اقتحامات الأقصى تنذر بتغيير جذري.. أين الوصاية الهاشمية؟

شكّل اقتحام قرابة 4 آلاف مستوطن متطرف، يتقدّمهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، وعضوا الكنيست عن حزب الليكود عميت هليفي وشارين هاسكل، ووزير تطوير النقب والجليل يتسحاق فاسرلاوف، باحات المسجد الأقصى يوم الأحد 3 أغسطس/آب 2025، نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ اقتحامات المسجد، إذ وُصف بأنه أكبر اقتحام عددي خلال يوم واحد للمسجد المبارك منذ احتلاله.
لأول مرة يُسمح بدخول ستة أفواج من المتطرفين دفعة واحدة، حيث يدخل كل فوج كل 10 دقائق من باب المغاربة، ويضم الفوج الواحد عشرات المستوطنين الذين أقاموا صلواتهم التلمودية في مختلف أنحاء المسجد، بأريحية كاملة، وقد نُصبت المظلات خارج المسجد لحمايتهم من أشعة الشمس أثناء انتظارهم في الطوابير، فيما وفّرت الجماعات المتطرفة لهم المواصلات المجانية ومرشدين رافقوهم خلال الاقتحام، كل ذلك تحت حماية ورعاية شرطة الاحتلال، في سياق إحياء ذكرى ما يُسمّى “خراب الهيكل”.
أثار هذا التبجّح الإسرائيلي والجرأة على المسجد وبقية المقدسات، والتي بلغت مستويات غير مسبوقة تاريخيًا، الكثير من التساؤلات حول ردود الفعل إزاء هذه البلطجة التي يبدو أنها نالت الضوء الأخضر من القيادتين السياسية والأمنية لدى الكيان المحتل، فيما يبقى السؤال الأهم: أين الوصاية الهاشمية ولجنة القدس، المناط بهما الزود عن المسجد والتصدّي لأي انتهاكات إسرائيلية بحقه؟
مختلفة هذه المرة
منذ أول اقتحام للمسجد الأقصى عام 1967، حين اقتحمه الجنرال الإسرائيلي مردخاي غور برفقة جنوده، ورفع العلم الإسرائيلي فوق قبة الصخرة وأحرق عددًا من المصاحف، بُعيد احتلال مدينة القدس وما تبقى من أرض فلسطين، لم يشهد المسجد اقتحامًا بهذا العدد الكبير كما حدث في الثالث من أغسطس/آب الجاري.
يُعد هذا الاقتحام استثنائيًا في كل شيء؛ فإلى جانب البُعد العددي، حيث قرابة 4000 مستوطن في يوم واحد، شهدت عملية الاقتحام ممارسات هي الأولى من نوعها، إذ أدى المستوطنون ما يُعرف بـ”صلاة بركة الكهنة” (وهي صلاة توراتية خاصة، يرافق فيها الحاخام تلاميذه، ويرفعون أيديهم ويبسطونها فوق رؤوسهم، مع تلاوة فقرات من “سفر العدد” في التوراة) داخل جميع جنبات الأقصى، ولم تَعُد محصورة في المنطقة الشرقية كما كان الحال سابقًا.
كما سُجّل ارتفاع صاخب في أصوات المستوطنين أثناء أداء هذه الصلوات، خلافًا لما كان عليه الأمر سابقًا من خفوت وتجنّب الجهر، وكأنهم في سباق على من يكون الأعلى صوتًا، حتى إن أصواتهم سُمعت خارج أسوار المسجد، وذلك تحت غطاء أمني مكثّف.
حملت هذه الاقتحامات رسائل عدّة مغلّفة بالطابع الديني اليهودي، لكنها في جوهرها تعبّر عن أهداف سياسية واضحة تقودها الأحزاب الصهيونية الدينية، وعلى رأسها حزب الوزير المتطرف إيتمار بن غفير، بحسب ما قاله عضو هيئة العمل الوطني والأهلي في القدس، مازن الجعبري.
يرى الجعبري أن الصلوات خلال الاقتحامات السابقة كانت تتم في أماكن محددة وتحت حماية مشددة من شرطة الاحتلال، “لكن ما حدث اليوم تطوّر خطير، إذ جرت الصلوات فوق كامل ساحة المصلى المرواني، بعدما كانت تقتصر سابقًا على بعض أجزائه، ما يعني عمليًا توسيع مناطق السيطرة داخل المسجد”.
