ماذا وراء المشروع الإماراتي لإمداد غزة بالمياه؟

في ذروة حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، وبينما تتراجع حصة الفرد من المياه يوميًا إلى مستويات غير مسبوقة، برز مشروع جديد بمبادرة وتمويل إماراتي، وضوء أخضر إسرائيلي، ومياه مصرية، حاملاً وعودًا بحل جزئي للأزمة، ليبدو في ظاهره مبادرة إنسانية، لكنه سرعان ما أثار تساؤلات سياسية واسعة.

يأتي المشروع ضمن مبادرة إماراتية أوسع أطلقت عليها اسم عملية “الفارس الشهم 3″، ويُسوَّق على أنه عمل إغاثي يهدف لتخفيف معاناة مئات الآلاف من النازحين، لكنه في الوقت نفسه أثار مخاوف الفلسطينيين المتعطشين أنفسهم، وفتح الباب أمام الكثير من علامات الاستفهام حول ما إذا كان يخفي أبعاد سياسية وديموغرافية تتجاوز البعد الإنساني المعلن.

الشيطان يكمن في التفاصيل

في منتصف يوليو/ تموز 2025، أُعلن عن مشروع إماراتي يقوم على مدّ خط مياه بطول 7 كيلومترات، ويعد بضخ 10 آلاف متر مكعب من المياه المحلاة يوميًا من محطة تحلية أنشأتها الإمارات في الجانب المصري في ديسمبر/ كانون الأول 2023، على بعد 500 متر من الحدود مع غزة، لخدمة 1.4 مواطن في غزة. 

هذه المياه ستتجه مباشرة إلى منطقة “المواصي” الساحلية جنوب القطاع، التي تتوسع فيها المخيمات وتزداد الكثافة السكانية، حيث يتكدس فيها مئات الآلاف من النازحين، بعيدًا عن شبكات المياه القادمة من “إسرائيل”.

فنيًا، يستهدف خط المياه الجديد – الذي سيربط المحطة الإماراتية بمناطق النزوح في خان يونس ورفح – معالجة النقص الحاد في المياه بالقطاع وضخها للمناطق الأكثر تضررًا بعد إعادة تشغيل محطة التحلية التي كانت قد توقفت عن العمل في مايو/ أيار 2024 بسبب العمليات العسكرية في رفح. 

بحسب الخطط المعلنة، سيضمن المشروع أن يتجاوز نصيب الفرد 20 لترًا من المياه يوميًا، وهي الكمية التي توصي بها المعايير الدولية في حالات الطوارئ. ومع ذلك، لم تُكشف تفاصيل عن موعد التشغيل الفعلي أو التكلفة الإجمالية، بينما تعهدت الإمارات بتحمل تكلفة تمويل وتشغيل المشروع بالكامل. 

وفي أواخر يوليو/ تموز، كشفت “إسرائيل” عن بدء تنفيذ مشروع أنبوب مياه من مصر إلى قطاع غزة بموافقتها الكاملة، واصفة تلك الخطوة في مفارقة مثيرة للاشمئزاز “بالاستجابة الإنسانية التي تهدف إلى تحسين ظروف المعيشة في قطاع غزة”، على الرغم من مسؤوليتها المباشرة عن الوضع الإنساني الكارثي في غزة.  

وتتجاوز موافقة “إسرائيل” على هذه المبادرة البُعد الإنساني إلى السياسي، في محاولة لتخفيف الضغوط الدولية عليها، وتجنب العقوبات المحتملة، وتلميع صورتها الخارجية، وفي حال فشل المشروع، فإنها لن تتحمل المسؤولية المباشرة عن أزمة المياه، مما يعد التفافًا على التزاماتها بموجب القانون الدولي. 

لكن ما يلفت الانتباه هو أن التنفيذ يجري بمراقبة إسرائيلية وتحت إشراف أمني مشدد، ما يجعل المشروع أداة محتملة للتحكم في تدفق المياه أو قطعها، وربما استخدام البيانات اللوجستية لمراقبة حركة السكان والوصول إلى الخدمات.

