع على ثورية أكبر في الفضاءين، لا سيّما إن كانت الحالة المتمرّدة من السجناء ذات بُعد سياسي، وغالبًا ما يكون لهم روابط تنظيمية وحقوقية وإعلامية خارج السجن، وهذا ما حدث بالضبط مع السجناء الذين هم أعضاء في حركة الفهود السود، والتي كان لها دور مؤثّر حيال الحراك الخارجي.
في 21 أغسطس/آب من عام 1971، قُتل جورج جاكسون على يد إدارة السجن. تباينت وتداخلت الروايات حول مقتله هو ورفاقه داخل السجن، منها ما قال إن إدارة سجن “سان كوينتين” تخلّصت من زعيم احتجاجات السود في الداخل ومشعلها في الخارج، عن طريق تلفيق تهمة له ولرفيقيه، وهما “فلييتا درمغو” و”جون كلتشيت”، وهي قتل حارس داخل السجن، ثم حُكم عليهم بالإعدام، وقد نُفذ الحكم بالفعل بتصفيتهم جسديًا رميًا بالرصاص.
وفي رواية أُخرى، وهي الأكثر ترجيحًا حسب شهادات من كانوا هناك، أنه قُتل أثناء اشتباك مسلح بينه ورفاقه مع حراس السجن خلال محاولة هروبهم، حيث احتجزوا ضباطًا من السجن كرهائن، واستمر تبادل إطلاق النار حتى استعادت السُلطة سيطرتها على السجن، وكان جاكسون قد قُتل. إن كواليس حادثة مقتله كثيرة وربما متباينة، لأن طبيعة السجون المغلقة تُساعد في إخفاء حقيقة ما جرى، فلا صوت إلا صوت السُلطة.
تقاطعات الموت الاستعماري
إن قضية فلسطين هي الحدث الأبرز عالميًا في الوقت الحالي، منذ عملية السابع من أكتوبر، وما تبعها من حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية في غزة. وكانت فلسطين حاضرة في أفكار جورج جاكسون، كما هو حاضر الآن في قضيّتها، فقد تعرّف، كما تعرّف على سارتر وماركس وفانون وتروتسكي، على فلسطين من خلال نضالها المُسلح الذي اشتعل في منتصف الستينيات، وكذلك من خلال مثقفيها وشعرائها الثوريين، مثل سميح القاسم.
في زنزانته، كانت معه قصيدة “عدو الشمس”، وكان يقرأ أبياتها التي تقول: “ربما ترفع من حولي جدارًا وجدارًا وجدار
ربما تصلب أيامي على رؤيا مذلة، يا عدو الشمسِ لكن لن أساوم، وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم”.
تأثّر جاكسون بهذه القصيدة بشدة، فمن يكون “عدو الشمس” إن لم يكن المحتل أو السجّان؟ وقد نُشرت نسخة من هذه القصيدة في المجلة التابعة لحركة الفهود السوداء، مرفقة بصورة جاكسون.
“عندما اكتشفتُ ذلك، استطعتُ أن أرى كيف أن كلمات شاعر من الجليل يمكن أن تُقرأ هنا من قبل السود في أميركا فنقول: نعم! هذه القصيدة كُتبت لنا!”، هكذا قال الأستاذ الجامعي الأميركي الأسود، غريغ توماس، حين عثر على أوراق الشاعر الفلسطيني سميح القاسم في زنزانة جورج جاكسون، في حواره مع الباحثة اللبنانية صباح جلول على موقع السفير العربي.
منذ البداية، أدرك جاكسون أن قضية تهميش السود في الولايات المتحدة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقضايا الشعوب المستعمَرة، من كل الأعراق، وفي مختلف أنحاء الأرض، وخاصة في فلسطين، إذ إن الولايات المتحدة شريك أساسي في حماية المُستعمِر، “إسرائيل”، لذا لم يكن يفصل بين السياسات الإمبريالية التي تسلب حقوق السود، وبين استلاب الأرض في فلسطين. وهكذا فهم جاكسون اللعبة الاستعبادية، وجعل من نضاله ممارسة أممية تقفز من أقصى الشمال إلى الجنوب، بلا حواجز إنسانية.
