“الجوع يقتل أكثر من الحرب”.. اليمنيون في مواجهة الموت البطيء

تمر اليمن بأزمة إنسانية تعد من الأشد تعقيدًا في العالم، حيث تتداخل عوامل النزاع المسلح والحصار الاقتصادي والألغام الأرضية ونقص الخدمات الأساسية، لتخلق واقعًا مأساويًا يضرب في العمق معيشة الملايين من النازحين والمهجرين داخل البلاد. في ظل هذه المعاناة، برزت أزمة سوء التغذية كأحد أخطر التحديات التي تهدد حياة الأطفال والنساء وكبار السن، خاصة في المناطق المحاصرة مثل مديرية عبس ومحافظة حجة.

سوء التغذية في اليمن لا يقتصر على فقدان الوزن فقط، بل يفاقم من خطر الإصابة بالأمراض المزمنة، ويضعف قدرة الإنسان على مقاومة الظروف القاسية المحيطة به.

تتمدد الطفلة مريم سعيد، ذات العام الواحد، على سرير حديدي في زاوية غرفة صغيرة بمركز صحي متهالك في أطراف محافظة حجة شمال غربي اليمن. جسدها النحيل يكاد يختفي تحت قطعة قماش باهتة، وأنفاسها متقطعة، فيما تتساقط دموع أمها بصمت وهي تراقب مؤشر جهاز قياس النبض.

يقول والدها سعيد، إن أعراض المرض بدأت قبل شهرين، عندما رأى وزنها ينخفض بشكل ملحوظ، “ظننت في البداية أن الأمر مجرد وعكة بسيطة، لكن عندما لاحظت ارتخاء جسدها وعجزها عن الوقوف أو الزحف، أدركت أن الوضع أخطر بكثير”، يروي الأب بصوت مثقل بالحزن.

حاول الأب إدخال ابنته إلى أقرب مركز صحي، إلا أن الطرق كانت مغلقة بسبب المعارك وزرع الألغام، فاضطر أن يسلك مسارات ترابية ملتوية لمسافة تزيد على 15 كيلومترًا، حاملًا طفلته بين ذراعيه، حتى وصل إلى المركز، ولكن قدرات المركز كانت محدودة، فالأدوية غير متوفرة وأجهزة الفحص معطلة منذ أشهر.

الهزال والمرض وسط ندرة المساعدات

تتحدث شيماء عن المعاناة التي تواجهها هي وأطفالها بسبب سوء التغذية المنتشر في المخيم، بصوت مملوء بالحزن تقول: “الأطفال هنا كثير منهم نحيفون ووجوههم باهتة من الجوع، ما عندهم قوة يلعبوا أو يضحكوا، أطفالي صاروا يعانوا من الهزال، ومرات يصيروا مرضى وما نقدر نوديهم للمستشفى بسبب نقص الأدوية وقلة الإمكانيات”.

تتابع: “المساعدات التي تصلنا قليلة جدًا، أحيانًا نمر أيام طويلة بلا أكل كافي، وهذا الشيء يخلي الأطفال يضعفوا أكثر وأكثر”، وتضيف: “أنا خايفة على أولادي، لأن سوء التغذية مش بس بيخليهم ضعاف، بيخليهم عرضة لأمراض كثيرة، وأنا ما أقدر أعمل لهم شيء، ننتظر بس أن المنظمات تساعدنا بشكل أفضل”.

أما عبد الله، وهو أحد النازحين، فيتحدث عن معاناته اليومية في المخيم بسبب نقص المياه الصالحة للشرب، حيث يقول: “نحصل بالكاد على دبتين ماء في اليوم والمشكلة ما تقتصر على الماء فقط، أحيانا تمر أيام كاملة بلا طعام، خاصة مع غياب المنظمات الإنسانية التي كنا نعتمد عليها لتوفير الدعم الضروري، نمر يومين أو حتى ثلاثة بلا أكل”.

وعن الرعاية الصحية، يشير عبد الله إلى وجود مراكز صحية في المخيم لكنها تفتقر إلى الأدوية والعلاج الفعلي ،حيث يقول: “الطبيب يعطينا نصائح فقط، لا علاج حقيقي، وهذا يزيد من معاناتنا يومًا بعد يوم، الجوع يهدد حياتنا وحياة أطفالنا”.

تحذيرات دولية من كارثة إنسانية

مع تصاعد حدة الأزمة الإنسانية وانتشار أوضاع المجاعة وسوء التغذية، تتوالى التحذيرات من مؤسسات دولية بشأن تدهور الوضع في اليمن، وتأثير ذلك بشكل خاص على الفئات الأكثر ضعفاً كالأطفال والنساء. في هذا السياق، حذر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، توم فليتشر، من تفاقم الوضع الإنساني في البلاد، مشيرًا إلى أن نصف الأطفال يعانون من سوء التغذية، بينهم 600 ألف حالة حادة.

