بين إنهاك الجيش وأطماع اليمين.. ما مستقبل غزة؟

مع انتهاء عملية “عربات جدعون” التي شنّها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة رسميًا، وهي العملية التي وُصفت بأنها “حاسمة” و”الأكثر تأثيرًا”، عاد الجدل ليحتدم داخل المجلس الوزاري المصغر في حكومة الاحتلال بشأن مستقبل الحرب والخطوة التالية.
هذا النقاش لم يكن سلسًا ولا هادئًا، بل أعاد إلى الأذهان أجواء التوتر التي سادت سابقًا مع وزير الحرب المُقال يؤاف غالانت، ورئيس الأركان المستقيل هرتسي هاليفي، حيث صبّ وزراء الصهيونية الدينية جام غضبهم عليهما، محمّلين إياهما مسؤولية الإخفاق في تحقيق أهداف الحرب.
ورغم تغير السياقات والتفاصيل والأسماء، لا يزال بنيامين نتنياهو يمارس لعبته المعتادة عبر إدارة الخلافات وتسعيرها بين حلفائه في اليمين الصهيوني والمستويات المهنية، وتحديدًا الجيش، إذ يوظف هذا الخلاف إلى أقصى حد، داخليًا وخارجيًا، ليُقدّم نفسه في نهاية المطاف على أنه “المخلّص” وصاحب الحلول، بينما هو في الحقيقة محور الأزمة.
تُخيّم هذه الأزمة على المشهد في وقت حساس، إذ تترافق مع مسار تفاوضي كانت مؤشراته إيجابية حتى الأيام الأخيرة، قبل أن يُفجّره المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف بسحبه الوفود، ضمن تحرّك بدا متماهيًا تمامًا مع رغبة نتنياهو في التهرّب من أي التزامات جدية لا تخدم حساباته السياسية والاستراتيجية، وهكذا دخل المشهد في حالة استعصاء، تتطلّب حسمًا واضحًا لمسار الحرب المقبلة في قطاع غزة.
سيطرة وضم واستيطان
مع بدء تلاشي آمال التوصل إلى اتفاق في الجولة التفاوضية الحالية، سارع قادة اليمين الصهيوني إلى رفع سقف مطالبهم المرتبطة بمستقبل قطاع غزة، مجددين طرح أحلامهم القديمة بإلغاء “الخطأ التاريخي” المتمثل في خطة فك الارتباط عام 2005، والتي شملت تفكيك المستوطنات الإسرائيلية في القطاع وانسحاب الجيش.
في هذا السياق، جدد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير دعوته لإعادة احتلال قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين منه، قائلًا في منشور على منصة “إكس”: “يجب العودة إلى البيت، إلى (مستوطنات) غوش قطيف، إلى كامل أرجاء غزة”، قبل أن يضيف: “الذين يجب أن يهاجروا من هناك هم الأعداء”، في إشارة إلى السكان الفلسطينيين.
وأشار بن غفير إلى أنه كان يسكن مع زوجته في مستوطنة غوش قطيف قبل أن يُجبر على مغادرتها في عام 2005. ويُذكر أن هذا التجمع الاستيطاني كان يقع جنوب القطاع، ويمتد من حدود رفح حتى تخوم دير البلح، على أراضٍ فلسطينية مصادرة.
وخلال اقتحامه لباحات المسجد الأقصى في ذكرى “خراب الهيكل” وفق التقويم العبري، عاد بن غفير وكرر مواقفه المتطرفة، داعيًا إلى “احتلال كامل قطاع غزة وإعلان السيادة الإسرائيلية عليه”، مؤكدًا في مقطع فيديو التُقط من داخل الباحات أن “القضاء على كل عنصر من حماس وتشجيع الهجرة الطوعية هما الطريق لاستعادة المخطوفين والانتصار في الحرب”، على حد تعبيره.
من جهته، لم يتأخر وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش في اللحاق بركب التصعيد، إذ كشف عن ما وصفه بـ”ضوء أخضر أميركي” يسمح بتحويل غزة إلى منطقة سياحية بعد احتلالها وتهجير سكانها، وقال: “لدينا إمكانية تهجير سكان غزة إلى دول أخرى، ونحن نعمل على ذلك. سنحتل غزة ونجعلها جزءًا لا يتجزأ من إسرائيل”.
