خصخصة اقتصاد الجيش المصري بإشراف شركات استشارية على صلة بالاحتلال

في سابقة هي الأولى من نوعها، أعلنت الحكومة المصرية في 9 أبريل/ نيسان الجاري أن صندوق مصر السيادي سيبدأ إعادة هيكلة خمس شركات مملوكة للقوات المسلحة، بعد توقيع اتفاقية بين جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للجيش وتحالف من المستشارين المحليين والدوليين.
وتشمل الشركات التي سيجري إعادة هيكلتها كلاً من: الشركة الوطنية لبيع وتوزيع المنتجات البترولية (وطنية)، وشركة “تشيل آوت” المشغلة لمحطات الوقود، والشركة الوطنية لتعبئة المياه الطبيعية (صافي)، وشركة “سيلو فودز” للمواد الغذائية، والشركة الوطنية للطرق.
تأتي هذه الخطوة تنفيذًا للاتفاق الموقع بين مصر وصندوق النقد الدولي في ديسمبر/ كانون الأول 2022 بقيمة 3 مليارات دولار، والذي وافق الصندوق على زيادة سقفه في مارس/ آذار 2024 بإضافة نحو 5 مليارات دولار، ليرتفع إجمالي التمويل إلى نحو 8 مليارات دولار.
ووفقًا للاتفاق الذي يمتد لأربع سنوات، يتوقف استكمال البرنامج على مراجعات دورية يُجريها مجلس الأداء المالي والاقتصادي في مصر، لمراقبة تنفيذ الإصلاحات الهيكلية المطلوبة، ومن بينها تخارج مؤسسات الدولة من الاقتصاد، بما يشمل شركات الجيش، إضافة إلى نشر التقارير المالية السنوية للشركات المملوكة للدولة والقوات المسلحة، وهي شروط كان مقررًا تنفيذها بحلول سبتمبر/ أيلول 2024، إلا أن الحكومة لم تلتزم بها، ليجري تأجيله لمرحلة لاحقة بحسب وثيقة الصندوق.
ويُعد هذا القرار نقطة تحول مهمة بعد سنوات من المماطلة في التعامل مع ملف اقتصاد القوات المسلحة، ويبدو أن الدولة رضخت أخيرًا للضغوط الدولية، حيث جاء الإعلان عن طرح شركات الجيش قبل زيارة بعثة صندوق النقد الدولي للقاهرة، لإتمام المراجعة الخامسة للبرنامج، والتي بدأت اجتماعاتها في القاهرة من 6 إلى 18 مايو/ أيار 2025. وتنتظر مصر الآن الإقرار الرسمي من الصندوق على صرف الشريحة الأكبر من القرض، والتي تبلغ قيمتها 1.3 مليار دولار.
في هذه الصفقة، التي يُفترض أن تكون مقدمةً للكشف عن الأنشطة التجارية للقوات المسلحة، تمهيدًا لبيعها وطرحها أمام المستثمرين لأول مرة منذ سيطرة الجيش على الحكم في مصر عام 1952، وتحديدًا منذ تأسيس “جهاز مشروعات الخدمة الوطنية”، ثم توسع الإمبراطورية الاقتصادية للقوات المسلحة الملحوظ بعد وصول السلطة الحالية عام 2013، تكشف “نون” في هذا التقرير أن الكيانات الأجنبية الثلاثة المشاركة كاستشاريين في الصفقة لديها جميعًا أنشطة تجارية وحضور في إسرائيل.
وفي مقدمتهم مجموعة بوسطن التي ساهمت في تأسيس “مؤسسة غزة الإنسانية” بالتعاون مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، والتي تسببت، منذ أنشأتها وبدأ تشغيلها في 26 مايو/ أيار، في استشهاد نحو ألف فلسطيني برصاص جنود الجيش الإسرائيلي وأفراد الحراسة التابعين للمؤسسة.
