اغتيال أنس الشريف: محاولة أخيرة لتغييب الحقيقة

في اليوم الـ 675 من حرب الإبادة على غزة، فقدت الساحة الإعلامية أحد أبرز أصواتها الميدانية وأكثرها جرأة، باستشهاد الصحفي الفلسطيني أنس الشريف، مراسل شبكة الجزيرة، إثر قصف إسرائيلي استهدف خيمة الصحفيين في محيط مستشفى الشفاء، بينما كان يؤدي واجبه المهني في توثيق الجرائم ونقل الحقيقة. الاستهداف طال زملاءه في الفريق الصحفي، المراسل محمد قريقع والمصورين إبراهيم ظاهر ومحمد نوفل، في هجوم أثار موجة واسعة من الإدانة.

وأصدرت شبكة الجزيرة بياناً حمّلت فيه الجيش الإسرائيلي والحكومة الإسرائيلية المسؤولية عن مقتل مراسليها، واعتبرت ما جرى “هجوماً متعمداً على حرية الصحافة”. وأشارت إلى أن الحادثة وقعت وسط “كارثة إنسانية” يعيشها القطاع، مؤكدةً أن أنس الشريف وعدداً من زملائه تعرضوا في السابق لحملات تحريض وتهديد من قبل مسؤولين عسكريين إسرائيليين.

برحيل أنس الشريف، يرتفع عدد الصحفيين الشهداء في غزة إلى 238، في حصيلة دامية تعكس حجم الثمن الذي يدفعه الإعلاميون وهم يحملون كاميراتهم وأصواتهم إلى قلب المأساة، ليكونوا شهودًا على الحقيقة حتى اللحظة الأخيرة.

رمز الحقيقة في غزة

لم يكن أنس مجرد مراسل ميداني، بل كان رمزًا لجرأة الكلمة والصورة في قلب واحدة من أخطر بيئات العمل الصحفي في العالم. فمنذ اليوم الأول لعمله في الميدان، اختار أن يكون حيث تراجع الآخرون، ليروي للعالم بطش الآلة الإسرائيلية، ويكشف للعالم حجم المأساة الفلسطينية.

وُلد أنس عام 1996 في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، ونشأ في مدينة جباليا، حيث تلقى تعليمه في مدارس وكالة «الأونروا» ومدارس وزارة التربية والتعليم الفلسطينية. التحق بجامعة الأقصى عام 2014، ودرس تخصص الإذاعة والتلفزيون، وحصل على شهادة البكالوريوس عام 2018. بدأ مسيرته الصحفية متطوعًا في شبكة الشمال الإعلامية، قبل أن ينتقل إلى العمل مراسلًا لشبكة الجزيرة.

أصبح أنس هدفًا واضحًا لجيش الاحتلال الإسرائيلي، منذ تعالى صوته في نقل الحقيقة وبات العالم العربي والأجنبي يثق به وبعدسته، وقد وجّه له الاحتلال عشرات التهديدات بالقتل كما اتهمه وزراء في الحكومة الإسرائيلية بتهم ملفقة بالانتماء لحركة حماس. وهو ما دفعه إلى مزيد من الإصرار على التغطية الميدانية.
خسر أنس في هذه الحرب العشرات من أفراد عائلته، من بينهم والده الذي قضى بقصف للطائرات الحربية الإسرائيلية في 11 ديسمبر/كانون الأول 2023 في منزل العائلة في مخيم جباليا. حيث كان القصف جزءًا من م جزءًا من سلسلة هجمات استهدفت أحياء سكنية مكتظة، أسفرت عن مجازر بحق عشرات المدنيين. لكن اشتداد العدوان على القطاع لم يمنحه وقتًا للحداد، حيث عاد إلى الميدان خلال ساعات.

يحمل أنس مكانة خاصة في قلوب الفلسطينيين والعالم أجمع، إذ يتابعه ملايين الداعمين للقضية الفلسطينية من العرب والأجانب، ويشهدون له بالدقة والمصداقية. أما في غزة، فقد كان صوتًا لأهلها أمام صمت العالم. 

استهداف مباشر للكلمة

في مساء الأحد، تحوّل محيط مستشفى الشفاء في مدينة غزة إلى مسرح لجريمة اغتيال جديدة بحق الصحافة الفلسطينية. حيث استهدف طيران جيش الاحتلال خيمة تجمع الصحفيين مع معرفته بكونها مكاًنا لاحتماء الطواقم الإعلامية، إذ استهدفت طائرة مسيّرة إسرائيلية الموقع بشكل مباشر، مما أسفر عن استشهاد أنس ورفاقه.

إلى جانب صحفيين آخرين هم الصحفي محمد الخالدي والمصور مؤمن عليوة، وسبعة ضحايا آخرين بحسب مدير مجمع الشفاء الطبي الدكتور محمد أبو سلمية.

وكان أنس قد سجل آخر ظهور له قبل ساعات فقط من استشهاده، حيث ظهر عبر شاشة الجزيرة في نشر أخبار الـ 12 ظهرًا ، نقل فيها ارتفاع أعداد الشهداء جراء الجوع وسوء التغذية، خصوصًا بين الأطفال.