في سياق متصل، عبّر سموتريتش عن رفضه لأي اتفاق جزئي في ملف صفقة الأسرى، داعيًا نتنياهو إلى “إغلاق الباب نهائيًا أمام هذا الخيار، وإصدار أمر فوري للجيش باجتياح القطاع”، كما شدد على ضرورة تنفيذ ما أسماه “خطة الفصل الإنساني”، التي تهدف بحسب زعمه إلى إخضاع حماس وإطلاق الرهائن بدون شروط أو تدمير غزة بالكامل.
انعكست هذه المواقف المتطرفة على مداولات المجلس الوزاري المصغر (الكابينيت)، حيث نشب خلاف حاد بين سموتريتش ورئيس الأركان إيال زامير، ونقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن الاجتماع شهد مواجهة بين الطرفين، بعد أن حذّر زامير من أن احتلال القطاع بالكامل سيستغرق سنوات، في حين أصرّ وزير المالية على خطته التصعيدية، وهاجم زامير قائلًا: “نفتقد هاليفي“، في إشارة إلى رئيس الأركان السابق، ما يعكس تصاعد التوتر بين القيادة العسكرية ووزراء اليمين.
في خضم هذه التصعيدات، كشفت صحيفة “هآرتس” أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو قد عرض على الكابينيت خطة لاحتلال أجزاء من قطاع غزة، في محاولة لامتصاص غضب سموتريتش وثنيه عن الاستقالة، بعد اعتراضه على ما وصفه بـ”السماح الإسرائيلي” بإدخال المساعدات الإنسانية للقطاع.
لا “وضوح استراتيجي”… وأهداف متضاربة
خلال المشاورات الأمنية الأخيرة داخل المجلس الوزاري المصغر (الكابينيت)، عبّر رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير بوضوح عن موقف المؤسسة العسكرية، معتبرًا أن العمليات العسكرية وصلت إلى حدودها القصوى، وأنه لا مفرّ من التوجه نحو وقف إطلاق النار وصياغة صفقة تبادل أسرى كخيار واقعي وضروري.
غير أن هذا الطرح قوبل برفض قاطع من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ودائرته المقرّبة، حيث هاجموا زامير بشدة خلال الجلسات المغلقة، متّهمين إياه بـ”الانهزامية” والانخراط في مسار يُقوّض “فرص الانتصار”، بحسب وصفهم.
وبحسب هيئة البث الإسرائيلية، فإن زامير أشار صراحة إلى أن أهداف الحرب أصبحت متضاربة، مؤكدًا أنه من غير الممكن الجمع بين استعادة الأسرى والقضاء الكامل على حماس، داعيًا المستوى السياسي إلى اتخاذ قرار واضح وإعلانه صراحة، بدلًا من ترك الجيش في حالة من التردد.
في هذا الإطار، كتب المحلل السياسي ناحوم برنياع في مقال نشره ضمن “ملحق السبت” بصحيفة يديعوت أحرونوت، أن الجيش الإسرائيلي يقف اليوم عند مفترق طرق حاسم، ليس فقط في سياق جبهة غزة، بل في عمق العلاقة المتصدعة بين القيادة العسكرية والمستوى السياسي.
ووفقًا لبرنياع، فإن الأزمة بين زامير – بصفته القائد الأعلى للجيش – وبين القيادة السياسية، ليست مجرد خلاف في التقديرات، بل أزمة حقيقية “تتجاوز المناوشات المعروفة في اجتماعات الكابينيت، وتكشف عن انقسام عميق بشأن الهدف النهائي للحرب وسبل الخروج منها”.
من جهتها، كشفت إذاعة جيش الاحتلال عن ما وصفته بـ”توتر متزايد” بين زامير والقيادة السياسية في حكومة نتنياهو، مؤكدة أن “التوتر بلغ ذروته”، وأن زامير طالب مرارًا بتوفير وضوح استراتيجي للجيش بشأن المرحلة المقبلة، مشددًا على أهمية إبداء مرونة والبحث الجاد عن صيغة لإنجاز صفقة.
كما نقلت الإذاعة عن زامير تحذيره من أن المجلس الوزاري المصغر لم ينعقد منذ فترة طويلة، وأن الجيش “لا يتلقى أوامر واضحة بشأن المستقبل”، مضيفة: “بعد انتهاء عملية عربات جدعون، يجب على القيادة السياسية أن تقرر المسار المقبل، وزامير يدفع باتجاه صفقة”.