وأضاف فليتشر أن 69% فقط من الأطفال دون سنة تلقوا التطعيم الكامل، فيما لم يتلق 20% أي لقاحات، مما ساهم في تفشي أمراض مثل الكوليرا والحصبة. وسجلت اليمن أكثر من ثلث حالات الكوليرا العالمية العام الماضي، مع ارتفاع في معدلات الوفيات، وسط أزمة غذائية تؤثر على 1.4 مليون امرأة حامل ومرضعة.

كما أوضح أن 9.6 مليون امرأة وفتاة يحتجن إلى مساعدات عاجلة بسبب الجوع وانهيار النظام الصحي، ونبه إلى نقص التمويل لخطة الاستجابة الإنسانية لعام 2025، التي تلقت 9% فقط من الموارد المطلوبة، مما يهدد بإغلاق نحو 400 مرفق صحي ويؤثر على نحو 7 ملايين شخص.

وفي ظل استمرار تدهور الأوضاع الإنسانية في اليمن، تؤكد تقارير منظمة اليونيسف أن أزمة سوء التغذية بين الأطفال ليست فقط مشكلة صحية، بل كارثة تهدد مستقبل أجيال كاملة، حيث ترسم الأرقام صورة قاتمة لحجم المعاناة والتحديات التي تواجه الأطفال في الحصول على الغذاء والرعاية اللازمة.

وتشير بيانات منظمة اليونيسف إلى أن اليمن تواجه أزمة تغذية حادة بين الأطفال، حيث يُقدَّر عدد الأطفال المصابين بسوء التغذية الحاد بحوالي 2.2 مليون طفل، منهم نحو 540,000 طفل يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم، وهو الشكل الأكثر خطورة الذي يهدد حياة الطفل بشكل مباشر.

وتُظهر الإحصائيات أن 15% فقط من الأطفال يحصلون على الحد الأدنى المقبول من الغذاء الضروري لبقائهم ونموهم الصحي، ويعاني حوالي 80% من اليمنيين من أعباء الديون، ويكافحون لتأمين الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والماء والمواصلات والخدمات الصحية.

أبعاد الأزمة والابتزاز السياسي

في حديثه لـ”نون بوست” أكد مدير عام الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين بمحافظة حجة، عبده مساوى، أن الوضع الإنساني في اليمن، لا سيما في مجالي الأمن الغذائي ومكافحة سوء التغذية بين النازحين، بلغ مرحلة بالغة الصعوبة.

وأوضح أن إدارة الملف الإنساني من قبل المنظمات الدولية والأممية والمحلية ما تزال تقتصر على التدخلات الطارئة، دون إدراج البعد الاستراتيجي أو المستدام في خططها، مما يعيق الوصول إلى حلول طويلة الأمد.

وأشار مساوى، إلى أن النقص الحاد في التمويل لخطة الاستجابة الإنسانية أدى إلى تقليص المساعدات، وفي مقدمتها الغذاء، مؤكدًا أن كثيرًا من السلال الغذائية المقدمة لا تكتمل فيها الأصناف التي تلبي احتياجات جميع أفراد الأسرة من مختلف الفئات، ولا تكفي لفترة زمنية مناسبة، وهو ما يخالف المعايير الإنسانية الأساسية.

وأضاف أن المعاناة في محافظة حجة، وبالأخص في مديرية عبس، تتفاقم بفعل ابتزاز جماعة الحوثي للعاملين والمستفيدين من المساعدات، حيث تفرض مبالغ مالية على المنظمات وتعرقل أنشطتها في حال عدم الامتثال لمطالبها.

وأكد أن تقارير منظمات دولية وأممية مثل برنامج الغذاء العالمي والصليب الأحمر وثقت قيام الحوثيين بتحويل المساعدات من المدنيين إلى مقاتليهم، ما أدى إلى توقف بعض البرامج وظهور حالات سوء تغذية حادة ووفيات.

ودعا مساوى المجتمع الدولي والجهات المانحة إلى زيادة التمويل المخصص لبرامج الاستجابة الإنسانية، وتطبيق معايير السلة الغذائية المتكاملة والمتوازنة التي تكفي الأسرة لشهر كامل، وتغطي احتياجات جميع الفئات، مع تعزيز برامج علاج سوء التغذية، ومطالبًا بسحب إدارة الملف الإنساني من يد جماعة الحوثي لضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها دون استغلال أو عرقلة.

