فجوة الأسعار والعملة: أزمة المعيشة في اليمن مستمرة

رغم التحسن الملحوظ في سعر صرف الريال اليمني أمام العملات الأجنبية في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، ما زال المواطن اليمني يعاني من عدم انعكاس هذا التحسن على الأسعار في الأسواق المحلية، مما يخلق فجوة واضحة بين تحسن العملة وقدرة المواطن على شراء مستلزماته الأساسية. وبينما تتحدث الجهات الرسمية عن خطوات جادة لتعزيز الاقتصاد، يعاني الشارع من أزمة غلاء مستمرة ومشكلات اقتصادية واجتماعية معقدة، أحد أبرز أسباب تعقيد الأزمة الاقتصادية في اليمن هو الانقسام السياسي الذي أدى إلى وجود نظامين ماليين منفصلين.

في العام 2016، نقلت الحكومة الشرعية البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن بعد سيطرة جماعة الحوثي على العاصمة صنعاء، هذا النقل كان خطوة استراتيجية لإعادة السيطرة على السياسة النقدية في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية، بهدف استعادة الاستقرار المالي والنقدي. لكن هذا الانقسام خلق واقعا معقدا لسوق الصرف، إذ يعمل البنك المركزي في عدن بشكل منفصل عن ما يجري في صنعاء التي تسيطر عليها جماعة الحوثي، مما أدى إلى تضخم غير مسبوق، وتدهور قيمة العملة، وتضارب الأسعار، وعزوف المستثمرين، وتعميق معاناة المواطنين.

في المقابل، ساهمت الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي اليمني في عدن، بدعم محلي ودولي، في ضبط سوق الصرف وتنظيم الطلب على النقد الأجنبي والحد من المضاربة، ما أدى إلى تحسن نسبي في قيمة الريال في مناطق الحكومة الشرعية، لكن التأثير لا يزال محدودا بسبب التحديات المستمرة، وضعف الرقابة، وغياب التنسيق الاقتصادي الكامل مع الأطراف الأخرى.

معاناة المواطن

يقول عارف، وهو رب أسرة من تعز، في حديثه لـ”نون بوست ” إن فارق الانخفاض بين سعر صرف العملة وانخفاض أسعار السلع الغذائية والتموينية أثر بشكل مباشر على حياته وحياة أسرته، ويضيف: “أنا كرب أسرة، أعجز تماما عن وضع نظام واضح لمصروفاتي الشهرية بسبب التلاعب المستمر في أسعار الصرف وأسعار المواد الغذائية”.

ويتابع: “ألجأ كثيرا إلى الديون كحل مؤقت لتوفير احتياجات أسرتي اليومية، أحاول دائماً ترتيب أولوياتي، أشتري فقط المواد الضرورية وأتجنب كل ما هو كمالي أو غير أساسي”. يستلم عارف حوالى 500 ريال سعودي شهرياً من ولده المغترب في السعودية.

ويقول عارف: “في السابق كنت أصرف هذه المبالغ بما يعادل 380 ألف ريال يمني، وأتمكن من شراء الدقيق والسكر والأرز والزيت، لكن اليوم أصبح المبلغ يعادل فقط 210 آلاف ريال، ولا تكفي لتلبية هذه الاحتياجات الأساسية”.

ويخلص إلى أن النقص في أسعار السلع يجب أن يكون مناسبا مع نسبة انخفاض سعر الصرف، وإلا فلا جدوى من هذا الانخفاض في سعر العملة، وسيظل المواطن هو الخاسر الأكبر.

غلاء يعصف بالحياة اليومية

محمد الرميم، معلم تربوي، يعيش واحدة من أصعب تجاربه مع الواقع الاقتصادي المتقلب في البلاد. يقول محمد ل”نون بوست “:توقفت رواتبنا منذ شهر يونيو ويوليو 2025، ولم تصرف لنا سوى راتب شهر يونيو قبل ثلاثة أيام فقط، بالإضافة إلى تسعة رواتب أخرى متراكمة منذ عام 2016 و2017 لا تزال معلقة في دهاليز وزارة المالية”.

