حزب العمال الكردستاني ما بين السلام المر والمستقبل الصعب

في أول بيان مصور لزعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان يوم الأربعاء الموافق 9 يوليو / حزيران الجاري، دعا عناصر الحزب للشروع بعملية تسليم السلاح، والبدء بمرحلة انتقال سياسي جديد مع أنقرة، من أجل حل القضية الكردية مع الدولة التركية، بعد قرابة صراع عسكري استمر لأربع عقود سابقة، ليسجل بداية عهد جديد من العلاقات ما بين الدولة التركية وحزب العمال.

سجل ظهور أوجلان من داخل سجن إيمرلي في جنوب بحر مرمرة، حيث يُعتقل، وبرفقته العديد من قيادات الحزب المعتقلين معه، لحظة إدراك واضح من قبله بصعوبة استمرار الحزب بنهج الكفاح المسلح مع الدولة التركية، خصوصاً في ظل المتغيرات الإقليمية الجديدة التي بدأت تحيط بالأكراد في المنطقة، وتحديداً بعد أفول العديد من الجماعات المسلحة في المنطقة.

وبالتالي بدأ واثقاً من دعوته هذه المرة، على عكس المرة السابقة التي ظهر بها في أبريل/ نيسان الماضي، خصوصاً وإنه كان يخشى من أن تتمرد عليه قيادات الصف الثاني في الحزب، والتي نجحت بتأسيس هرم قيادي جديد داخل الحزب في قنديل.

ورغم إنه من المتوقع أن تبدأ مطلع الأسبوع القادم، وتحديداً يومي 11 و12 يوليو/ تموز الجاري، عملية تسليم سلاح الحزب للسلطات في إقليم كردستان، وتحديداً في مدينة السليمانية، التي سجلت خلال اليومين الماضيين وصول العديد من عناصر الحزب، والبالغ عددهم 40 عنصراً، إلاّ إن ذلك سيكون مجرد مرحلة أولى من مراحل قادمة، وإن هذه المرحلة لن تعدوا أن تكون مرحلة اختبار نوايا بين الطرفين.

البداية الصعبة والشكوك المتبادلة

رغم وصول رئيس المخابرات التركية إبراهيم كالن إلى العاصمة العراقية بغداد يوم الأربعاء الموافق 9 يوليو/ تموز الجاري، ولقائه مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، ومستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي، من أجل التباحث مع الجانب العراقي لتشكيل لجنة مشتركة من الجانبين للإشراف على عملية تسليم سلاح الحزب، إلاّ إنه حتى اللحظة تبدو مثل هذه الخطوة مشكوك بنجاحها، خصوصاً في ظل إصرار حزب العمال الكردستاني على تسليم كامل سلاحه في السليمانية، وليس أربيل، وذلك يعود للعلاقات الوثيقة التي تربد حزب العمال الكردستاني مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة بافل طالباني.

تعمل تركيا على جعل المراحل القادمة تجري في أربيل، خصوصاً وإن حكومتها وتحديداً رئيس الإقليم نيجرفان بارزاني كان قد لعب دورًا مهمًا في تنظيم وساطة بين وفد من حزب الديمقراطية والمساواة الكردي التركي (القريب من أوجلان) مع الحكومة التركية في أربيل، وأثمرت هذه الوساطة عن إنجاح مهمة أوجلان في إقناع قيادات وعناصر الحزب القبول بفكرة حل الحزب ونزع سلاحه، إلاّ إن الثقة لا تزال معدومة بين الطرفين.

ولعل السبب الرئيس في ذلك، هو إن قيادة الحزب في قنديل دخلت في صراعات دموية طويلة مع الجيش التركي، وفقدت الكثير من الأراضي التي كانت تسيطر عليها، كما إن أوجلان نفسه كان بعيداً عن الديناميات الداخلية التي فرضت نفسها على الحزب في المراحل اللاحقة، خصوصاً بعد دخول إيران على خط استثمار الحزب في المواجهة مع تركيا.

ولذلك فإن هناك العديد من المتغيرات التي قد تفرض نفسها على مسارات نزع سلاح الحزب، خصوصاً مع وجود جناح داخل حزب العمال الكردستاني يرفض تماماً نزع كامل السلاح، دون انسحاب للقوات التركية من شمال العراق.

إن التحدي الحقيقي الآخر الذي قد يقف في طريق عرقلة المسارات القادمة، هو إن المعلومات القادمة من شمال العراق، تشير إلى أن الحزب نجح في نقل جزء كبير من سلاحه الثقيل وتحديداً المدافع والطائرات المسيرة إلى معسكر هاكورك على الحدود العراقية الإيرانية، وإن نقل هذا السلاح يعود لطلب إيران ذلك، خصوصاً وإنها هي من زودت الحزب بهذا السلاح في فترات سابقة، وعلى ما يبدو فإنها لا ترغب بوقوع هذا السلاح بيد تركيا أو السلطات في إقليم كردستان.