هذه السيطرة تجعل من الماء أداة أمنية، لا مجرد خدمة إنسانية، وتعزز المخاوف من عدم اقتصار المشروع على الإغاثة الإنسانية، بل خدمة ترتيبات ديموغرافية أوسع، ربما تمهّد لإعادة رسم حدود مناطق التواجد الفلسطيني أو فرض واقع تهجير قسري داخلي.

ولطالما سعت “إسرائيل”  منذ سنوات إلى تفتيت السيطرة الفلسطينية الكاملة على القطاع من خلال مشاريع تبدو إنسانية مثل مد المياه أو إنشاء مناطق آمنة مؤقتة، والتي قد تتحول مع الوقت إلى واقع جغرافي جديد، مما يشكل هندسة ديموغرافية غير معلنة. ويخدم المشروع الحالي هذا النهج عبر تركيز الإمدادات في منطقة واحدة وإضعاف مبررات العودة إلى شمال أو وسط القطاع المدمرَين. 

ورغم تكشف تلك الحقائق الميدانية (وجود خط وأنابيب وموافقة إسرائيلية على تشغيله عبر حدود محصّنة)، التزمت القاهرة الصمت رسميًا حول مشاركتها في المشروع، لكن هذا لا ينفي تنسيقها مع الجانبين الإسرائيلي والإماراتي، وبدلاً من ذلك، أوكلت المهمة مؤخرًا لوسائل إعلامها للتبرير والتلميع، وظهر على شاشاتها مسؤولون إماراتيون روَّجوا لما وصفوه بالدور الإنساني الذي تقوم به الإمارات في غزة، مشيرين إلى خط تحلية المياه كجزء من هذه الجهود الإغاثية الرامية لتخفيف معاناة السكان.

مشروع في خدمة خطط الاحتلال

يأتي الإعلان عن المشروع في ظل أزمة مياه غير مسبوقة تعصف بغزة منذ اندلاع الحرب في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حيث لا يكتفي الاحتلال بالقصف والتجويع، بل يشن حربًا أشد وحشية، ويحظر فعليًا الوصول إلى المياه، ويستخدمها كسلاح في الحرب من خلال إيقاف الكهرباء ومنع دخول الوقود حتى أصبحت كالسراب، تتلاشى شيئًا فشيئًا مع استمرار الحرب.

وتفيد تقارير سلطة المياه الفلسطينية بأن 85% من شبكات المياه والصرف الصحي في القطاع تعرضت للتدمير أو لأضرار جسيمة، وانخفضت كميات المياه المتاحة بنحو 80%، ما أدى إلى تراجع حصة الفرد اليومية بنسبة كارثية بلغت 97%، لتتراوح حاليًا بين 3 و5 لترات فقط، وهي كمية تقل كثيرًا عن الحد الأدنى الذي توصي به المعايير الدولية في حالات الطوارئ.

من هذه الزاوية، تبرز الحاجة الملحَّة لمثل هذه المشاريع التي يُفترض أن توفر فرصة فورية لإنقاذ حياة عشرات الآلاف من خطر العطش، وتخفف الضغط على المناطق المكتظة بالنازحين في جنوب القطاع، ومع ذلك، لم تقتصر التساؤلات على مدى تحقيق المشروع لأهدافه الإنسانية المعلنة، بل امتدت لتشمل احتمالية وجود أبعاد سياسية وديمغرافية تتجاوز مجرد الإغاثة. 

هذه التساؤلات تزايدت بشكل خاص بعدما تبيَّن مدى تطابق توقيت الإعلان عن المشروع مع خطط إسرائيلية لإعادة توزيع السكان، فقبل أسابيع قليلة، أعلنت تل أبيب عن خططها لحصر نحو مليوني فلسطيني على 3 مناطق رئيسية، بينها “المواصي” نفسها  التي يستهدفها المشروع. 

كما يطرح الربط بين محطة تحلية أُنشئت أواخر 2023 في الجانب المصري، وتوقف تشغيلها في مايو/ أيار 2024، ثم إعادة إحيائها بعد أكثر من عام عبر هذا الخط الجديد، تساؤلات حول سبب اختيار هذا التوقيت بالذات، وعن مدى توافقه مع مصالح الأطراف المختلفة، في حين يضع التطابق الزمني المشروع في إطار أكبر من مجرد معالجة ندرة المياه، ويثير الشكوك حول الدوافع الحقيقية للمشروع وطبيعته. 