هذا التأخير في صرف الرواتب، التي لم تعد تكفي حتى لتأمين الاحتياجات الأساسية، ينعكس بشدة على حياة المعلمين الذين يعانون من ضعف القوة الشرائية لرواتبهم.

على الرغم من التحسن الطفيف في سعر صرف الريال مقارنة بالعملات الأجنبية الصعبة، حيث هبط سعر هذه العملات بنسبة تقارب 40%، فإن انخفاض أسعار السلع الغذائية لم يتجاوز 25%  ما يعني عدم تناسب بين تحسن العملة وتراجع الأسعار في السوق.

يضيف محمد: “التحدي الاقتصادي الأكبر اليوم يكمن في غياب التوازن بين هبوط سعر العملات الصعبة وانخفاض أسعار السلع الأساسية، وهذا يجعل مصروفاتنا الشهرية تتجاوز بكثير قيمة راتبنا”.

ويستذكر محمد الوضع قبل الحرب قائلاً: “في عام 2014، كان راتب المعلم يعادل 1500 ريال سعودي، أما اليوم، فلا يتجاوز المتوسط 300 ريال سعودي، وهذا الفارق الهائل يصنع هوة كبيرة بين ما نحصل عليه واحتياجاتنا الضرورية، ناهيك عن الكماليات التي باتت حلماً بعيد المنال”.

تحركات الأسعار وانعدام الرقابة

يشير التاجر فائز النعماني في حديثه ل”نون بوست ” إلى أن تحسن سعر الريال انعكس بشكل جزئي فقط على حركة السوق، حيث شهدت بعض السلع انخفاضا في أسعارها، بينما انخفضت أسعار أخرى بشكل لا يتناسب مع قيمتها الحقيقية مقارنة بسعر الريال السعودي الحالي، في حين بقيت بعض السلع على أسعارها المرتفعة دون أي تغيير.

هذا الواقع يدفع المستهلكين لشراء تلك السلع بحسب الحاجة فقط، وليس باعتبارها سلعا أساسية متوفرة.

يقول النعماني، إن بعض الباعة يبررون استمرارهم بالبيع بالسعر المرتفع بأنهم اشتروا بضائعهم بالريال اليمني، وهذا وارد في كثير من الحالات، لكن من غير المقبول أن تمر أكثر من أسبوعين دون تعديل الأسعار حتى وإن أدى ذلك إلى خسارة محدودة.

ويشير إلى أن غياب الرقابة الرسمية على الأسواق يمنح بعض التجار فرصة للتلاعب بالأسعار والأولى بهم أن يستشعروا رقابة الله قبل رقابة الإنسان.

وحول الضغوط التي تواجه الباعة، يوضح النعماني أن السلع الأساسية تشكل أبرز تلك الضغوط، نظرا لكونها محتكرة من قبل عدد محدود من التجار الذين يبيعونها بأسعارها السابقة المرتفعة، وهو ما ينعكس سلبا على ثقة المستهلكين ويضع البائع الصغير في موقف حرج أمام الزبائن.

وبشأن تأثير المخزونات القديمة على الأسعار، يقول النعماني: “نبيع بالسعر الحالي حفاظا على استقرار العملة، حتى لو تكبدنا خسارة اليوم، فقد نعوضها في المستقبل”. وعن توقعاته لمستقبل الأسعار، بين النعماني أن هناك بعض المخاوف من عودة الأسعار للارتفاع، لكنه يعبر عن تفاؤله بالإجراءات الأخيرة التي اتخذها رئيس الوزراء ومحافظ البنك المركزي، إضافة إلى ما وصفه بالتوجه الدولي الجاد نحو إنعاش الاقتصاد اليمني.

ويختتم بالقول إن سياسات التسعير لديه ستظل مرتبطة بحركة سعر الريال، طالما أن المضاربين بالعملات الأجنبية تحت السيطرة.