ويُفسّر الجعبري هذه المشاركة الكبيرة من المستوطنين، بمن فيهم شخصيات سياسية بارزة، بأنها عملية حشد مقصودة سيتم استثمارها لاحقًا في سياقات انتخابية دعائية من قبل التيارات الدينية المتطرفة، لافتًا إلى أن “الخطورة لا تكمن فقط في الأعداد المتزايدة، رغم أهميتها، بل في آلية توظيف هذا الحشد وتحويله إلى رسالة سياسية داخلية موجهة لناخبي الصهيونية الدينية، مفادها أنهم قادرون على السيطرة التدريجية على المسجد الأقصى، وتقسيمه فعليًا من حيث الزمان والمكان”.
كما يشير إلى أن الوصول إلى خمسة آلاف مقتحم في يوم واحد كان هدفًا استراتيجيًا لدى الجماعات الصهيونية المتطرفة، منوهًا إلى أن هذه الجماعات ظهرت وهي تحمل لفائف التوراة قبالة الجسر المؤدي إلى باب المغاربة، في تعبير واضح عن مطلبها بإدخال الأدوات الدينية التوراتية إلى باحات الأقصى المبارك، “لأن جماعات الهيكل تعتبر إدخال أدواتها الدينية إلى الأقصى خطوة معنوية على طريق تحويله إلى هيكل”.
ويسابق بن غفير، الذي اقتحم المسجد الأقصى 11 مرة خلال الفترة الماضية، الزمن لترسيخ مخطط تهويد المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، فيما رحبت الشرطة الإسرائيلية، الخاضعة لأوامره، بتلك الاقتحامات، ووصفت المقتحمين في بيان وجّهته إلى “اتحاد منظمات الهيكل” بـ”الحجاج”، متعهّدة بتسهيل دخولهم وتأمين طقوسهم.
وبحسب الجعبري، فإن بيانًا كهذا يحمل رسالة خطيرة تتضمن اعترافًا مباشرًا وواضحًا بأن هذه الاقتحامات لم تَعُد مجرد اقتحامات، بل أصبحت ذات طابع ديني رسمي، ويجري توظيفها لصالح الأهداف السياسية لأحزاب الصهيونية الدينية، كما سلّط الضوء على تطور لافت في تعاطي سلطات الاحتلال مع هذه المسألة، إذ انتقلت من توجيه أوامر للشرطة بالسماح للمستوطنين بالغناء والرقص داخل المسجد، إلى معاقبة أي عنصر شرطي يحاول منعهم من أداء طقوسهم، معتبرًا ذلك إنهاءً رسميًا لـ”الستاتيكو” (الوضع التاريخي والقانوني القائم في المسجد الأقصى منذ ما قبل احتلال القدس عام 1967).
محاولة فرض وقائع جديدة
استكمالًا لما قاله عضو هيئة العمل الوطني والأهلي في القدس، فإن سلطات الاحتلال تحاول جاهدة فرض وقائع جديدة في المسجد الأقصى بالقوة العسكرية، متجاوزةً بذلك كل الخطوط الحمراء، وهو ما أكده الاقتحام الأخير الذي شارك فيه آلاف المستوطنين، ليتحوّل إلى ما يشبه منصة دعائية تهدف إلى تهيئة الرأي العام لما يسمونه “تجديد العهد من أجل إزالة الأقصى وتأسيس الهيكل الثالث”.
وتعتبر دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس أن مشاركة وزراء ونواب إسرائيليين في هذا الاقتحام، تحت حماية أمنية مشددة، تُكرّس عسكرة الحرم القدسي وتحويله إلى ساحة استعراض للقوة، في تحدٍّ سافر للوصاية الهاشمية وخرقٍ صريح لقرارات الشرعية الدولية، كما يأتي ذلك في الوقت الذي تتصاعد فيه تحذيرات الخبراء من خطورة هذه الاقتحامات، التي يسعى من خلالها الاحتلال إلى فرض واقع جديد داخل الحرم القدسي، على غرار ما جرى في الحرم الإبراهيمي بمدينة الخليل بعد مجزرة عام 1994، وسط تواطؤ دولي وتخاذل عربي وإسلامي متزايد.
وخلال الآونة الأخيرة، تحوّلت اقتحامات الأقصى من أحداث فردية عارضة إلى استراتيجية ممنهجة ومحورية ضمن مشروع استيطاني طويل المدى، يسعى إلى تكريس “ستاتيكو” جديد داخل الحرم القدسي، يُشرعن تقاسم الزمان والمكان مع المستوطنين، ويستهدف تهويد الحرم بالكامل، وتحويله من مكان إسلامي خالص إلى موقع مشترك عام، ضمن مشروع توسعي يستند إلى فكر استيطاني متطرّف.