وفي محادثات مغلقة، حذّر زامير من أن البقاء الطويل في قطاع غزة يُعرّض القوات للخطر ويخدم مصالح حركة حماس، مجددًا التحذير من التآكل المتزايد في قدرات الجيش. ووفقًا لبعض المحللين، فإن زامير بدأ بالفعل بتنفيذ إجراءات تعكس هذا التوجه، عبر تقليص عدد القوات المنتشرة داخل القطاع وإعادة تموضعها، تمهيدًا لمرحلة انتقالية قد تبدأ حتى قبل التوصل إلى هدنة أو صفقة.
وأشارت إذاعة الجيش إلى أن “الاحتلال الكامل لقطاع غزة ممكن من الناحية العسكرية”، حسب تقديرات رئيس الأركان، “لكنه سيتطلب عدة أشهر، فيما قد يستغرق تطهير القطاع فوق الأرض وتحتها سنوات”.
أما صحيفة معاريف فقد نقلت عن مصادرها أن جيش الاحتلال “لا يعرف ما الذي تريده القيادة السياسية بشأن مستقبل الحرب”، مشيرة إلى أن نتنياهو تجاهل طلبًا قدمه زامير لعقد جلسة نقاش لعرض خطط عسكرية لاستمرار القتال، ما عمّق من أزمة الثقة داخل دوائر القرار.
استعادة الأسرى عبر الحسم العسكري؟
تداخلت تقديرات الموقف داخل الحكومة الإسرائيلية في ظل تصلّب موقف جيش الاحتلال، والضغط الدولي المتزايد الناتج عن صور المجاعة الخارجة من غزة، والتي لم تكن في حسبان حكومة بنيامين نتنياهو، ولا يمسّ هذا الضغط فقط صورتها الخارجية، بل يهدد جوهر خططها بشأن شكل ومستقبل الحرب في قطاع غزة.
في هذا السياق، يواصل نتنياهو لعبته المعتادة بترك هامش واسع للمواجهة بين وزراء اليمين الصهيوني وقيادة الجيش، لتحويل الخلافات إلى أداة مزدوجة للضغط الداخلي، ورسائل خارجية موجهة للإدارة الأميركية، وللوسطاء، وحتى للمقاومة، إلا أن هذا النهج، رغم كلفته، لا يعفي حكومة الاحتلال من طرح خيارات عملية على طاولة القرار.
ومع استمرار نهج “إدارة الأزمات” الذي يتبناه نتنياهو بدلًا من حسمها، يجد نفسه محاطًا بخيارات ضاغطة: إما تبني خيار التوصل إلى صفقة تبادل أسرى، وهو ما يفضّله الجيش، أو المضي نحو الاحتلال الشامل الذي يضغط باتجاهه وزراء اليمين المتطرف.
في هذا الإطار، نقلت هيئة البث الإسرائيلية أن المجلس الوزاري المصغر (الكابينيت) سيعقد جلسة حاسمة لمناقشة مستقبل الحرب، في ظل الخلافات المتصاعدة، ووفقًا لصحيفة يديعوت أحرونوت، تُطرح حاليًا ثلاثة خيارات رئيسية:
- احتلال مناطق محددة مثل المخيمات الوسطى ومدينة غزة، حيث يُقدّر وجود بعض الأسرى الإسرائيليين أحياءً أو أمواتًا، بالتوازي مع تنفيذ خطة لإخلاء السكان جنوبًا.
- تطويق مدينة غزة والمخيمات الوسطى وتنفيذ ضربات جوية مركّزة بهدف إنهاك المقاومة دون اجتياح بري شامل.
- الاستمرار بالوضع القائم واستنفاد المسار التفاوضي المتعثر.
وبحسب الصحيفة، فإن الخيار الثالث بات “أقل ارتباطًا بالواقع” في ظل القناعة السائدة لدى صناع القرار الإسرائيليين بأن حماس غير معنية بصفقة وفق الشروط الإسرائيلية، وهو ما دفع عائلات بعض الأسرى إلى مطالبة الحكومة بالتنازل عن “النصر الحاسم” مقابل استعادة أبنائهم، ولو كان الثمن إنهاء الحرب دون تحقيق الأهداف القصوى.