أمَّا المكان فقد كان أكثر دلالة على تسييس المشروع أكثر من أنسنته، فقد أعلنت أبوظبي أن خط المياه سيمتد من الحدود المصرية إلى منتصف خان يونس على الشريط الساحلي، حيث يتواجد أكبر تجمع للنازحين من رفح وخان يونس، وهي ذات المنطقة التي أعلن الاحتلال إقامة مدينته الإنسانية المزعومة فيها.

المواصي منطقة ساحلية مفتوحة نسبيًا، يسهل عزلها أمنيًا ومراقبتها، وقريبة من الحدود المصرية حيث توجد محطة التحلية، كما أن تركيز الإمدادات فيها الآن يخدم هدفين محتملين: تلبية حاجة إنسانية عاجلة، وتهيئة الأرضية لمخطط تهجير قسري يتوافق مع الرؤية الإسرائيلية.

اختيار هذه المنطقة بالذات، حيث يتكدس النازحون، وتزويدها بمصدر مياه مستقر، جعل المشروع في نظر كثيرين جزءًا من إعادة رسم الخريطة السكانية في القطاع، وقد يسهّل تثبيت تجمعات سكانية محددة تتوافق مع أهداف خطط الاحتلال، ويمنح “إسرائيل” ذريعة لاعتبارها “مناطق دائمة” للعيش، بدل السماح بعودة السكان إلى مناطقهم المدمرة.

كما أعلنت أبوظبي أن المشروع يهدف لخدمة نحو 600 ألف شخص من سكان غزة، وهو نفس العدد الذي يزعم الاحتلال أن تشملهم خطته التي تنص على نقل هؤلاء إلى المناطق الجنوبية من القطاع بعد تهجيرهم من مناطق أخرى وإخضاعهم لفحوصات أمنية، ومنعهم من مغادرة المنطقة، وفرض قيود مشددة على حركتهم، ما دفع بعض المنظمات الحقوقية إلى تشبيهها بـ”معسكرات الاعتقال النازية”. 

هذا يعني أن المشروع يمهد الطريق لإنشاء مدينة الاحتلال المزعومة في غزة، ويتقاطع بشكل واضح مع خططه المعلنة، فوجود مصدر مياه مستقر في هذه المنطقة يجعلها أكثر قابلية للاستيطان الدائم، وبالتالي يخدم فكرة حصر مجموعات بشرية في نطاق جغرافي محدد.

هذا السيناريو المحتمل قد يساهم في فرض ترتيبات ديموغرافية جديدة تخدم أهداف الاحتلال على المدى الطويل، حيث يجعل المشروع البقاء في المواصي ممكنًا لفترات طويلة، ومع سياسات إدارية أو أمنية صارمة تمنع خروج السكان أو عودتهم إلى مناطقهم الأصلية، يتحول التوطين المؤقت إلى دائم.

بعبارة أخرى، بينما تُقدِّم الإمارات المشروع كخطوة لإنقاذ الأرواح عبر توفير المياه، فإن تنفيذه في هذا التوقيت وفي هذا الموقع بالتحديد، وتحت إشراف أمني إسرائيلي، قد يعني أنه يساهم – بشكل مباشر أو غير مباشر – في تهيئة البنية التحتية اللازمة لخطة الاحتلال لإنشاء “مدينته المزعومة” جنوب غزة.

الإمارات من الإغاثة إلى السياسية

يُنظر إلى المشروع على أنه يعزز دور الإمارات كلاعب إقليمي، خاصةً في ظل تساؤلات حول علاقتها الوثيقة بـ”إسرائيل” منذ تطبيعها المبكر معها، ومحادثاتها مع واشنطن وتل أبيب سعيًا للعب دور محتمل في إدارة وإعادة إعمار غزة بعد الحرب.

ورغم أن المشروع يعكس خبرة الإمارات في العمل الإنساني، إلا أن سجلها الدبلوماسي والعملي في السنوات الأخيرة، يكشف أنها ليست فقط مانحًا إنسانيًا بل طرف يسعى لتأثير سياسي وتنفيذي في المشهد الفلسطيني، وهو ما يضع مشروع المواصي في إطار أوسع من مجرد الإغاثة. 

