بطون خاوية وقلوب مذعورة.. نساء غزة يلدن وسط الجوع والقصف

في قطاع غزة، حيث تقف الحياة على حافة الهاوية، تتكشّف مأساة إنسانية تقطع نياط القلب، ترويها نساءٌ حوامل يصارعن الجوع والمرض، وهنّ يحملن بين أضلعهن أجنةً غَضّةً لم تعرف بعد نور الحياة. إنهنّ يعشن كابوسًا يوميًا، حيث الأجساد تنهكها قسوة الحصار، والأحلام تتبدّد أمام واقعٍ مريرٍ يهدد مستقبل أطفالهن.

كان من المفترض أن تكون هذه الأيام، بالنسبة لسماح سكر (32 عامًا)، وهي حامل في شهرها التاسع، فترةً مليئةً بالفرح والتجهيز لقدوم مولودها: اختيار الملابس الناعمة، الألعاب الملوّنة، وكل ما يلزم لضمان قدوم طفلها بأمانٍ وسلام، لكن في غزة، انقلبت الموازين؛ فالجوع وصواريخ الاحتلال ليسا مجرد أخبار، بل واقعٌ يوميٌّ يلتهم كل آمالها.

سماح، الأم لأربعة أطفال، تعاني الآن من سوء تغذية حاد أثّر على جنينها، الذي بات وزنه أقل من ثلاثة كيلوغرامات. نصحها الطبيب بالولادة القيصرية خوفًا على حياتها وحياة طفلها، فتقول لـ”نون بوست” بقلبٍ منفطر: “كنتُ قد قررتُ عدم الإنجاب في هذه الحرب، لعلمي بالظروف الصعبة التي سنعيشها، لكن وسائل منع الحمل غائبة تمامًا بسبب الحصار المُطبق”.

سماح سكر.

تضيف سماح، وجسدها يئنّ تحت وطأة المجاعة: “لا أجد سوى طبق عدس ورغيف خبز في اليوم. كل ما أتمناه هو أن يصل اللحم والبيض والأجبان إلى غزة، لإنقاذنا نحن النساء الحوامل، وأجنّتنا، من شبح الموت”.

وتعيش صراعًا داخليًا لا ينتهي، تُهدَّد فيه حياتها وحياة طفلها. أحلامها الوردية انقلبت رأسًا على عقب، وباتت تحت ضغطٍ نفسيٍّ رهيب، أثّر على صحتها وأدّى إلى تأخير موعد ولادتها.

مضاعفات صحية

في مشهدٍ لا يقل إيلامًا، تتحسّس روان أبو العينين، العشرينية الحامل في شهرها السابع، بطنها الشاحب. على عكس حملها السابق، تشعر بوطأة سوء التغذية، وتلاحظ أن حجم جنينها أصغر بكثير، إضافةً إلى إصابتها بفقر دم حاد وصل إلى 8.

تتحدث روان لـ”نون بوست” وعيناها تلمعان بالدموع: “قلة الطعام أثّرت على دمي للأسف، وجبتنا الوحيدة في اليوم، إن وُجدت، هي العدس، بسبب ظروفنا المادية القاسية”.

وتضيف بقلبٍ مثقل بالهموم: “أدعو كل يوم أن يُكمِل الشهرين الأخيرين بسلام، وأن أضع مولودي بعد أن تتوقف الحرب. القلق لا يفارقني: كيف ستكون ولادتي؟ هل سأجد مكانًا في المستشفى؟ وكيف سأصل إليه؟”.

وفي ظل خروج غالبية المراكز الطبية عن الخدمة، نتيجة الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة، بالكاد تحصل روان على الرعاية الطبية الأساسية، وكل ما تتمناه روان هو القليل من اللحم والبيض والحليب، لإنقاذ جنينها من التشوّهات والأمراض. لم تستطع حتى الآن تجهيز حقيبة مولودها، وهي تتناول وجبة العدس الوحيدة بتذمّر، بينما يدمّر الواقع النفسي كل أحلامها بالأمومة.

نبال السيد (32 عامًا) هي واحدة من آلاف النساء الحوامل اللواتي يعانين من سوء التغذية في غزة، مما يدفعهن إلى واقعٍ نفسيٍّ مريرٍ ومخاوفَ من إنجاب أطفالٍ غير أصحّاء.