بوسطن للاستشارات: يدٌ في الاقتصاد المصري… وأخرى في حصار غزة
كشف بيان مجلس الوزراء المصري عن تفاصيل اتفاقية التعاون المبرمة بين صندوق مصر السيادي، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة، إلى جانب عدد من المكاتب الاستشارية المتخصصة، المحلية والدولية، وذلك لإعادة هيكلة وطرح عدد من الشركات التابعة للجهاز.
وبموجب الاتفاقية، تتولى مجموعة بوسطن الاستشارية (Boston Consulting Group) مهام المستشار التجاري والاستراتيجي للصفقة، فيما تقدم شركتا بي دبليو سي (PwC) وجرانت ثورنتون (Grant Thornton) خدمات الاستشارات الضريبية والمحاسبية للعملية.
وبالبحث، تبين أن الشركات الثلاث لديها استثمارات كبيرة وحضور نشط في إسرائيل، وتعاون وثيق مع الحكومة الإسرائيلية.
في مقدمتها تأتي مجموعة بوسطن الاستشارية، التي تأسست عام 1963 في الولايات المتحدة، وتُعد من أكبر ثلاث شركات في العالم في مجال الاستشارات الاستراتيجية، حيث لديها نحو 100 مكتب في أكثر من 50 دولة.
وتُظهر المعلومات المنشورة عبر الموقع الرسمي للشركة علاقة وثيقة تربطها بوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) وفروع الجيش الأمريكي المختلفة، بما في ذلك القوات البحرية والجوية، حيث تُظهر سجلاتها امتلاكها العديد من العقود مع هذه الجهات، في مجالات مثل إدارة التكاليف، والتحول الرقمي، وتحسين الكفاءة التشغيلية.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2024، كشفت تقارير صحفية أن المجموعة شاركت في تأسيس ما يُعرف بـ”مؤسسة غزة الإنسانية” (GHF)، وهو مشروع مشترك بين الولايات المتحدة وإسرائيل، يهدف إلى الهيمنة على عملية توزيع المساعدات الغذائية في غزة، واستخدامها أداة في الإبادة والتهجير، وخدمة الأهداف العسكرية للجيش الإسرائيلي.
كما ساهمت مجموعة بوسطن، وفقًا لتقرير “واشنطن بوست”، في تصميم نموذج توزيع المساعدات، بما في ذلك إنشاء مراكز التوزيع التي كانت أشبه بأقفاص حديدية، بالإضافة إلى تحديد آليات التسعير والدفع للمقاولين والمتعاقدين، وتوظيف مسلحين لتأمين قوافل المساعدات والسيطرة على مراكز التوزيع. كما شاركت في إدارة العمليات اللوجستية والمالية للمشروع.
أدى هذا النموذج إلى استشهاد نحو 1000 شخص، وأُصيب 5900 آخرون على الأقل، برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي في مواقع توزيع المساعدات، خاصة في رفح، والمواصي، ومحيط خان يونس.
في لعبة مستمرة من قنص الفلسطينيين أثناء محاولتهم النجاة من المجاعة، سعيًا للحصول على كرتونة واحدة تحتوي على أكياس من الأرز والعدس والمكرونة، ومعلّبات وعلب بسكويت، تكفي لأسبوع واحد فقط.
وبعد أن رفضت الأمم المتحدة وكل المنظمات الإنسانية المشاركة في المبادرة الإسرائيلية الأمريكية، معتبرةً أنها تخدم الأهداف العسكرية الإسرائيلية، أعلنت مجموعة بوسطن في 30 مايو/ أيار انسحابها رسميًا من المشروع، وإنهاء عقدها مع “مؤسسة غزة الإنسانية”.
ومع انسحابها، استمر النظام الذي أسسته بوسطن في قتل الفلسطينيين. ومع مرور الوقت، لم يعد الفلسطينيون يموتون عند نقاط المساعدات برصاص الجيش الإسرائيلي فقط؛ ففي 16 يوليو/ تموز، استُشهد نحو 20 فلسطينيًا بعد أن قام الحراس المرتزقة التابعون لمؤسسة غزة، والذين وظّفتهم مجموعة بوسطن، بإغلاق بوابات المركز، ورشّهم بغاز الفلفل، مما أدى إلى حبسهم بين البوابات والسياج السلكي الخارجي، حيث ماتوا نتيجة التدافع بعد رشّ الغاز، واستُشهد أحدهم طعنًا.