ولعل وجودها كممول ومشغّل مشروع بنية تحتية أساسية في غزة يجعلها لاعبًا يمكنه استثمار ذلك لإحداث تأثير جيوسياسي على الأرض، ويمنحها ورقة ضغط سياسي يمكن استخدامها – عبر قطع أو تعديل الإمدادات – في مفاوضات أمنية أو سياسية على مستقبل الحكم والإعمار بالقطاع بين الفاعلين الإقليميين والدوليين. 

في مثل هذه الظروف، يتحول الماء – باعتباره موردًا إنسانيًا أساسيًا – إلى أداة ضمن ترتيبات سياسية وأمنية أوسع. فمن يملك القدرة على توفيره يمكنه جذب المستفيدين إلى مناطق محددة، مما يمنح الأجهزة الأمنية والسلطات فرصة لتنظيم الحركة، وتوزيع الخدمات، وترسيخ “مناطق تجمع” يصعب على سكانها أو أصحاب الأرض التخلي عنها لاحقًا.

هذه الآلية ليست جديدة في مناطق النزاع،فمن يحكم تدفق الخدمات الأساسية لديه قدرة فعلية على تشكيل الخريطة السكانية. وفي حالة “المواصي”، فإن ضمان تدفق المياه بشكل منتظم قد يشجع السكان على الاستقرار الدائم في المنطقة، بما ينسجم مع فكرة “التوطين الداخلي” داخل نطاقات محددة تخضع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية.

وثمة الكثير من الأسباب التي تجعل الدور الإماراتي “مشبوهًا” في نظر كثيرين، فمنذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، تبنت الإمارات رواية الاحتلال، واليوم تعود لتلعب دورًا جديدًا في دعم خطته تحت لافتة العمل الإنساني، وتقدم دعمًا لوجيستسًا في إنشاء مدينته الإنسانية المزعومة.

وتتسم سياسات أبوظبي بغياب الشفافية والازدواجية في التصريحات والأهداف، فبينما تُسوق للمبادرة كعمل إنساني، تمد يدها للاحتلال عبر اتصالات سياسية رفيعة ومستمرّة مع حول إدارة غزة، غير عابئة بسجل اتهامات حقوقية توثق عمليات تهجير قسري ومخططات تغيير ديموغرافي، ما يجعل نواياها محل تشكك، وهو ما يثبته سجل تدخلاتها في ملفات عربية ضمن ترتيبات أمنية وسياسية مثيرة للجدل.

كما أن عدم الإفصاح الكامل عن اتفاقيات التشغيل وبنود الاتفاق والضمانات القانونية لحماية حقوق السكان في السكن والتنقل ومحددات الإشراف الأمني، يفتح الباب على مصراعيه لاحتمالات سوء الاستخدام، ويضرب في قلب التوجسات التاريخية لدى الفلسطينيين المرتبطة بأي مشروع بنيوي يُنفّذ ضمن سياسات أمنية مشددة، خاصة بعد أحداث سابقة أثَّرت سلبًا على البيئة والإنسان في غزة. 

هكذا، يقف المشروع عند مفترق طرق بين البعد الإغاثي والاعتبارات السياسية، أي بين إنقاذ مئات الآلاف من العطش، والمخاوف من أن يتحول إلى أداة ضمن ترتيبات أوسع قد تغيّر وجه غزة ومستقبلها. فبالنسبة لسكان “المواصي”، قد يعني أن تأمين مصدر ماء في الغد القريب، أمَّا بالنسبة للسياسيين والمراقبين، فهو خيط جديد في شبكة معقدة من المصالح التي ترسم ملامح غزة ما بعد الحرب.

وفي استمرار تفاقم أزمة المياه كإحدى أخطر الأزمات الإنسانية التي يعاني منها سكان غزة، قد يبدو المشروع منقذًا على المدى القصير، لكن على المدى البعيد، من دون ضمانات سياسية وحقوقية واضحة، قد يتحول إلى أداة لفرض واقع جديد يخدم أهدافًا أمنية وجيوسياسية أكثر من خدمته لحق الفلسطينيين في البقاء على أرضهم بحريَّة.