أين الوصاية الهاشمية؟
مع كل اقتحام، تتجه الأنظار سريعًا صوب “الوصاية الهاشمية” والعاصمة الأردنية عمّان، بحكم خضوع المقدسات الإسلامية في القدس للإدارة الأردنية، وفقًا لاتفاقية “وادي عربة” الموقعة مع الاحتلال عام 1994، والتي تُقر – باعتراف تل أبيب – بإشراف المملكة على تلك الأماكن، وفي مقدّمتها المسجد الأقصى الذي يتعرض لانتهاكات واقتحامات بشكل شبه يومي.
وبينما كان الشارع العربي والإسلامي يتوقع موقفًا حازمًا وردّ فعل يتناسب مع حجم الكارثة، اكتفت وزارة الخارجية الأردنية – كعادتها – ببيان إدانة وشجب، أكدت فيه أن “ما جرى يُعد انتهاكًا خطيرًا للوضع القائم في المسجد، وخرقًا صريحًا للقانون الدولي”، كما شددت على أن “المسجد الأقصى المبارك، بكامل مساحته البالغة 144 دونمًا، هو مكان عبادة خالص للمسلمين، ولا سيادة لإسرائيل عليه”.
يأتي هذا البيان ضمن قائمة طويلة من عشرات، بل مئات، البيانات الصادرة عن المملكة الأردنية، التي لم تتجاوز حدود الشجب والاستنكار، كثير منها يتشابه إلى حد التطابق، دون أي إجراء ملموس ينسجم مع الحق القانوني والتاريخي للوصاية الأردنية على تلك المقدسات، التي تُدنّس ليل نهار تحت سمع وبصر السلطات الأردنية.
هذا التخاذل الأردني في ممارسة حقه القانوني في حماية المقدسات، أسال لعاب المتطرفين في الداخل الإسرائيلي وشجّعهم على قلب الطاولة والانقلاب على الاتفاقية، والمطالبة بفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على المسجد الأقصى بدلًا من الأردنية، وهو ما دفع عضو الكنيست عن حزب الليكود، موشيه فيغلين، إلى التقدّم في فبراير/شباط 2014 بطلب رسمي لمناقشة نزع السيادة الأردنية عن المسجد داخل الكنيست، معتبرًا أن “من يحكم جبل الهيكل، يحكم البلاد كلها”.
على المستوى الشعبي، أثار الموقف الأردني العاجز عن مواجهة العربدة الإسرائيلية وانتهاكاتها المستمرة بحق المقدسات الإسلامية غضبًا واسعًا بين الأردنيين، الذين طالبوا الحكومة أكثر من مرة بالتحرّك للدفاع عن الأقصى، لكن دون جدوى. وحينما استجابت السلطات الأردنية لتلك الدعوات، كان ذلك باعتقال النشطاء المطالبين بالتحرك، كما حدث مع الفتاة إسراء ظاهر، التي اعتقلتها أجهزة الأمن الأردنية بسبب رفعها لافتة صغيرة مكتوب عليها بخط اليد عبارة “أين الوصاية الهاشمية؟”، خلال مشاركتها في تظاهرة أمام السفارة الإسرائيلية في عمّان، أغسطس/آب 2024.
عامًا بعد آخر، وتحت سطوة “وادي عربة” ومقارباتها المنبطحة، يتآكل الدور الأردني في حماية المقدسات الإسلامية، لتفقد المملكة حضورها وتأثيرها، وتُسحب منها رويدًا رويدًا مفاتيح الأقصى، التي باتت مطمعًا لعدة أطراف: من جانب، “إسرائيل” ومطامعها، ومن جانب آخر، بعض القوى الإقليمية الساعية إلى تعزيز نفوذها تحت غطاء “حماية المقدسات الإسلامية”.
ماذا عن دور لجنة القدس؟
الوضع ذاته ينطبق على “لجنة القدس” (التي انبثقت عن منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1975، ويرأسها ملك المغرب، ومهمتها حماية القدس الشريف والتصدي لمحاولات طمس طابعها العربي والإسلامي)، والتي اكتفت بدورها ببيان حذرت فيه من التصعيد “غير المسبوق” الذي يستهدف الهوية الإسلامية للمسجد الأقصى المبارك، مشيرة إلى أن سلطات الاحتلال تمضي قدمًا في فرض طقوس دينية توراتية داخل الحرم، بدعم مباشر من الحكومة الإسرائيلية، وبما يشبه تحويل أجزاء من ساحاته إلى كنيس يهودي.