تروي نبال لـ “نون بوست” أن بداية حملها كانت أسهل نسبيًا بسبب الهدنة وتوفّر بعض التغذية، مستدركةً: “لكن بعد إغلاق المعابر ونقص وزني المستمر، اضطررتُ للذهاب إلى المستشفى للاطمئنان على صحتي وصحة جنيني”.

كشفت التحاليل عن معاناتها من مضاعفاتٍ صحيةٍ خطيرة، تمثلت بانخفاضٍ في الدم والسكر والضغط وإعياءٍ في القدمين ونقصٍ في المغنيسيوم وفيتامين ب12. وتضيف نبال بأسى: “حجم الجنين ضعيف بسبب قلة الطعام، وعدم توفّر الأطعمة المناسبة لسيدةٍ حامل، ومحاولة التغلب على هذه التحديات أصبحت مرهقةً ومقلقةً للغاية”.

الأمر لا يتوقف عند سوء التغذية؛ فالمياه الملوّثة التي تُوزَّع عبر الشاحنات بدأت تؤثّر على الكلى والمعدة، مما يزيد من قلق نبال من ولادةٍ مبكرة، لكن مخاوفها لا تقتصر على صحتها وصحة جنينها فحسب، بل تمتد لتشمل ابنتها البالغة من العمر أربع سنوات، والتي تعاني هي الأخرى من سوء التغذية ونقص الفيتامينات. “الخوف بات مضاعفًا”، تقول نبال.

وتضيف: “الولادة الطبيعية تحتاج إلى مجهود، وبعدها تحتاج الأم إلى تغذية. إذا كانت التغذية غير موجودة، فكيف ستكون الرضاعة؟ نحن النساء الحوامل وغير الحوامل نعاني من خمولٍ في الجسم، والحليب الصناعي غير متوفر في الأسواق. هذه الأسباب مقلقةٌ جدًا، ويمكن أن تؤثّر على وضعي النفسي”.

بحسب منظمة الصحة العالمية، تعاني 90% من النساء الحوامل والمرضعات في غزة من سوء تغذيةٍ حادٍّ، ويحول نقص المعدات الطبية دون حصولهن على العلاج اللازم.

ويشير المكتب الإعلامي الحكومي إلى أن أكثر من 60 ألف حامل في غزة يُواجهن صعوبةً بالغةً في تأمين الحدّ الأدنى من الطعام، في وقتٍ تندر فيه الفيتامينات والمكملات الغذائية الأساسية التي تحمي الأجنة من التشوّهات.

في يونيو/ حزيران الماضي، حذّر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية من تزايد المخاطر الصحية التي تُهدد نحو 55 ألف امرأةٍ حاملٍ في غزة، بما في ذلك الإجهاض، ولادة أجنةٍ ميتة، أو وضع أطفالٍ يعانون من سوء التغذية.

كما تؤكد أخصائية النساء والتوليد، الطبيبة سمر شلبي، أن واقع النساء الحوامل في غزة كارثي؛ إذ يعانين من سوء تغذيةٍ، وفقر دمٍ، ونقصٍ بالفيتامينات، وتشير شلبي لـ “نون بوست” إلى أنّ سوء التغذية يُفضي إلى الإجهاض للكثير من النساء، وبعضهنّ وصل فقر الدم لديهن إلى 7، مما يؤثر أيضًا على الأجنة بضعف أحجامهم، ويُولدون بتشوّهاتٍ وأمراضٍ أخرى، وتحويلهم إلى الحضّانات.

وتُبيّن أنّ بعد الولادة، تواجه النساء واقعًا صحيًا ونفسيًا مُدمِّرًا، بفعل جفاف حليبهن وعدم استطاعتهن على إرضاع أطفالهن، فتكون الأم في حيرة: كيفية توفير الطعام لإرضاع الطفل، أو توفير الحليب الصناعي له.

وتختم قولها: “في غزة نحاول إنقاذ النساء من خلال الفيتامينات والرعاية الصحية، ولكنها غير كافية، خاصةً مع انعدام الغذاء كاللحوم والأجبان والخضروات والفواكه”، مُطالِبةً بالضغط لفتح المعابر وإنقاذهن من خطرٍ مُحدقٍ يُلاحقهن.