 

في بيان لاحق، أقرّ جيش الاحتلال الإسرائيلي باستهداف أنس الشريف، مدعيًا أنه “إرهابي تنكر بزي صحفي” وأنه كان قائد خلية في حركة حماس، وهو اتهام يأتي امتدادًا لحملة تحريض ممنهجة تعرض لها الشهيد في الأشهر الأخيرة، بعد تغطيته المكثفة لعملية التجويع في القطاع.

كما ادعى البيان امتلاك جيش الاحتلال “معلومات استخباراتية ووثائق عُثر عليها في قطاع غزة” تثبت ـ بحسب زعمه ـ انتماء أنس الشريف لحركة حماس، وتورطه في أنشطة وصفها بـ”الإرهابية”. مع مزاعم بوجود وثائق تضم قوائم بأسماء، وسجلات لدورات تدريبية، ودليل هواتف، وملفات رواتب، اعتبرها “دليلًا قاطعًا” على أنه يعمل ضمن صفوف الجناح العسكري للحركة. 

تأتي هذه المزاعم في سياق خطاب تحريضي مستمر ضد أنس الشريف منذ أشهر، إذ تعرّض لهجمات متكررة من الناطق باسم جيش الاحتلال، أفخاي أدرعي، الذي هاجمه علنًا ثلاث مرات منذ بدء الحرب على قطاع غزة.

وكان آخر هذه الهجمات في أواخر يوليو/تموز 2025، حين زعم أدرعي أن الشريف “واحد من ستة صحفيين في الجزيرة تابعين لحماس أو الجهاد الإسلامي”، وهي اتهامات نفتها الشبكة بشكل قاطع، كما اعتبرها الشهيد بـ”التحريضية” و”محاولة لإسكاتي، في مسعى لوقف تغطيتي عبر شاشة الجزيرة ومواقع التواصل الاجتماعي”.

صدى دولي وإدانات واسعة

أحدث اغتيال أنس الشريف إدانة واسعة في الأوساط الإعلامية والحقوقية حول العالم، حيث اعتُبر الهجوم اعتداءً سافرًا على الحق في نقل الحقيقة، واستهدافًا مباشرًا لحرية الصحافة. فقد نددت منظمات دولية، بينها “مراسلون بلا حدود” و”لجنة حماية الصحفيين”، بالجريمة، مؤكدة أن قتل الصحفيين في غزة أصبح سياسة ممنهجة تهدف إلى حجب ما يجري على الأرض عن أنظار العالم.

وفي بريطانيا، وصف الأمين العام المساعد للاتحاد الوطني للصحفيين، عملية اغتيال صحفيي الجزيرة بأنها “عمل مروع آخر في الحرب على الصحافة”، مؤكدًا أن قتلهم يمثل استهدافًا واضحًا للقناة، ومعبرًا عن تعاطفه مع عائلاتهم وزملائهم.

أما على مستوى الأمم المتحدة، فقد علقت المقررة الخاصة المعنية بحرية الرأي والتعبير، إيرين خان، بأن الجيش الإسرائيلي “يحاول قتل الحقيقة لكنه لن ينجح”، واصفة أنس الشريف بالصحفي الشجاع، ومؤكدة أنه أخبرها في وقت سابق بعزمه على مواصلة كشف الحقيقة رغم المخاطر.

وفي الولايات المتحدة، عبّر نادي الصحافة الأميركي عن حزنه العميق، وقال رئيسه إن أنس الشريف كان “صحفيًا مرموقًا”، وذكّر بأنه واحد من أكثر من 200 صحفي تم الإبلاغ عن قتلهم منذ بدء الحرب.

أما فلسطينيًا، فقد نعت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الشهيدين أنس الشريف ومحمد قريقع، ووصفت الاغتيال بأنه “جريمة وحشية تتجاوز كل حدود الفاشية والإجرام”، محذرة من أنه يمهد لارتكاب جريمة كبرى في مدينة غزة.

 ودعت الحركة المجتمع الدولي، وفي مقدمته مجلس الأمن، إلى إدانة الجريمة والتحرك الفوري لوقف الانتهاكات غير المسبوقة للقوانين الدولية، ومحاسبة قادة الاحتلال على جرائمهم ضد الإنسانية.

وصية أخيرة للشهيد

“إن وصلتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي. ويعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من جهد وقوة لأكون سندًا وصوتًا لأبناء شعبي، منذ أن فتحت عيني في أزقة وحارات مخيم جباليا، وكان أملي أن يمد الله في عمري حتى أعود مع أهلي وأحبتي إلى عسقلان المحتلة، لكن مشيئة الله كانت أسبق وحكمه نافذ.”

بهذه الكلمات، رحل عنا الصحفي المقاوم أنس جمال الشريف وهو يوصي بفلسطين وأهل غزة، ويدعو إلى نصرة أطفالها المظلومين الذين لم يمهلهم العمر ليحلموا أو يعيشوا في أمان وسلام، وقد سُحقت أجسادهم تحت آلاف الأطنان من القنابل والصواريخ الإسرائيلية.

“أوصيكم بفلسطين، درةَ تاجِ المسلمين، ونبضَ قلبِ كلِّ حرٍّ في هذا العالم. أوصيكم ألّا تُسكتكم القيود، ولا تُقعِدكم الحدود، وكونوا جسورًا نحو تحرير البلاد والعباد، حتى تشرق شمسُ الكرامة والحرية على بلادنا السليبة.”