وترى اللجنة، التي أُنشئت للتواصل مع المنظمات الدولية المعنية وتقديم مقترحات للبلدان الأعضاء بشأن سبل حماية القدس، أن الاحتلال استغل انشغال العالم بالحرب الدموية المستمرة في قطاع غزة لتوسيع خطواته التهويدية داخل الأقصى.
وعلى مدار أكثر من 20 دورة عقدتها منذ عام 1979، لم تتخذ اللجنة أي إجراء عملي للدفاع عن المسجد أو الحفاظ على هوية القدس، مكتفية بالبيانات والتقارير التي تُدين وتُحذّر، مع بعض الاتصالات والاجتماعات الدورية التي لم تُفضِ يومًا إلى قرار حاسم أو مؤثر.
تتشارك كل من “الوصاية الهاشمية” و”لجنة القدس” في خضوعهما لسلطات مُطبّعة مع الاحتلال، محكومة بمقاربات وحسابات خاصة، أجبرتهما على التخلي عن كثير من المرتكزات الوطنية والإسلامية تحت ستار “البراغماتية”، ودفعتهما إلى تأطير الخنوع والاستسلام كواقعية سياسية، حتى وإن كان الثمن هو التخلي عن مسؤولية الدفاع عن المقدسات، وترك المسجد الأقصى فريسة لمخططات التهويد.
تاريخ من الخذلان
ما شهده المسجد الأقصى في الثالث من أغسطس/آب 2025 ليس حدثًا طارئًا ولا عابرًا، بل هو امتداد لسلسلة طويلة من الاقتحامات والانتهاكات التي يمارسها الاحتلال منذ عام 1967، فمنذ ذلك الحين، توالت الاقتحامات بشكل متصاعد، وصولًا إلى ما نشهده اليوم من أداء الطقوس والصلوات التلمودية جهارًا، وفي مختلف أنحاء المسجد، وبصوت مرتفع، وتحت حماية الشرطة، وبمشاركة شخصيات سياسية وأمنية بارزة.
القاسم المشترك الأبرز في تاريخ هذه الاقتحامات أن الخذلان العربي والإسلامي كان رفيقها الدائم، إذ لم يتجاوز ردّ الفعل الرسمي سقف الحناجر والأقلام، مكتفيًا ببيانات وتصريحات رنانة تُسكّن الشارع وتُخدّره، وتُعيده طواعية إلى حظيرة التدجين والتطبيع.
ومع افتتاح مصر حظيرة التطبيع بتوقيع معاهدة السلام مع الكيان المحتل عام 1979، وما تلاها من انضمام العديد من الدول العربية إلى تلك الحظيرة، إما بشكل فردي كما هو الحال مع الأردن، أو جماعي كما في اتفاق “أبراهام” مع الإمارات والبحرين، ومن بعدهما المغرب ثم السودان، بات المسجد الأقصى وبقية المقدسات الإسلامية في مأزق وجودي خطير.
ففي ظل مقاربات الحكومات وانبطاح الأنظمة العربية والإسلامية أمام الكيان الإسرائيلي المدعوم أميركيًا، تخلّى الأردن عن مسؤوليته التي تقرّها “الوصاية الهاشمية”، وغضّ ملك المغرب الطرف عن الدور المنوط بـ”لجنة القدس” التي يرأسها، بينما غطّت منظمة المؤتمر الإسلامي في سباتها العميق، وتجاهل بقية “القطيع” ما يجري في الأقصى، وكأن الأمر شأن خارجي لا يعنيهم.
في هذه الأجواء الساكنة، وجد الإسرائيليون البيئة المثالية لتنفيذ مخططات تهويد المسجد وفرض السيادة على بقية المقدسات، وتحقيق حلم التقسيم الزماني والمكاني المنشود، فلا موقف موحد، ولا رد فعل مقلق، ليدفع المسجد الأقصى ثمن التطبيع المجاني مع المحتل، وفاتورة المقاربات المذلّة، وضريبة الانصياع للأجندة الصهيونية في استهداف القاعدة الشعبية التي كانت، ولعقود طويلة، الوقود الأكثر اشتعالًا في مواجهة مثل هذه المخططات.