وزارة الصناعة والتجارة تكافح ارتفاع الأسعار

وزير الصناعة والتجارة محمد الأشول، يؤكد أن الأهم في تحسن سعر الريال هو استقراره وثباته أمام العملات الأجنبية، موضحا أن العملة المستقرة تسهل عمليات الرقابة وتُعزز الثقة في استخدام الريال، ما يقلل من حاجة المواطنين لتحويل مدخراتهم إلى العملات الأجنبية حفاظا على قيمتها.

يضيف الأشول في حديثه لـ”نون بوست” أن لتحسن سعر الريال فوائد مباشرة على المواطنين تنعكس إيجابا على القطاع التجاري والأسواق المحلية، حيث يؤدي انخفاض الأسعار إلى تنشيط حركة البيع والشراء، مما يرفع حجم الإنتاج والاستيراد ويسهم في نمو الاقتصاد الوطني، وهو ما وصفه بتأثير “الدومينو”.

وحول الإجراءات التي تتخذها الوزارة لضبط الأسعار وحماية المستهلك، يشير إلى الجهود الكبيرة التي تبذلها الوزارة ومكاتبها في المحافظات، والتي تمثلت في إصدار تعاميم دورية، وتلقي البلاغات، وتعزيز النزولات الميدانية على الأسواق والمحلات التجارية، مع إحالة المخالفين إلى النيابات المختصة لتطبيق العقوبات القانونية.

كما يؤكد الأشول سعي الوزارة لتعزيز المنظومة الرقابية عبر إعادة تفعيل جمعية حماية المستهلك والعمل على إنشاء جهاز خاص لحماية المستهلك.

ويبرر عدم انخفاض الأسعار بشكل كامل رغم تحسن العملة، بوجود مخزون سابق لدى بعض التجار، وتوجسهم من عدم استقرار سعر العملة، لكنه يتوقع انخفاضا أكبر مع بدء عمل اللجنة الوطنية لتمويل الواردات، وتنفيذ البنك المركزي للإصلاحات النقدية والمصرفية.

كما يوضح أن الوزارة تتعاون بشكل وثيق مع جهات أخرى، كالبنك المركزي والنيابة والقضاء والغرف التجارية والسلطات المحلية والأجهزة الأمنية، لضبط الأسواق وحماية المستهلك.

أزمة في الأسواق

يربط الصحفي والمحلل الاقتصادي وفيق صالح تحسن قيمة العملة الوطنية بالإجراءات التنظيمية والإدارية التي اتخذها البنك المركزي اليمني، ومنها إعادة ضبط سوق الصرف المحلي، وتنظيم الطلب على النقد الأجنبي من خلال لجنة الاستيراد، والحد من المضاربة في السوق السوداء، إضافة إلى المناخ السياسي الداعم من المجلس الرئاسي والحكومة الشرعية، والموقف الدولي المؤيد لهذه السياسات، مما أسهم في استعادة جزء من الاستقرار النقدي والمصرفي.

يشير صالح في حديثه ل”نون بوست ” إلى أن الظروف الدولية ساعدت على نجاح هذه الإجراءات، خصوصًا مع انتقال المراكز المالية وإدارة العمليات للبنوك التجارية إلى العاصمة المؤقتة عدن، وعقد اجتماعات بين البنك المركزي والبنوك اليمنية ووزارة الخزانة الأمريكية في الرياض أواخر يوليو، التي ناقشت امتثال المنظومة المصرفية اليمنية للقوانين الدولية الخاصة بمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، في أعقاب تصنيف جماعة الحوثي منظمة إرهابية.

ويعتبر صالح أن هذه الخطوة مثلت نقطة تحول مهمة في مسار السياسة النقدية. لكنه يعبر عن أسفه لعدم انعكاس تحسن قيمة العملة على أسعار السلع الأساسية، حيث ما تزال الأسعار عند مستوياتها السابقة، ولم تتجاوز نسبة الانخفاض في بعض الأصناف 20%، رغم تعافي العملة بأكثر من 46%.