واقع مليء بالخوف

يقول الأخصائي النفسي، د. ضياء أبو عون، إن التفكير المستمر بالولادة في ظلّ واقعٍ مليءٍ بالخوف والدمار يُولّد ضغطًا نفسيًا هائلًا على المرأة الحامل، فمعظم النساء في غزة اليوم يحملن بداخلهنّ خوفًا مضاعفًا: الخوف على حياتهن، وعلى حياة الجنين في رحمهن.

ويشير إلى أن النساء الحوامل أصبحن في حالة يقظةٍ دائمةٍ، تتوقّعن الأسوأ في أي لحظة: هل ستلد تحت القصف؟ هل سيبقى المستشفى مفتوحًا؟ هل ستجد العناية الطبية اللازمة أثناء الولادة؟ وهل ستتمكن من الحصول على الغذاء الصحي كي تتمكن من إرضاع الجنين؟

ويبيّن أن هذه الأسئلة اليومية تُؤدّي إلى قلقٍ مزمنٍ واضطراباتٍ في النوم، وتُشعر المرأة بالعجز الكامل، مما يؤثّر على توازنها العاطفي وعلى تفاعلها مع الحمل نفسه، موضحًا أن كثيرًا من النساء لم يعدن يفرحن بالحمل، بل يشعرن أنه “عبء” أو “خطر” عليهن.

ويؤكد أن واقع النساء الحوامل في غزة مأساويٌّ بكلّ المقاييس، من جهة الحرب الدائرة التي حرمت آلاف النساء من الوصول إلى الرعاية الصحية الأساسية، خاصةً في ظلّ تدمير المستشفيات أو خروجها عن الخدمة، ونقص الكوادر والمستلزمات الطبية.

ويلفت إلى أن النساء الحوامل يُواجهن تحدياتٍ جسيمة، بدءًا من الخوف المزمن والضغط النفسي، مرورًا بعدم القدرة على الحصول على الغذاء والماء النظيف، وصولًا إلى اضطرار بعضهنّ للولادة في مراكز إيواءٍ تفتقر لأدنى مقومات السلامة.

ويردف أبو عون أن من هذه التحديات التي تواجه المرأة الحامل في غزة نقص الغذاء، خاصةً البروتينات والفيتامينات والمعادن الأساسية مثل الحديد وحمض الفوليك، مما يؤثر بشكلٍ مباشرٍ وخطيرٍ على الحوامل وأجنّتهن، وقد يُؤدّي إلى مضاعفاتٍ كثيرة، منها فقر الدم والولادة المبكرة وانخفاض وزن الجنين، والإجهاض في بعض الحالات.

ويتابع أن الجنين الذي لا يحصل على تغذيةٍ كافيةٍ خلال الحمل، مُعرّضٌ لخطر التأخر في النمو العقلي والجسدي، وحتى بعد الولادة يبقى عرضةً للأمراض المزمنة، أما الأم، فتكون في وضعٍ صحيٍّ هشٍّ في ظلّ غياب العناية الطبية المناسبة. ويُكمِل قوله إن من بين التحديات أيضًا: انهيار النظام الصحي، وصعوبة التنقّل، ونقص الكوادر الطبية، وندرة الأدوية والمستلزمات الطبية.

ويُنوّه إلى أن الاكتئاب والتوتر لا يؤثران فقط على الحالة النفسية للمرأة الحامل، بل يتسبّبان في تغيّراتٍ فسيولوجيةٍ حقيقيةٍ داخل جسم الأم، منها ارتفاع ضغط الدم، أو ما يُعرف بـ “تسمّم الحمل”، وضعف المناعة، مما يزيد من خطر الإصابة بالأمراض، وتقلصاتٍ مبكرةٍ قد تؤدي إلى الولادة قبل الأوان، ونقصٍ في تدفّق الدم للجنين، مما يؤثر على نموه. أما على المدى الطويل، فيؤكد أن الأم قد تُصاب باكتئاب ما بعد الولادة بدرجةٍ أشدّ، خاصةً إذا لم تحصل على دعمٍ نفسيٍّ أو اجتماعيٍّ كافٍ.