تعود علاقة مجموعة بوسطن بإسرائيل إلى عقود سابقة؛ إذ تشير السيرة الذاتية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى أنه عمل كمستشار اقتصادي في الشركة بين عامي 1976 و1978، بعد تخرجه من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT).
ومنذ عام 2010، افتتحت المجموعة مكتبًا لها في تل أبيب، وأصبحت من أبرز مقدّمي الخدمات الاستشارية للشركات الإسرائيلية الكبرى، خصوصًا في قطاعات التكنولوجيا، والطاقة، والدفاع، والقطاع العام، منها شركات على صلة مباشرة بالجيش والحكومة الإسرائيلية.
في 4 يوليو/ تموز، كشف تحقيق لصحيفة “فايننشال تايمز” أن مجموعة بوسطن، بالتعاون مع شركة أمنية أمريكية ومعهد دراسات إسرائيلي، عملت على خطة لتهجير نحو نصف مليون فلسطيني من غزة، من خلال تقديم مبلغ مالي قدره 9 آلاف دولار لكل فرد.
وبعد الكشف عن الخطة وتلقيها انتقادات دولية حادة، لم تنكر الشركة مشاركتها في الخطة، وقالت إنه بسبب تلك الانتقادات، أعلنت عن إجراء تحقيق داخلي حول هذا المشروع. وأكدت أن العمل الذي قامت به في هذا السياق كان يتعارض مع سياساتها الأخلاقية، وأن المسؤولين عن المشروع قد تم فصلهم بعد التحقيقات.
وهو ما يُثير العديد من التساؤلات حول مدى خطورة الاستعانة بشركات مثل مجموعة بوسطن، التي لا تقتصر علاقتها بإسرائيل على التواجد التجاري فقط، بل تمتد إلى تعاون مباشر يخدم أهداف الجيش الإسرائيلي في غزة، من خلال قتل وتجويع وتهجير الفلسطينيين في غزة، وهو ما يُشكّل تهديدًا أيضًا على الأمن القومي المصري، الذي يتحمّل مسؤولية استضافة الفلسطينيين المهجّرين.
مستشارو خصخصة شركات الجيش المصري على صلة بالجيش الإسرائيلي
تضمنت الاتفاقية التي وقّعتها الحكومة المصرية الشهر الماضي، قيام شركة برايس وترهاوس كوبرز (PwC) بتقديم خدمات الاستشارات الضريبية والمحاسبية في صفقة بيع عدد من الشركات التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية (شركات الجيش).
وتُظهر البيانات أن شركة PwC، التي تأسست عام 1998، ويقع مقرها الرئيسي في لندن، المملكة المتحدة، ترتبط بعلاقات وثيقة مع الحكومة الإسرائيلية في العديد من القطاعات، وذلك من خلال تقديمها خدمات استشارية وتدقيقية، وتوظيفها خبراء ذوي خلفيات عسكرية، ومشاركتها في مشاريع أمن سيبراني داخل إسرائيل.
يقود فرع الشركة في إسرائيل تاليا غازيت، وهي شريكة مؤسسة، وتشغل منصب رئيسة قطاع التحول الرقمي والأمن السيبراني في PwC إسرائيل. وتحمل غازيت رتبة عقيد احتياط في الجيش الإسرائيلي، وقد شغلت سابقًا منصب رئيسة وحدة “مامرام”، وهي الوحدة المركزية للحوسبة التابعة لجيش الدفاع الإسرائيلي، وتُعد من أبرز الوحدات التكنولوجية المسؤولة عن تطوير البنية الرقمية والدفاع السيبراني، وإدارة “السحابة التشغيلية” التي تدعم العمليات العسكرية، إضافة إلى تدريب وتأهيل الجنود في مجال تكنولوجيا المعلومات.