ويرجع السبب إلى ما يعرف بـ”احتكار القلة” والممارسات الاحتكارية لبعض التجار، إلى جانب ضعف الرقابة الحكومية على الأسواق، ما يمنح التجار فرصة للاستمرار في البيع بالأسعار القديمة دون رادع.

ويختم صالح تحليله بالتأكيد على أن هذا السلوك يعكس غياب الحس بالمسؤولية الاجتماعية وعدم الالتزام بالأمانة التجارية، حيث يتم استغلال الأوضاع الاقتصادية الصعبة للمواطنين وفرض هوامش ربح غير مبررة، الأمر الذي يفاقم المعاناة ويؤثر سلبًا على الاقتصاد الوطني ككل.

إصلاحات إقتصادية ونقدية

شهدت مناطق الحكومة الشرعية خطوات إصلاحية مهمة على صعيد السياسة النقدية والاقتصادية، حيث قاد البنك المركزي اليمني في عدن، بدعم محلي ودولي، مجموعة من الإجراءات التي تهدف إلى استقرار العملة الوطنية وتحسين الوضع الاقتصادي، تضمنت هذه الإجراءات إعادة تنظيم سوق الصرف، وضبط الطلب على النقد الأجنبي من خلال لجنة استيراد منظمة، والحد من المضاربة في السوق السوداء التي كانت السبب الرئيسي لتقلبات العملة.

على الجانب الحكومي، تبنت وزارة الصناعة والتجارة حملات ميدانية مكثفة لتعزيز الرقابة على الأسواق وحماية المستهلك، عبر تفعيل جمعيات حماية المستهلك وإحالة المخالفين إلى الجهات القضائية، بهدف كسر حلقات الاحتكار ورفع شفافية الأسعار.

ورغم هذه الإصلاحات والإجراءات الحكومية، لا يزال الواقع على الأرض يعكس تحديات كبيرة في ضبط الأسواق وتحقيق الاستقرار في أسعار السلع، حيث يواجه المواطنون ارتفاعاً مستمراً للأسعار لا يتناسب مع تحسن سعر صرف الريال.

وفي هذا السياق، أوضح رئيس جمعية حماية المستهلك عمر الحميري، في حديثه لـ”نون بوست”  أن استمرار ارتفاع أسعار السلع والبضائع والخدمات، رغم تحسن سعر صرف الريال، يعود إلى عدة عوامل رئيسية ابرزها هو عدم استجابة كبار التجار والمصنعين لتخفيض الأسعار بما يتناسب مع نسبة تعافي العملة الوطنية، حيث كانت التخفيضات التي أُعلنت أقل من نسبة التحسن الفعلي في سعر الصرف.

وبيّن الحميري أن ضعف الرقابة على الأسواق، بسبب قلة الموارد وكثرة المهام الموكلة للجان الرقابية، بالإضافة إلى توقف عمل مكاتب الصناعة والتجارة واللجان المختصة في بعض المحافظات، أدى إلى تفشي مخالفات التسعير والغش التجاري والبيع بالعملة الأجنبية، مما ساهم في بقاء الأسعار مرتفعة.

وأشار إلى أن تكليف السلطات المحلية في المديريات بمهام الضبط بدلاً من مكاتب الصناعة والتجارة يمثل مخالفة قانونية، حيث أن صلاحية تحرير محاضر الضبط القضائي محصورة بأشخاص معينين بقرار من وزير الصناعة، وغياب هؤلاء يعوق تطبيق العقوبات القانونية على المخالفين.

وأكد الحميري إلى أن عمل الجمعية قائم على أساس تطوعي وأهلي، يخضع لقوانين حماية المستهلك والجمعيات الأهلية، وهدفه تنسيق الجهود، ورفع البلاغات، وتوعية المستهلكين بحقوقهم، مع التنبيه إلى الجوانب المغفلة وتحذير المجتمع من الأنشطة التجارية المخالفة والمشبوهة.