الانتخابات المبكرة في “إسرائيل”: أزمة نظام لا خلاف سياسي عابر

باتت الانتخاباتُ المبكرة في “إسرائيل” مسألةَ وقتٍ فقط، وسؤالَ “متى” لا “هل”، خاصة بعدما بادر وزراء الأحزاب الحريدية-الدينية إلى الاستقالة من الحكومة، مع تعذّر تقديم اقتراح قانون لحجب الثقة عنها في الكنيست خلال الفترة المقبلة وفي ظل العطلة الصيفية، بعدما سقط الاقتراح الأخير منتصف حزيران/يونيو الماضي.

والحقيقة أن قصة الانتخابات المبكرة لا تتعلق فقط بالخلاف على قانون تجنيد الحريديين في الجيش، كما يبدو في الظاهر، وإنما تمتد إلى الأزمات البنيوية والمشكلات العميقة التي تعانيها “إسرائيل” منذ نشأتها كدولةٍ فريدة بالمعنى السلبي، تفتقر إلى دستورٍ جامع، وحدودٍ معترفٍ بها، وتعريفٍ واضحٍ لهويتها.

أزمة تأسيسية

أصبحت الانتخابات المبكرة في “إسرائيل” مسألةَ وقتٍ فقط، إثر تعذّر التوافق على قانون تجنيد الحريديين، واستقالة وزرائهم من الحكومة مع البقاء ضمن الائتلاف في البرلمان، وامتناعهم عن التصويت لصالح مشاريع الحكومة والمعارضة على حدّ سواء.

وبنظرة منهجية إلى الوراء، فقد باتت الانتخابات مسألة وقتٍ منذ تشكيل هذه الحكومة قبل عامين ونصف. علمًا أنه، وخلال العقود الأربعة الأخيرة، أصبح متوسط عمر الحكومات في “إسرائيل” يقارب السنتين فقط، ولم تستكمل أيٌّ منها ولايتها القانونية المقرّرة لأربع سنوات.

الأمر لا يتعلق فقط بحالة السيولة السياسية والحزبية التي تشهدها “إسرائيل”، كما في كثير من الديمقراطيات الغربية، رغم أنها ديمقراطية لليهود فقط وعنصرية تجاه العرب، كما يقول أهلُنا في الأراضي المحتلة عام 1948، بل يرتبط بالأزمات البنيوية العميقة التي رافقت نشأة الدولة العبرية، من غياب الدستور والحدود المعترف بها – ولو من الدولة نفسها – إلى غياب تعريف قانوني واضح لهويتها.

وتفاقمت الأزمات واتسع الشرخ أكثر مع عجز الجيش عن أداء مهمته كـ”بوتقة صهر” للمهاجرين بخلفياتهم العرقية والثقافية المتنوعة، بوصفه “جيش الشعب” حسب تعبير دافيد بن غوريون، إذ بات يُوصف منذ التسعينيات بأنه “جيش نصف الشعب” وفق إيهود باراك، ثم “جيش ربع الشعب” أو أقل، مع اتساع ظاهرة التهرّب من الخدمة، وتراجع جاذبية المؤسسة العسكرية، وتعقّد مسألة تجنيد الحريديين، كما سنوضح لاحقًا.

أما الحكومة الحالية، وهي الأكثر تطرّفًا في تاريخ “إسرائيل”، فقد تشكّلت بعد أربع دورات انتخابية مبكرة خلال أقل من خمس سنوات، وسط انقسام واستقطاب حادّين حول شخص بنيامين نتنياهو، بما في ذلك استقطابات تاريخية وفكرية واجتماعية: علمانيون مقابل متديّنين، “سفرديم” في مواجهة “أشكناز”، سكان المدن ضد الضواحي، الأغنياء في مواجهة الفقراء، والمجندون مقابل المعفيين من الخدمة العسكرية، في ظل غياب الانقسام التقليدي بين اليمين واليسار، واندثار الأخير حتى ضمن المفهوم “الإسرائيلي” المرتبط بالتسوية مع الفلسطينيين والعرب.