ويُظهر الموقع الرسمي لوحدة “مامرام”، التي تُعرف بأنها أول وحدة تكنولوجية تأسست داخل الجيش الإسرائيلي، أن “تاليا غازيت” لا تزال تعمل ضمن فريق الوحدة.
وفي عام 2019، أعلنت PwC، تحت قيادة تاليا، عن افتتاح مركز تجربة الأمن السيبراني في مدينة بئر السبع، مؤكدةً أنه جزء من مركز الأمن السيبراني العالمي التابع للشركة، والذي يهدف إلى تقديم خدمات تقنية متقدمة للحكومات والشركات حول العالم في مجال حماية البنية التحتية الحيوية من الهجمات والتهديدات السيبرانية، وذلك وفقًا لبيان صادر عن الشركة.
وفي عام 2024، تعاونت PwC مع صندوق OurCrowd’s Israel Resilience Fund، لدعم الشركات الإسرائيلية الناشئة المتضررة من الحرب. وقالت حينها إنها “تفخر بهذا التعاون لدعم صمود إسرائيل”، مضيفة: “تتمحور مشاركتنا في البرنامج حول مساعدة الشركات في جمع التبرعات داخل إسرائيل وخارجها، إلى جانب التواصل مع شبكة واسعة من المديرين التنفيذيين الماليين الملتزمين بدعم هذه الشركات”.
الشركة الثالثة المشاركة في الصفقة، والتي تؤدي أيضًا دور المستشار المحاسبي والضريبي في عملية بيع شركات جهاز الخدمة الوطنية، هي “جرانت ثورنتون” (Grant Thornton)، وهي شبكة عالمية يقع مقرها الرئيسي في مدينة لندن، المملكة المتحدة. تأسست عام 1924، وتُعد سابع أكبر شبكة محاسبة في العالم، وتختص بمجالات التدقيق والاستشارات الضريبية.
تتمتع شركة “جرانت ثورنتون” بحضور قوي في إسرائيل من خلال مكتب محلي تأسس عام 1955، ويُعد حاليًا سادس أكبر شركة محاسبة في البلاد، حيث تمتلك سبعة فروع موزعة على مدن عدة، من بينها تل أبيب، القدس، وحيفا. وتقدّم خدماتها لعدد من الجهات الحكومية، بما في ذلك الوزارات، السلطات المحلية، والشركات المملوكة للدولة.
وتشير البيانات إلى أن الشركاء الإداريين الذين يتولون قيادة الشركة في إسرائيل لديهم سجل مهني يتضمن تعاونًا مع هيئات حكومية ومنظمات ذات صلة بالجيش الإسرائيلي. فعلى سبيل المثال، يشغل ميكي بلومنثال منصب الشريك الإداري، ويحمل رتبة “رائد” في الجيش الإسرائيلي. أما الشريك جوزيف جينوسار، فيتولى منصبًا في منظمة تعمل بالتعاون مع الجيش الإسرائيلي لدعم الجنود.
ونظرًا لطبيعة جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، الذي يُعد جزءًا من وزارة الدفاع المصرية، وتتبع شركاته لهيئات وأفرع عسكرية مختلفة، فإن الاتفاق مع شركات استشارية أجنبية ذات ارتباطات موثقة بجهات عسكرية وأمنية إسرائيلية وأمريكية، يثير تساؤلات بشأن طبيعة المعلومات التي قد يُتاح لها الاطلاع عليها، بما في ذلك البيانات المالية، والهياكل التنظيمية، وربما تفاصيل تتعلق بالبنية العسكرية.
وتزداد هذه التساؤلات أهمية في ظل مخاوف من احتمال تسرب معلومات عسكرية يمكن استخدامها في إطار تأثير خارجي، سواء استخباراتيًا أو عسكريًا، وهو أمر ليس مستبعدًا في ظل حالة التصعيد بين الجيش المصري ونظيره الإسرائيلي، في ظل الإبادة التي تحدث في غزة، وضغط الاحتلال المستمر لتهجير الفلسطينيين إلى مصر، وبعد أن أصبح يُنظر إلى قوة الجيش المصري كتهديد.