كان جاكسون مدركًا، وبوعي ناضج، أنه كُتب عليه أن يحيا حياة مميتة في السجن، وكان يردد دومًا أنه “يعيش في انتظار بطيء للموت”، فاختار أن يثور، وأن يجعل موته جزءًا من معركته، وقد كان.
لم يكن جورج جاكسون، أو السنوار، أو حتى فانون وغيرهم، إلا اختلاقات إنسانية، وأجسادًا مقاومة، صنعتها الإمبريالية والاستعمار، والكرامة الإنسانية
هذه الانتحارية لم تكن فردية، بل كانت من أجل الثورة الجماعية، ونيل الكرامة، والسعي نحو تحرر إنساني شامل، وهي تُشبه ما فعله زعيم حركة حماس يحيى السنوار في غزة، تلك المدينة الصغيرة التي تُرى منذ سنوات، وإلى اليوم، كسجن كبير، طالما حاولت مقاومتها المطالبة بحقوقها المهدورة، والمُحاصرة من قبل “إسرائيل”.
السنوار هو جاكسون الفلسطيني، مع فارق السياقات الكليّة بين السجن وغزة، وبين السلطة السجنية الرأسمالية والاستعمار الإحلالي، لكن رمزيًا وفلسفيًا، لا سياسيًا، يتقاطعان. إنهما أبناء السجن، إذ قضى السنوار 22 عامًا خلف القضبان، أي ضعف ما قضى جاكسون، لكن السجن كان لهما مصنعًا أعاد تشكيل وعيهما، كي يدمّراه، فقُتل جاكسون – في أكثر الروايات شيوعًا – وهو يقاتل سجّانيه من أجل حريته وكرامته، وقُتل السنوار وهو يقاتل محتله، ويدافع عن أرضه وكرامته. قُتلا كلاهما في معركتهما العنيفة من أجل التحرر.
كما بدأنا مع فانون، نعود إليه، هذا المُنظّر الإنساني، الذي يرى أن “الرأسمالية هي التي خَلَقَت ماركس، والفقر المُدْقع في صقلية هو الذي خَلَقَ غاريبالدي، والأوتوقراطيَّة الروسيَّة هي التي خَلَقَت لينين، كما خَلَقَ الاسْتِعْمَار البريطانيّ غاندي. أما فانون، فقد خَلَقَه الرَّجُل الأبيض”. هكذا يفهم المارتينيكيّ – الذي كانت أصابع أطفال فرنسا البيضاء تشير إلى وجهه الأسود – أن كل المنظومات الاستعبادية هي التي تخلق الأفكار لدينا.
لم يكن جورج جاكسون، أو السنوار، أو حتى فانون وغيرهم، إلا اختلاقات إنسانية، وأجسادًا مقاومة، صنعتها الإمبريالية والاستعمار، والكرامة الإنسانية، حيث خلقت لديهم الفكر والنظرية والممارسة المُقاومة لتغيير شكل الحياة، السجن والتهميش والاغتراب، الذي حين تشكّلت أرواحهم، وجدوه مكلبشًا بها.
حينها، كان لا بدّ من الكتابة عن الدم والعين، والعذاب والأرض، والشوك والقرنفل. إن لهذا التغيير أثمانًا باهظة، تتمثل في سنوات طويلة داخل عذابات السجون التي لا تنتهي، وفقدان الإنسان والحياة، ومدن مُبادة، وعائلات وذكريات مدمّرة وممحوّة.
ليس على هؤلاء، مقاومي كل أشكال الاستعباد والظلام، فرادى أو جماعات، سوى أن يُفكّروا بوعي نقدي، ويقرأوا التاريخ، ويخطّطوا للواقع والمستقبل بجدية، كي لا تتكرّر الهزائم والنكسات، بل تُسجّل تجارب إنسانية أكثر وعيًا، وأكثر تحررًا من عالم الاستعمار والهيمنة، عالمنا اليوم.