هذا معطى بالغ الأهمية، إذ بدا نتنياهو كأنه تجسيد لعمق هذه الانقسامات، وربما لسورياليتها، كونه علمانيًا، أشكنازيًا، غربي الثقافة، ثريًا، يعيش برفاهية، ويصطف سياسيًا مع المتديّنين والخلاصيين من أتباع الحاخام العنصري مئير كاهانا، المدان قانونيًا حتى في “إسرائيل”.

ومنذ تشكيل الحكومة الحالية، بالتزامن مع انطلاق محاكمته بتهم الفساد والرشوة وخيانة الأمانة، تعهّد نتنياهو بتمرير قانون يُعفي المتديّنين من التجنيد، وأطلق العنان لحلفائه الأكثر تطرفًا في ملفات الاستيطان والتهويد في الضفة الغربية والقدس. علمًا أن معظم أعضاء ائتلافه لم يخدموا في الجيش أصلًا، ويفتقرون للخبرات الأمنية والعسكرية، ما أثار عداءً مع المؤسسة العسكرية، واصطدامًا مع النخب السياسية والإعلامية والقضائية.

تحالفات مشوّهة

سعى نتنياهو في جوهر مشروعه إلى إلغاء محاكمته، وإطالة أمد بقائه في السلطة لمواجهة القضاة من موقع رئيس الوزراء، فطرح ما سُمِّي “الانقلاب القضائي”، لتعزيز قبضة حكومته على السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وفتح الباب لتحالفات متطرفة تساعده في ذلك، مقابل إعفاء المتديّنين من الخدمة الإلزامية، أو “بوتقة الصهر”.

نتيجة لذلك، تصاعد الاستقطاب، وبرزت تحذيرات من اندلاع حرب أهلية، ولو على المستوى النظري. ومن هنا، يمكن القول إن الانتخابات المبكرة باتت مسألة وقتٍ منذ خريف 2023، بعد أقل من عام على تشكيل الحكومة.

أخّرت حرب غزة تفجّر الانقسامات والاصطفافات، بفعل التعبئة العاطفية والعشائرية تحت شعار الانتقام من غزة وتدميرها، لكن تلك الانقسامات عادت للظهور تدريجيًا، خاصة مع انتهاء الحرب إكلينيكيًا في أيار/مايو الماضي، وفعليًا منذ اتفاق وقف إطلاق النار في كانون الثاني/يناير، بينما يُطيل نتنياهو أمدها لأهداف حزبية وشخصية: البقاء في السلطة، منع الانتخابات، عرقلة تشكيل لجنة تحقيق، وتفادي المساءلة القانونية والشعبية عن تقصيره في يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، وهي إخفاقات لا تمحوها فظائع الحرب والإبادة.

خلال العام الأخير، تصاعد الحراك الشعبي مجددًا، مع إدراك فشل الخيار العسكري في غزة، وعودة المتظاهرين إلى الشارع للمطالبة بإنهاء الحرب، ورفض الانقلاب القضائي، وربطه بمسألة إعفاء الحريديين، والمطالبة بانتخابات مبكرة، تشير الاستطلاعات إلى هزيمة الائتلاف الحالي فيها، واستبعاد قدرة نتنياهو على تشكيل حكومة جديدة.

وبات واضحًا أن هروب نتنياهو “الحربجي” نحو غزة وسوريا ولبنان وحتى إيران، لا يؤثر كثيرًا في جدول الأعمال الانتخابي المقبل، فوفق استطلاع رأي لافت نُشر يوم الجمعة 11 يوليو/تموز، بيّن أن القضايا الخارجية ليست أولوية انتخابية أمام الأزمات والانقسامات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية.

في الختام، تعيش “إسرائيل” أزمات بنيوية عميقة، وتحاول التهرب منها عبر دوامة انتخابات مبكرة لا تنتهي، دون مواجهة جوهر الأزمة المتمثل بالاحتلال، والعسكرة، وكونها كيانًا غريبًا مزروعًا في بيئة – بل بحر – محيط معادٍ، ورغم تفوقها التكنولوجي والعسكري المدعوم من الغرب والولايات المتحدة – الذي بدأ يتآكل كما ظهر خلال العامين الماضيين – فإن هذا التفوق لن يصمد أمام حقائق الجغرافيا والتاريخ، تمامًا كما أن عجز المنظومات العربية الحاكمة عن بناء قوة حقيقية لن يدوم إلى الأبد.