إلا أنه وبعد الإعلان عن انتهاء زيارة المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف رسميًا، بدأت حكومة الاحتلال تلوّح بإمكانية التحول نحو خيار عسكري أكثر صراحة، إذ نقلت وسائل إعلام عبرية عن مصدر سياسي – يُعتقد أنه من مكتب نتنياهو – قوله: “نحن في حوار مع الأميركيين، وهناك فهم يتبلور مفاده أن حماس غير معنية بالصفقة، وبالتالي فإن رئيس الحكومة يدفع نحو تحرير الأسرى من خلال عملية عسكرية متزامنة مع الحسم في الميدان”.
واعتبرت القناة 11 العبرية هذا التصريح بمثابة إعلان مباشر بأن الوجهة القادمة قد تكون تنفيذ عملية عسكرية واسعة النطاق، قد تفضي في نهايتها إلى احتلال شامل للقطاع، تحت عنوان “تحرير الأسرى بالقوة”.
الحسم الشامل أو “الحل الشامل”
بالتوازي مع احتدام الجدل الداخلي في “إسرائيل”، بدأت ملامح توجه أميركي جديد تتبلور، خاصة منذ التصريحات المفصلية للمبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، التي مثّلت فعليًا ضربة قاضية لمسار التفاوض الذي كان يجري خلال الأسابيع الماضية، ويضغط هذا التحول الأميركي بشكل متزايد على بنيامين نتنياهو لدفعه نحو حسم وجهته، ومغادرة مربع المراوحة الذي يستنزف الجميع، ويُبقي المشهد رهينة لحساباته السياسية.
في هذا الإطار، أعلن ويتكوف أنه بصدد البحث عن “خيارات بديلة” لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، في إشارة واضحة إلى تراجع الرهان على المسار التفاوضي، وجاءت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتعزز هذا الاتجاه، حين منح نتنياهو ضوءًا أخضر صريحًا لإنهاء القضية بالقوة، إذ قال ترامب في أول تصريح له بعد انهيار المفاوضات: “أعتقد أن حماس تريد الموت، وهذا أمر سيء للغاية… لقد حان الوقت لإنهاء المهمة”. وأضاف بشأن إسرائيل: “سيضطرون للقتال، وسيتعين عليهم تطهير المنطقة… سيتعين عليكم التخلص منهم”.
لاحقًا، عاد ويتكوف ليتحدث عن “حل شامل“، يتجاوز منطق الصفقات الجزئية، ويتضمن نزع سلاح المقاومة وتفكيك حكمها، وإطلاق سراح الأسرى، مقابل التزام من نتنياهو بإنهاء الحرب، إلا أن هذا الطرح، برغم ما يحمل من دعم أميركي، يزيد من تعقيد المشهد التفاوضي، ويهدد بانغلاق سياسي جديد، فمحاولة فرض ما عجزت آلة الحرب الإسرائيلية عن تحقيقه بالقوة، عبر المسار السياسي وتحت مسمى “الحل الشامل”، لا يبدو خيارًا قابلًا للتطبيق، لا من جهة المقاومة، ولا من جهة الواقع الميداني.
من جهته، لا يبدو نتنياهو متحمسًا للطرح الأميركي الجديد، بل يُفضّل استمرار إدارة الحرب بمنطق “التحكم الجزئي”، عبر التفاوض على صفقة محدودة يُستعاد من خلالها جزء من الأسرى، دون تقديم تنازلات جوهرية، مع إبقاء الباب مفتوحًا لاستئناف العمليات العسكرية لاحقًا، بما يخدم رؤيته الاستراتيجية في الحسم والتهجير.
أما المقاومة الفلسطينية، التي تدير المشهد بمرونة محسوبة ضمن هوامش محدودة، فقد ألمحت عبر المتحدث باسم كتائب القسام “أبو عبيدة” إلى أن الفرص الحالية ليست مفتوحة إلى الأبد، وأن خيار إطلاق سراح عشرة أسرى دفعة واحدة في إطار صفقة واسعة قد لا يبقى مطروحًا طويلًا على الطاولة.
في المحصلة، يبدو أن قطاع غزة يتجه نحو فصل جديد من المعاناة، في ظل انسداد الأفق السياسي، وعودة “إسرائيل” للتمسك بخيارات عدوانية، أقلّها سوءًا يتضمن استمرار الحصار والتجويع والتدمير الممنهج، بعد قرابة عامين من القتل والتصعيد المتواصل.