وفي سياق التفاهم العراقي مع تركيا، فقد تم الاتفاق على نقل عناصر حزب العمال الكردستاني الذين سيتم تسليم سلاحهم، إلى مخيم الكوير الواقع غرب محافظة نينوى، وهو مخيم تم افتتاحه في عام 1982 من قبل الأمم المتحدة في العراق، من أجل إيواء عناصر حزب العمال الكردستاني وعوائلهم الفارين من تركيا، والآن تم إعادة تأهيل هذا المخيم، ليكون مكاناً لاستقرار عناصر الحزب، من أجل تأمين وضعهم القانوني كلاجئين سياسيين، حتى يتم التفاهم مع تركيا مستقبلاً بهذا الخصوص.

تركيا واستثمار الوضع الراهن

مما لا شك فيه تمثل عملية سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، ووصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبيت الأبيض، والتصداعات الإقليمية التي تعيشها إيران، فرصة مهمة وجدت فيها تركيا لحظة للصعود الإقليمي وإعادة تشكيل التوازنات الاستراتيجية في المنطقة، خصوصاً مع القبول الإسرائيلي لها كطرف إقليمي ضامن، وهو ما أكدته التوافقات الأخيرة في الساحة السورية.

يمكن القول بأن قيادة حزب العمال الكردستاني بنت قراءة دقيقة لهذه التحولات التي أصابت الدور الإقليمي التركي، كما وجدت في التعديل الأخير الذي أصاب الخطاب السياسي في تركيا، وتحديداً في حاجة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمرحلة تهدئة في السياسة الداخلية، والدعم الذي تلقاه من شريكه الحكومي حزب الحركة القومية، فرصة يمكن البناء عليها لإرساء السلام في تركيا.

إن عملية السلام التي أطلقت مؤخراً بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني تتميز بكونها عملية وطنية بشكل كبير جدًا، وذلك بانعدام وجود أطراف خارجية أو أطراف ثالثة، علاوة على ذلك، تبدأ هذه العملية، ولا تنتهي، بانتهاء الكفاح المسلح وحلّ الجماعة المتمردة. ورغم انتهاء الكفاح المسلح، ستتطور القضية الكردية الآن إلى قضية سياسية ومدنية وديمقراطية أكثر. إنها بداية عملية جديدة، وسيستغرق حلها وقتً أطول من مجرد الإعلان عن حل الحزب.

وللتأكيد على طول هذه العملية التي من المتوقع أن تستمر لأشهر من الآن، فإن الرئيس أردوغان تحدث يوم الأربعاء الموافق 9 يوليو / تموز الجاري، خلال لقاء له مع أعضاء حزب العدالة والتنمية، إن تركيا لن تسمح بأي محاولة لتخريب عملية تخلي حزب العمال الكردستاني عن سلاحه، معرباً عن أمله في إتمام العملية في أقرب وقت ممكن.

مستقبل محفوف بالمخاطر

إن السياسة الكردية في مرحلة ما بعد حزب العمال الكردستاني يمكن أن تكون تحويلية، لأن حل القضية الكردية يتطلب إعادة تصور المواطنة التركية والقومية التي تشمل الهوية الكردية وتستوعبها، ومع أن القضية الكردية ليست المصدر الوحيد للأزمة الديمقراطية في تركيا – فلها جذور متعددة – إلا أنها الأكثر تأثيراً من حيث مدتها وعمقها.

ومن نتائجها المركزية المفرطة للدولة والإدارة العامة، إلى جانب العديد من القوانين الرجعية المتعلقة بحرية التعبير والأحزاب والأنشطة السياسية. كما أن فكرة “الانفصالية الكردية” وعنف حزب العمال الكردستاني جعلت المجتمع التركي أكثر تقبلًاً لإجراءات الدولة غير الديمقراطية، وقد يؤدي حل حزب العمال الكردستاني، على المدى المتوسط ​​والبعيد، إلى مجال سياسي وعام أقل خضوعاً للأمن، إذ إن إزالة شبح هذا الصراع الطويل سيكون مفيداً للديمقراطية التركية.

ويضاف إلى ما تقدم، إن القيادة التركية تجد في الحوار مع حزب العمال الكردستاني، فرصة للتخلص من أهم معضلتين تواجههما تركيا في الشرق الأوسط، والحديث هنا عن إيران وفرنسا، باعتبار إنها أكثر أطراف استفادت في من توظيف الحزب في خلافاتها مع تركيا، بل إن تركيا تجد في إزاحة أو سحب ورقة حز ب العمال الكردستاني من يد هذه الدول بشكل رئيسي، فرصة مهمة لسد باب واسع من الأزمات الخارجية التي واجهتها تركيا، سواء على مستوى العلاقات مع دول المنطقة، أو على مستوى العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي، أو على مستوى العلاقات التي تمتلك فيها إيران نفوذ واضح.