وكانت منظمة اليونيسف في اليمن قد أطلقت حملة متكاملة متعددة القطاعات لمواجهة الأزمة الإنسانية المتفاقمة، حيث يعاني ملايين الأطفال من سوء التغذية الحاد بسبب استمرار الصراع والأزمة الاقتصادية. وسجلت اليمن أعلى معدلات سوء التغذية الحاد على مستوى العالم، إذ ارتفع عدد الأطفال دون سن الخامسة الذين يعانون من الهزال بنسبة 34% مقارنة بالعام السابق، ليصل إلى أكثر من 600,000 طفل، منهم 120,000 يعانون من سوء تغذية حاد. ويُعزى هذا التصاعد إلى تفشي أمراض مثل الكوليرا والحصبة، بالإضافة إلى استمرار انعدام الأمن الغذائي وعدم كفاية الوصول إلى الغذاء والمياه النظيفة والرعاية الصحية.

اليمن على شفير المجاعة

بدوره، قال الباحث في الشؤون الإنسانية والسياسية الدكتور إيهاب القرشي، في حديث لـ”نون بوست”، إن سوء التغذية يشكل التهديد الأكبر لحياة اليمنيين منذ عقود، خاصة في المناطق الغربية والسهل التهامي، حيث تعاني محافظتا حجة وشمال الحديدة من هذه المأساة أكثر من غيرها.

وأوضح خلال زيارته لمناطق حيران وميدي وأجزاء من عبس وبني حسن أنه شاهد أوضاعًا معيشية مأساوية وأمراضًا تفتك بالبشر، خصوصًا بين النازحين الذين يفتقرون لأبسط مقومات الحياة من ماء وغذاء وخدمات صحية. وأشار إلى أن هذه المناطق محاصرة من قبل مليشيات الحوثي، ومزروعة بالألغام، مما يعيق وصول المساعدات إلا عبر الحدود السعودية اليمنية، وهو ما يزيد من تفاقم المعاناة.

وأكد أن الحرب حولت سوء التغذية إلى “قاتل مأجور” يزهق أرواح الأطفال والنساء أكثر من النزاعات المسلحة نفسها، مستشهدًا بتقرير جامعة دنفر وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذي كشف أن في 2019 كان يموت طفل دون الخامسة كل 12 دقيقة، ووصل عدد وفيات الأطفال بسبب سوء التغذية إلى 131 ألف حالة من أصل 233 ألف وفاة، مقابل 102 ألف وفاة بسبب النزاع المباشر.

وبحلول عام 2022، ارتفعت الوفيات ليصبح طفل يموت كل 7 دقائق، ووصل العدد التراكمي لوفيات الأطفال إلى 316 ألف حالة مقابل 166 ألف قتيل بسبب الحرب، من إجمالي 482 ألف وفاة في اليمن.

وأشار إلى أن التوقعات لعام 2030 ترسم كارثة أكبر، حيث قد يصل إجمالي الوفيات إلى 1.8 مليون يمني، منهم 1.48 مليون طفل دون الخامسة بسبب الجوع، مقابل 296 ألف ضحية للنزاع. وقال: “هذه الأرقام تؤكد دخول اليمن مرحلة المجاعة، خصوصًا في المناطق المصنفة بالمستوى الخامس من مؤشر الأمن الغذائي IPC، وعلى رأسها حجة والحديدة، لكن هذه الحقيقة تخفى عن العالم لأسباب متعلقة بالدور الدولي في اليمن، وسط تعتيم إعلامي متعمد”.

واختتم بدعوته للدول الرباعية لتحمل مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية والقانونية، بصفتها مفوضة من مجلس الأمن بموجب البند السابع، مطالبًا الحكومة الشرعية بعرض الصورة الحقيقية للوضع الإنساني والعمل على معالجة أزمة سوء التغذية.

أمام هذه الصورة القاتمة للوضع الإنساني في اليمن، تتكشف أبعاد جديدة للأزمة مع ما وثقته منظمة أطباء بلا حدود، التي حذرت من تفاقم معدلات سوء التغذية وما يرافقه من ضغوط متزايدة على المرافق الصحية، حيث تواجه ضغوطًا متزايدة بسبب ارتفاع أعداد الأطفال المصابين بسوء التغذية.

بين يناير 2022 وديسمبر 2024، عالجت منشآت المنظمة أكثر من 35,000 طفل دون سن الخامسة في خمس محافظات رئيسية منها حجة والحديدة. وتتفاقم الأزمة بسبب تخفيض المساعدات الغذائية، ونقص البنية التحتية الصحية، وضعف تغطية التطعيمات، مما يزيد من خطورة الوضع الإنساني ويهدد حياة آلاف الأطفال.